تُجري تركيا نهاية الأسبوع الجاري انتخابات رئاسية وبرلمانية سيتردد صدى نتائجها بوضوح في العالم العربي. في العقد الأول من حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، لم يكن لتركيا حضور كبير في المنطقة العربية، لكنّ التجربتين السياسية والاقتصادية لحزب العدالة والتنمية الحاكم حظيتا عموماً بإعجاب في العالم العربي. بعد اندلاع "الربيع العربي" في عام 2011 وما أفرزه من صراعات واضطرابات واسعة، بدأ الدور التركي في المنطقة يتزايد بشكل واسع.
تُجري تركيا نهاية الأسبوع الجاري انتخابات رئاسية وبرلمانية سيتردد صدى نتائجها بوضوح في العالم العربي. في العقد الأول من حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، لم يكن لتركيا حضور كبير في المنطقة العربية، لكنّ التجربتين السياسية والاقتصادية لحزب العدالة والتنمية الحاكم حظيتا عموماً بإعجاب في العالم العربي. بعد اندلاع "الربيع العربي" في عام 2011 وما أفرزه من صراعات واضطرابات واسعة، بدأ الدور التركي في المنطقة يتزايد بشكل واسع.
بقدر ما فرضت هذه الاضطرابات، لا سيما تلك التي اندلعت في دول مجاورة لتركيا كسوريا وليبيا، تحديات أمنية وجيوسياسية خطيرة عليها، فإنها خلقت أيضاً فرصة لها لتعزيز حضورها في المنطقة والتحول إلى لاعب أساسي في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية المحيطة على جبهتها الجنوبية. بيد أنها وضعتها أيضاً في مواجهة لسنوات مع مختلف القوى الإقليمية البارزة التي وجدت في الحضور التركي المتنامي تهديداً لمصالحها الإقليمية أو -على الأقل- تهديداً لطموحاتها الإقليمية.
شهد عقدان من حكم أردوغان ثلاثة تحولات بارزة في علاقات أنقرة بالمنطقة العربية:
الأول، قبل عام 2011، وكانت فيه العلاقات تتسم بالودية إلى حد كبير مع مختلف دول المنطقة مع استثناء التوترات المزمنة بين أنقرة وبغداد بسبب العمليات العسكرية التركية ضد حزب العمال الكردستاني المحظور في شمال العراق وملف المياه.
والثاني، وهو الأكثر أهمية، بين عامي 2011 و2020، واتّسم بكثير من التوترات بسبب دعم أنقرة لتحولات "الربيع العربي" وانخراطها في الحرب السورية والنزاع في ليبيا ودعمها لقطر في الأزمة الخليجية عام 2017، ثم دخولها في العام التالي في أزمة مع السعودية بسبب قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول.
أما التحول الثالث، فبدأ في عام 2020، عندما أحدث أردوغان تحوّلاً جذرياً في السياسة الإقليمية وأعاد إصلاح العلاقات مع الخصوم السابقين كالسعودية والإمارات وشروعه في حوار مع القاهرة لنفس الغاية، فضلاً عن انفتاحه على الحوار مع النظام السوري.
حتى الوقت الراهن، نجحت تركيا في تصفير معظم خلافاتها مع المنطقة العربية باستثناء دمشق وجزئياً القاهرة. لكنّ واقعاً جديداً في العلاقات التركية السورية بدأ يظهر بالفعل منذ أن بدأت أنقرة ودمشق مفاوضات علنية برعاية روسية بهدف إصلاح العلاقات نهاية العام الماضي.
حقيقة أن التحوّلات التي طرأت على العلاقات التركية – العربية منذ ثلاث سنوات تزامنت مع بروز ديناميكية جديدة في السياسات الإقليمية تميل إلى خفض التوترات الإقليمية وإصلاح العلاقات والتكيّف مع عصر جديد من المنافسة الجيوسياسية بين القوى الكبرى، تجعل من العلاقات التركية العربية ركناً أساسياً من أركان النظام الإقليمي الجديد الذي يتشكل في منطقة الشرق الأوسط. بالنظر إلى الدور المؤثر للحضور التركي في عملية تشكيل النظام الإقليمي، فإن أي تحول في الدور التركي في المنطقة كنتيجة لهذه الانتخابات، لن تقتصر تداعياته على العلاقات التركية – العربية فحسب، بل ستكون له آثار عميقة على الجغرافيا السياسية الإقليمية.
