أردوغان وصورة السلطان المستبدّ!

عربي بوست
تم النشر: 2023/05/12 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/05/12 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان/ shutter stock

قبل الانتخابات التركيّة الحاسمة 2023 بأيام قليلة شنّت مجموعة من الصُّحف والمجلّات الغربية هجمة كبيرة على الرئيس التركي، وهي هجمة معتادة من الصحف الغربية، التي وبطبيعة الحال تصدر عن وجهة نظر وتصوُّر غربي للعالم، وبالتالي فإنّ المنظور والتحليل الغربي يضع في نظره القلق الكبير واحتماليات الخطر الذي يتعرّض له بوجود تركيا مستقلة في قرارها السياسي، وليست محسوبة على الغرب بشكلٍ كامل كما كانت في فترات سابقة.

لست هنا بصدد تحليل سياسي للانتخابات، ولا مناقشة الأسباب الكامنة وراء التحليلات الغربية المنحازة وغير المهنيّة، وهو أمرٌ متكرر عموماً بخصوص الرئيس التركي.

قبل أيام صدرت مجلّة الإيكونوميست البريطانية بغلافٍ واضح وعبارة صريحة: "يحب أن يرحل أردوغان". وبعدها بيومين صدرت مجلة دير شبيغل بغلافٍ عليه صورة أردوغان يجلس على "عرش" عليه هلال مكسور ومُهشّم، وكان المانشيت على الغلاف يقول: أردوغان، الفوضى أو الانقسام.. في حال الخسارة. إلى جانب العديد من مانشيتات الصحف والمجلات الغربية ذات الموقف الواضح من هذا الرجل الذي من الواضح أنّه ضايق أوروبا كثيراً. 

أردوغان

ودائماً ما يتمّ تصوير أردوغان باعتباره "سلطاناً مستبداً" يريد إعادة أمجاد الدولة العثمانية كما ذكر مقال منشور في مجلة Le Point الفرنسية. والدلالة الوحيدة التي تأتي مع كلمة "سلطان" في هذا السياق هي "الاستبداد". فمثلاً في عام 2013 أصدرت الإيكونوميست غلافها أيضاً بعنوان "سلطان أم ديمقراطي؟".

وأياً كان الموقف السياسيّ من أردوغان فإنّ "صورة السلطان المستبدّ" في الصحافة الغربية دوماً ما تكون دلالتها مباشرةً مرادفةً للاستبداد والعنف دون نقاش، ضمن مجموعة تصوُّرات استشراقية استعمارية أخرى تمّ بناؤها خصيصاً للتاريخ الإسلامي، وربما بشكل أكثر تخصيصاً للعثمانيين، باعتبارهم أكثر الدول الإسلامية احتكاكاً بأوروبا بهذا الشكل.

فمن أين جاءت هذه الصورة الذهنيّة ذات دلالة الاستبداد السلطاني؟

خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، صارت الدولة العثمانية أقوى دولة في العالم بلا منازع، خصوصاً في فترة حكم السلطان سليمان القانوني. كانت شخصية سليمان محورية في أوروبا، ربما أكثر من محوريتها في العالم الإسلامي. بالنسبة للمسلمين فهو ليس إلا سلطاناً عظيماً ضمن سلسلة سلاطين وخلفاء عظام عبر التاريخ الممتدّ للإسلام، بينما كان سليمان للأوروبيين شيئاً آخر، فقد كان الإعجاب به يتجاوز كلّ التصورات السابقة عن "السلاطين"، فهو الذي عقد مع فرانسوا الأول ملك فرنسا تحالفاً استراتيجياً "ليحميه" من عدوه اللدود شارلكان وإمبراطورية آل هابسبورغ.

إجمالاً، كان العثمانيون منخرطين بشكلٍ كبير في الصراعات المذهبية الدينية بين الإخوة الأعداء في أوروبا. دعم العثمانيون أحياناً البروتستانت، بينما حاول البابا مراراً أن يتحالف معهم في حروبه الدينية، وهكذا يمكن لنا أن نقول دون مبالغة إنّ سليمان القانوني ساهم بشكلٍ ما في رسم وتشكيل أوروبا في القرن السادس عشر، وظلّ أثر ذلك فيما بعده من سنوات.

من أكثر ما هو مثير وذو دلالة، أنّ المسلمين لقبوا السلطان سليمان بـ"القانوني"، بينما لقّبه الأوروبيون بـ"The Magnificent – العظيم". هنا أنقل نصاً صغيراً للمؤرخ الفرنسي جان بودان في القرن السادس عشر: "بينما كان ملك فرنسا يُصارِع أسرة هابسبورغ في النمسا على سيادة أوروبا، أخذ القانوني جانب فرنسا". 

في تلك الفترة تلقّب شارلكان من آل هابسبورغ، وهو عدوّ فرنسا الأوّل، بلقب إمبراطور، وسمّى مملكته "الإمبراطورية الرومانية المقدسة"، وضمن هذا الصراع الأوروبي – المسيحي على لقب الإمبراطور، كتب المؤرخ الفرنسي جان بودان يُشكّك في شرعية اتخاذ آل هابسبورغ لقب الإمبراطور قائلاً:

"إذا كان ثمّة سلطة تستحقّ اسم إمبراطورية، فإنّ السلطان العثماني هو بالتأكيد من يستحقّ هذا اللقب. فهو يحتلُّ أغنى الأراضي في آسيا وإفريقيا وأوروبا، وتمتدُّ ممتلكاته عبر المتوسط. وقدرته العسكرية تتحدّى قوة كل الأمراء الآخرين مجتمعين. لقد غزا الممالك المسيحية والإمبراطورية البيزنطية، وأنهك المقاطعات الألمانية. وسيكون أكثر عدالة بكثير أن نعتبر السلطان العثماني وريث الإمبراطورية الرومانية".

