ساعات تفصلنا عن توجّه أكثر من 60 مليون ناخب تركي إلى 192 ألف صندوق اقتراع للإدلاء بأصواتهم في 81 ولاية تركية، وسط اصطفافات انتخابية حادّة، تثير في الشارع التركي حالة من الغليان والترقّب، جعلت وزارة الداخلية تعلن يوم الإثنين عطلة رسمية، الأمر الذي لم يكن يحدث في الانتخابات السابقة!
فما الذي يميّز هذه الانتخابات عن غيرها، وما الذي جعل الغرب عموماً، وأوروبا وأمريكا بشكل خاصّ، يتعاملون مع هذه الانتخابات إلى الدرجة التي جعلت صحيفة The Economist البريطانية تصفها بأنها أهم انتخابات يشهدها العالم هذا العام؟ مع الانحياز الواضح من دوائر القرار السياسي الغربي ووسائل إعلامه إلى المعارضة التركية، بل وإظهار حقدها على الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان إلى درجة وصفه بالحاكم الفرد المستبد، والطاغية الديكتاتور الذي يحلم باستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، وإلغاء الانتخابات وتنصيب نفسه سلطاناً مدى الحياة، كما نقل الكاتب البريطاني ديفيد هيرست.
لا شك بأن السبب في هذا العداء الظاهر لأردوغان يعود إلى سعيه الواضح لاستقلال القرار التركي، وسلوكه العدائي تجاه نزعة التّحكم التي تنتهجها أمريكا، وتتعامل بها أوروبا مع دول المنطقة، فقد استطاع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال عقدين من الزمان أن يُحكِم قبضته على القرار التركي، ويخرج تركيا من ذلّ التبعية للغرب في السياسة والاقتصاد، بعد أن فكّك بنية الدولة العميقة، ووضع حداً لوصاية العسكر على الحياة السياسية، وطهّر القضاء من طبقة التجار التي كانت تتحكم بأقواس محاكمه، وانتقل في العلاقة مع البنك الدولي من دولة مدينة إلى دولة دائنة، ما فتح الباب أمام تركيا جديدة، تعطي الأولوية لتأمين حدودها الجنوبية، وحماية مصالحها الوطنية، ومعالجة مشكلاتها الاقتصادية، وتطوير علاقاتها الدولية، والوصول إلى مرحلة يصرّح فيها الرئيس التركي بأن "العالم أكبر من خمسة"، كتعبير عن طموحاته في مقارعة الكبار، حين يشير إلى أن العالم أكبر من أن تتحكّم بمقدرات دوله وشعوبه ومجتمعاته خمس دول هي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن.
فما الذي ينتظر تركيا مساء غدٍ الأحد 14 مايو؟ هل ستحافظ على موقعها المتمايز وهي تعالج مشكلاتها وتبني اقتصادها، وتحقق الإنجازات في الصناعات الدفاعية والإنجازات العلمية، وإقامة المنشآت العملاقة والبنى التحتية، وتوسيع دائرة سطوتها العسكرية، ونفوذها السياسي وتأثيرها الدبلوماسي؟
لا يستطيع أحدٌ التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المرتقبة، في ظلّ تباين استطلاعات الرأي، وتداخل المؤثرات الداخلية والخارجية على مزاج الناخب التركي الذي يوجهه العامل الاقتصادي وغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار من جهة، مع تخوّفه من خسارة حالة الأمان والاستقرار التي يعيشها في ظلّ حكم حزب العدالة والتنمية من جهة ثانية.
فهو إن سمح للمعارضة بالوصول إلى الحكم مدعومة من حزب الشعوب الديمقراطية المتماهي مع حزب العمال الكردي بتاريخه الدموي وحاضره الإرهابي، خاطر بأمانه الاجتماعي ومستقبله الحياتي مع كليجدار أوغلو وبرنامجه الضبابي ووعوده الأسطورية بالعيش الرغيد! وإن قرّر تحمّل عبء التضخم الاقتصادي وغلاء أسعار السلع، فرّط بفرصة التغيير بعدما أرهقته السياسات الداخلية، والحروب الخارجية التي كانت على حساب لقمة عيشه أبنائه وأمانهم الاقتصادي؟!
