لم يكن البيان الصادر عن محافظة القاهرة، الذي ينفي إرسال خطاب إلى أسرة الشيخ محمد رفعت (1882- 1950م) يُعلمهم فيه بضرورة نقل رفاته، قبل إزالة المقبرة من أجل إقامة جسر، هو الأول من نوعه. فمنذ شهور نفت المحافظة نيتها إزالة مقبرة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (1889- 1973م)، رغم أنها سبق ووضعت علامة تفيد نيتها إزالة المقبرة قبل أن تمحوها لاحقاً.
ربما يكون الضغط الشعبي من خلال رواد وسائل التواصل الاجتماعي – الذين هبّوا للدفاع عن قيثارة السماء محمد رفعت – سببا في تراجع المحافظة عن إزالة مقبرة الشيخ، لكن هذا لا يمنع احتمالية المراوغة، وخاصة أن لمحافظة القاهرة سابقة في ذلك، فحين نفت من قبل نيتها إزالة مقبرة الدكتور طه حسين، لم تمر سوى أسابيع قليلة ورأى الجميع كيف اتخذ الجسرُ من المقبرة قاعدة له!
الغريب أن هدم التراث في مصر، وخاصة القاهرة، يسير على قدم وساق في السنوات الأخيرة، في ظل إقامة عشرات المحاور والجسور الجديدة، ما تسبب في إزالة العديد من الجبانات التاريخية التي تحوي مقابر رموز مصرية متنوعة، كجبانة المماليك التي هُدم وأزيل العديد من مقابرها التي تحوي رفات شخصيات تاريخية أدبية وثقافية وسياسية واقتصادية كان لها دور كبير في الحياة المصرية خلال النصف الأول من القرن العشرين.
كما تم هدم سوق العنبريين بشارع المعز؛ أحد أهم شوارع القاهرة التاريخية، وهو ليس مبنى تراثياً وحسب، بل مبنى أثري يرجع تاريخ إنشائه إلى ما يزيد على 900 عام.
هل تدرك الحكومة قيمة التراث المصري؟
إن استمرار آلة هدم التراث وتوغلها جعل البعض يتساءل بحرقة: هل تعي الحكومات قيمة مثل هذا التراث؟ أم أنها لا تدري أنه تراث من الأساس؟
الحقيقة التي لا جدال فيها، أن الحكومات المتتالية تعي جيداً أن تلك المقابر والمعالم التاريخية تراث يجب الحفاظ عليه، بل لقد وضعت تلك الحكومات من القوانين ما أكدت به على هذا المفهوم.
فالقانون 144 لسنة 2006 الخاص "بتنظيم هدم المباني والمنشآت غير الآيلة للسقوط والحفاظ على التراث المعماري"؛ والذي تم تعديله برقم 3 لسنة 2020؛ يحظر الهدم أو الإضافة للمباني والمنشآت التراثية.
يبين القانون السابق ذكره أن المباني التراثية هي تلك المباني التي تتميز بواحدة أو أكثر من السمات، المتمثلة في: أن تكون ذات طراز معماري فريد، أو ترتبط بالتاريخ القومي، أو بشخصية تاريخية، أو تمثل حقبة تاريخية، أو تعتبر مزاراً سياحياً. والمؤكد أن المقابر والمعالم الأثرية التي تم هدمها في السنوات الأخيرة، تتسم بواحدة أو أكثر من تلك السمات.
كما أن القانون 119 لسنة 2008، والجاري تعديله حالياً أمام البرلمان، منوط به الحفاظ على المناطق التراثية ذات القيمة المعمارية والحضرية.
بل إن الدستور نفسه حظر هدم التراث وطالب بالحفاظ عليه، فالمادة 47 من دستور 2014 تقول صراحة إن الدولة مُلتزمة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة، أما المادة 50 منه فنصت على أن تراث مصر الحضاري والثقافي والمادي والمعنوي، بجميع تنوعاته ومراحله الكبرى، المصرية القديمة والقبطية والإسلامية، ثروة قومية وإنسانية، تلتزم الدولة بالحفاظ عليه وصيانته.