وهكذا، نظر الكثير من الأوروبيين للسلطان سليمان باعتباره الرجل الأقوى في العالم، وبدأ المفكرون والكتّاب الغربيون يمتدحون الدولة العثمانية المتقدّمة في ذلك الوقت. وامتدحوا أنّ الترقِّي فيها حسب "الكفاءة" لا على المحسوبية أو كونك من عائلة نبيلة كما يحدث في عموم الممالك الأوروبيّة.

أردوغان
السلطان سليمان القانوني

في هذا السياق يجب أن نأخذ في الاعتبار أنّ الكثير من الأوروبيين المسيحيين خصوصاً في شرق أوروبا، أسلموا ودخلوا في كنف الدولة العثمانية وترقُّوا في مناصبها حتّى وصل بعضهم إلى منصب الصدر الأعظم، وهو أكبر منصب بعد السلطان. وهكذا كان "كارير" بعض الأوروبيين يتطوّر بسبب دخولهم الدولة العثمانية. وفي تلك الفترة كان يمكن اعتبارها دولة مهاجرين في القرون الوسطى كما هي أمريكا دولة مهاجرين في العصر الحديث!

بل إنّ مكيافيللّي نفسه في تقسيمته لأنواع الدول، اعتبر أنّ للدولة العثمانية "أفضلية" على أغلب الممالك الأوروبيّة، فصحيح أنّه يحكمها سلطان لكن ليس هناك طبقة أرستقراطية ممتدّة من النبلاء تتوارث امتيازاتها عبر عشرات أو مئات السنين. واعتبر أنّ الدولة العثمانيّة تتحلّى بفضائل الإمبراطوريات القديمة العظيمة مثل إمبراطورية روما.

وكان خلو الدولة العثمانية من وجود طبقة النبلاء أحد أبرز "فضائل" الدولة العثمانية التي عدّدها الكثير من المفكرين الأوروبيين في مقابل "مثالب" ممالكهم الأوروبيّة التي لا يحكمها ملك فقط، وإنما يحكمها نبلاء مُترفون يرثونَ امتيازاتهم.

جاءت نقطة التغيُّر في النظرة للدولة العثمانية في بدايات القرن الثامن عشر، فمنذ نهايات القرن السابع عشر كانت الدولة العثمانية قد بدأت تتقهقر، خصوصاً بعد هزيمة فيينا عام 1683. فلأوّل مرّة منذ عقود طويلة اضطرّ العثمانيون للتقهقر، لتسليم أراضٍ كانت تحت سيطرتها لأعدائها الأوروبيين.

وفي تلك الفترة وبسبب رئيسي من الحروب الدينية نشط المفكرون الأوروبيون وتطورت وتبلورت أفكارهم عن الأنظمة السياسية الأوروبية الجديدة الذي يجب أن تُبنَى على أنقاض الأنظمة القديمة. وهكذا توازى ضعف الدولة العثمانية مع تقدُّم وتطوّر أفكار المفكرين الأوروبيين التي أصبحت أكثر وضوحاً وتبلوراً بخصوص نظام حكم لا يحكمه شخصٌ واحد إلى جانب طبقة النبلاء.

لكنّ النظام الملكي القديم في أوروبا ما زال قائماً، ولا يمكن انتقاده بشكلٍ مباشر. فما الحيلة؟

الحيلة كانت بانتقاد الدولة العثمانية باعتبارها "دولة متخلفة" تنتمي لنظام الحكم القديم. وهكذا، أصبح انتقاد الدولة العثمانية طريقةً غير مباشرة للمفكرين الأوروبيين لانتقاد النظام القائم في بلادهم.

من هنا نشأ مصطلح "الاستبداد الشرقي" الذي تمثّله الدولة العثمانية في مقابل "النموذج العقلاني الأخلاقي" الذي تمثله أوروبا، أو لنكون أكثر دقة: الذي تمثله أفكار المفكرين الأوروبيين حول النظام السياسي الذي يجب أن يؤسِّسوه في بلادهم. وهكذا، كان هذا الاتهام للسلطان العثماني جسراً لانتقاد الأنظمة الملكية التي حكمت أوروبا منذ قرون بالحديد والنار.

وأصبحت هذه هي الصورة الذهنيّة التي تأتي بها كلمة السلطان وخصوصاً منها "السلطان العثماني" الذي "أرعب أوروبا" ذات يوم، فانبهروا به وقدّسوه واعتبروه "إمبراطور العالم".

ما زالت هذه الصورة مستمرّة، يمكن التقاطها في خطاب العديد من المؤسسات الإعلامية الغربية، وكذلك في بعض الدوائر السياسية. من ناحية صحيح أنّ أردوغان لو فاز في الانتخابات فسيكون قد حكم تركيا طيلة 20 عاماً مضت و5 سنوات جديدة بعد الفوز، لكنّه أيضاً سيكون فائزاً برغبة شعبية عبر انتخابات نزيهة. فلماذا يتمّ تصويره باعتباره "سلطاناً مستبداً"؟ ومتى يمكن لهذه الصورة الذهنية المرسومة أن تتغيّر؟ لا أحد يعلم، لكن يمكن لنا أن نجزم أنها ربما لن تتغيّر أبداً، فقد أصبحت هذه الصورة الذهنية في مقام الحقائق الجيوسياسية التي يعتمد عليها البعض في الغرب، ليس بخصوص تركيا فقط، بل والمشرق الإسلامي كلّه!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد الرحمن ناصر
صحفي وكاتب مصري. مهتمّ بالعلاقات الدولية والشرق الأوسط.
تحميل المزيد