تبالغ القراءات المتباينة للمشهد التركي فيما ستؤول إليه الأمور بعد الانتخابات، لكن ما يمكن أن نجزم به هو أنه أياً كانت خيارات الناخب التركي ونتيجة الانتخابات فإنّ تركيا جديدة تولد، هي مزيج بين العثمانية الإسلامية والكمالية العلمانية، ولن تتبدّل الصورة كثيراً بوصول أردوغان أو سقوطه، وفوز كليجدار أو خسارته، اللهم إلا طغيان الصبغة الكمالية على العثمانية أو العكس، مع اختلاف الأولويات بين الداخل الاقتصادي والدور الإقليمي، ومفهوم الحرية بين الإطلاق الغربي الذي يجتاح الحدود، والتقييد المحافظ الذي تضبطه القيود. ومن المؤكّد أنّ ما أرساه أردوغان من طابع سيادي للقرار التركي لن يتغير، وقد فرضت تركيا نفسها كدولة محورية تحقق توازناً إقليمياً، ويحسب لها الناتو والغرب ألف حساب، سواء رفعت الفيتو عن انضمام السويد إلى الحلف أم عدّلت في قرارها، وسواء مضت في تعزيز التحالف والتعاون والتكامل بين الدول المنضوية تحت مظلة "منظمة الدول التركية" أم عزّزت هواجس فرنسا ممّا تصفه بالأممية الإسلامية، هي مسألة نسبية إذن، فحزب الشعب الجمهوري الكمالي العلماني قرّر الخروج عن جموده وتفرّده، وتحالَفَ مع المحافظين، ورفع شعارات حرية المعتقد، وديمقراطية التعبير، ومدنية الحكم، والانفتاح على الغرب دون التخلي عن القضايا التي تلامس نبض الشعب التركي، كما أنّ رجب طيب أردوغان ومن ورائه حزب العدالة والتنمية خفّف من حدّة خطابه الراديكالي الإسلامي، ليصبح أكثر براغماتية وميلاً في محافظته إلى يمين الوسط، وبات تركيزه على الدور المحوري لتركيا، كدولة عظمى، لها تأثيرها في سياسات المنطقة، أكبر من حرصه الأيديولوجيا والقيم في الحكم وموجّهات القرار وبناء العلاقات الدولية.
عمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر السنوات الماضية على الاستثمار في موقع تركيا الجيوستراتيجي لانتزاع سيادة قرارها الوطني في السياسة والأمن والاقتصاد، متسلحاً بإرادة اعتزاز يحدوها تاريخ من الأنفة والسلطان، ويقوّي من حضورها تقدّم تقني، وإنجازات أمنية، ونجاح دبلوماسي، وحضور دولي، دون أن يتمكن من كبح جماح التضخم المالي الذي فاقم الأزمات الاقتصادية رغم تغييره ثلاثة محافظين للبنك المركزي خلال سنوات قليلة!
فهل يغفر الشعب التركي لرئيسه فشله في تحقيق الرفاه الاجتماعي، مقابل توفير الأمان الحياتي وعزة الانتماء القومي والكرامة الوطنية؟ هذا ما يقرره الشعب التركي وحده، رغم تدخلات الشرق والغرب في توجيه رأيه والتأثير في خياراته.