عواقب ومخاطر هدم مباني التراث المصري
هدم المعالم التراثية له عواقب وأضرار خطيرة، منها أنها تمنع الأجيال التالية من التعرف على تاريخها وتقلل أمامهم من شأنه، بل هي تنشر بشكل غير مباشر ثقافة الهدم بين المواطنين الذين يتخذون منها قدوة لهم؛ ما يفقدهم على المدى الطويل حاسة التذوق الفني والجمالي.
كما أن هدم المعالم التراثية يُفقد الوطن موارد مادية، كان من الممكن الحصول عليها لو قامت الحكومات بتحويل تلك المعالم إلى مزارات سياحية، كما تفعل دول العالم المختلفة.
بل إن عملية الهدم تسيء لسمعة مصر، وتضعها تحت طائلة القانون الدولي باعتبارها تخالف الاتفاقيات التي وقّعت عليها؛ كاتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية، والتي أقرت "أن الأضرار التي تلحق بممتلكات ثقافية يملكها أي شعب تمس التراث الثقافي الذي تملكه الإنسانية جمعاء، فكل شعب يساهم بنصيبه في الثقافة العالمية".
كذلك تنص اتفاقية اليونسكو عام 1972، والتي توجب على كل دولة حماية التراث الذي تمثله الممتلكات الثقافية الموجودة في أراضيها. وكذلك ما تضمنه إعلان منظمة اليونسكو لعام 2001 بشأن التنوع الثقافي، والذي تضمن الاعتراف بالتنوع الثقافي باعتباره "تراثاً مشتركاً للإنسانية" تُعد حمايته ضرورة أخلاقية ملموسة لا تنفصم عراها عن ضرورة احترام كرامة الكائن البشري ذاته.
ما تضمنه أيضاً إعلان اليونسكو لعام 2003 بشأن التدمير المتعمد للتراث الثقافي من الاعتراف بأهمية التراث الثقافي والالتزام بمكافحة تدميره المتعمد بأي صورة من الصور حتى يمكن نقل هذا التراث إلى الأجيال القادمة.
ضرورة وقف عملية الهدم لـ "التراث المصري"
إذن من الضروري الآن؛ التوقف عن هدم المعالم التراثية، ولن يتحقق ذلك، دون اعتزاز الحكومة أولاً وكذا المواطنين بتاريخهم وتراثهم، وقيام وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية بنشر الوعي، وأداء البرلمان دوره في إصدار التشريعات المناسبة، هذا فضلاً عن ضرورة قيام الجهات المختصة ببذل المزيد من الجهد لأجل تسجيل كل المواقع والمعالم التراثية بالسجلات الحكومية والعمل على ترميمها وصيانتها، وإعدادها كمزارات سياحية.
فالكثير من الدول التي لا تملك ما نملكه؛ من تاريخ ممتد، وحضارة عريقة، وتراث وفير؛ لا تألو جهداً في الحفاظ والاهتمام بما لديها من معالم تراثية، بالصيانة والترميم تارة، وبالدعاية الإعلامية والترويج السياحي تارة أخرى، ما دفع بتلك الدول أن تكون قبلة للسياح والزائرين من مشارق الأرض ومغاربها، وما يترتب على ذلك من ضخ العملة الصعبة بتلك الدول.
ختاماً.. أريد أن أؤكد أننا لسنا ضد عمليات التطوير التي تقوم بها الحكومة، لكن يجب ألا تتجاهل عملية التطوير تاريخنا وتراثنا وتقلل من شأنه، بل يجب عليها أن تتخير من البدائل التي تجنبها هدم التراث، وما أكثرها من بدائل.
وبعد بيان التراجع عن هدم مقبرة الشيخ محمد رفعت، وتهدئة الرأي العام هل ننتظر من الحكومة اهتماماً بالتراث عامة، والتوقف عن هدمه وتدميره، والعمل على صيانته وترميمه، وجعله مزاراً لأبناء الوطن والسائحين؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.