لقد كان النظام الرئاسي الذي اختاره الشعب التركي في استفتاء شعبي عام 2018 بناء لرغبة أردوغان مغامرة خطيرة، سيتجرع مرارتها الشعب التركي في قابل الأيام، سواء ظلّ أردوغان في الحكم أم أزاحته المعارضة عن كرسيه، وعلينا الاعتراف أن أياً من المرشحين الكبيرين: كليجدار أوغلو ورجب طيب أردوغان لم يستطع حسم المعركة، رغم غزارة وعود الأول الوردية بالالتفات إلى الشأن الداخلي وتحسين وضع الاقتصاد ومستوى عيش الناس، والانفتاح على أوروبا، وإعادة اللاجئين إلى بلدانهم، وصولاً إلى تأمين البيوت المجانية للمواطنين، والطعام الطازج للقطط والزهور والحشرات! وإعلان أردوغان المرّة بعد المرّة أنّ كبوة الاقتصاد لن تدوم، والغاز المستخرج من بحر إيجة والبحر الأسود سيعالج الأزمات المعيشية، وما الوعد بتزويد البيوت بالغاز مجاناً لمدة سنة كاملة، وزيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 55% بدءاً من يوليو المقبل، وتوظيف 45000 معلم و10.000 موظف في الولايات التي نكبها الزلزال، إلا غيض من فيض الوعود الانتخابية التي رسمت صورة مشرقة لتركيا.
بناءً على كلّ ذلك يمكننا الجزم بأنه لن يُحسم خيار الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، مع تزايد فرص كليجدار أوغلو نتيجة دعم تحالف "العمل والحرية" الذي يضم إضافة إلى حزب "الشعوب الديمقراطي"، أحزاب "العمال التركي TİP"، و"العمل EMEP"، و"الحرية الاجتماعية TOP"، و"الحركة العمالية EHP"، و"اتحاد المجالس الاشتراكية"، وترجيح تجيير كثير من أصوات حزب البلد بعد انسحاب رئيسه محرم إنجه من السباق الرئاسي.
وتبقى فرص الرئيس الحالي حاضرة مع مراهنته على اختراق المحافظين من أحزاب المستقبل والسعادة والديمقراطية والتقدم، ونقمة جمهور محدود من حزب الجيد على خيار التحالف "الضمني" مع الأكراد، وهي الفرصة التي تتعزز أكثر إذا خضعت الرئاسة لدورة ثانية، كما هو مرجّح.
يمكن تنزيل ما سبق على الانتخابات الرئاسية، أما الانتخابات البرلمانية فما زالت فرص أحزاب المعارضة أكبر وأقوى، خاصة مع لجوء تحالف الأمة إلى دخول الانتخابات بقائمتين اثنتين، هما قائمة حزب الجيد وقائمة حزب الشعب الجمهوري التي تضم 71 مرشحاً لأحزاب المعارضة الأربعة في الطاولة السداسية، يخوضون الانتخابات بشعارات حزب الشعب، طلباً للفوز ضمن القائمة الموحدة المشتركة، بعد أن أقرّ النظام الانتخابي الجديد 2023 احتساب أصوات القوائم الموحدة لا الأحزاب، وهو الأمر الذي اعتمده أردوغان ظناً منه أن ذلك يكسبه قريباً من 25 مقعداً إضافياً، ويصبّ في صالح تحالفه مع الحزب القومي، لولا أنه فوجئ برفض دولت بهشلي القوائم المشتركة حرصاً منه على تمايز طرحه الحزبي وهويته الخاصة، وهو الأمر الذي حرص عليه حزب الرفاه الجديد ورئيسه فاتح أربكان الذي قرر خوض الانتخابات بقوائمه الخاصة. الأمر الذي يفقد تحالف الجمهور فرصة جمع الأصوات في قائمة واحدة بدلاً من تشتّتها بين الأحزاب المتعددة.
تركيا أمام مفترق، نعم، والساعات القادمة هي التي تحسم هذا المستقبل الذي لن يكون مرعباً، فعجلة التقدم التقني والتطور الديمقراطي والنمو الاقتصادي وسيادة القرار الوطني لن تتوقف وإن أخذت أشكالاً متعددة، وسيبقى رجب طيب أردوغان حاضراً في المشهد التركي أينما كان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.