إذا ما استطاع أردوغان الفوز في الانتخابات والبقاء في السلطة، فلا يوجد ما يدعو للاعتقاد بحصول مثل هذه التحولات. ستواصل أنقرة تنمية علاقاتها الجديدة مع المنطقة العربية ومن المرجح أن يُتوج التقارب التركي – المصري بمصالحة كاملة تؤدي إلى إعادة تبادل السفراء ولقاء على مستوى القادة. كما من المرجح أن يحدث تقدم على مسار المفاوضات التركية – السورية.
لكنّ فوزاً محتملاً للمعارضة في الانتخابات سيخلق واقعاً مختلفاً من حيث الحضور التركي في المنطقة وبدرجة أقل من حيث علاقات أنقرة بمحيطها العربي. لم تُقدم المعارضة استراتيجية واضحة لكيفية تعاملها مع القضايا العربية التي لتركيا حضور رئيسي فيها كسوريا والعراق وليبيا والصومال، لكنّ زعيمها كمال كليجدار أوغلو، الذي ينافس أردوغان على الرئاسة، أعطى بعض المؤشرات الواضحة.
إنه ينظر إلى الشرق الأوسط على أنه "لعنة" لم تجلب سوى المشاكل لتركيا.
ومن منظور أعمق، سيسعى كليجدار أوغلو إلى جعل الشرق الأوسط ثانوياً في الاهتمام التركي والتركيز بدلاً من ذلك على استعادة الهوية الجيوسياسية لتركيا كجزء من المنظومة الغربية.
بمعنى آخر، تتمثل عقيدة كليجدار أوغلو في أن مستقبل تركيا مع الغرب وليس مع الشرق. هذه العقيدة كانت قائمة لعقود طويلة في السياسة الخارجية التركية منذ تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي عمل على تغريب تركيا وإحداث قطيعة متكاملة مع ماضيها العثماني الذي كان العالم العربي أحد مرتكزاته الأساسية في السياسة الخارجية. نظرياً، يُمكن لكليجدار أوغلو أن يُعيد إحياء التوجّه الغربي لتركيا؛ لأن رؤساء أتراك كثر ساروا على خطى أتاتورك في هذا الاتجاه، لكنّ على أرض الواقع، فإن التخلي عن المنطقة العربية لن يكون بهذه البساطة لمُجرد الاعتقاد بأنها "لعنة" لا تجلب سوى المشاكل واللاجئين.
سيكون لانكفاء تركيا عن العالم العربي في لحظة إقليمية وعالمية حرجة ومتحولة بسرعة، عواقب هائلة على المصالح التركية في المنطقة. تبدو سوريا وليبيا مثالين واضحين على مثل هذه العواقب؛ لأن الصراع في هذين البلدين، لا يُمكن النظر إليه فحسب من منظور الأزمات التي جلباها لتركيا، بل من منظور أعمق يتعلق برؤية تركيا لنفسها كقوة إقليمية وكذلك من منظور الأمن والاقتصاد.
على سبيل المثال، يُمكن لكليجدار أوغلو أن يعمل بسرعة على إعادة العلاقات مع دمشق، لكنّه سيتعين عليه أن يُقرر ما إذا كان الحضور العسكري التركي في سوريا مُجرد مسألة ينبغي الانتهاء منها، أو حاجة تحمي مصالح تركيا في سوريا الجديدة التي ستتشكل على خاصرتها الجنوبية وبوابة برية لها إلى العالم العربي.
كذلك الحال بالنسبة لليبيا. سيتعين على كليجدار أوغلو أن يُقرر ما إذا كان الحضور التركي في ليبيا مُجرد مسألة ينبغي الانتهاء منها أو حاجة لبقاء تركيا قوية في الصراع الجيوسياسي التي تخوضه مع اليونان وقبرص الجنوبية في شرق البحر المتوسط. مثل هذه التحديات ستحتاج زعيماً قوياً يتعامل معها ولا ينظر إلى المنطقة العربية على أنها مُجرد "لعنة" ينبغي التخلّص منها.
قد يكون تراجع محتمل لدور تركيا في المنطقة العربية محل ترحيب من القوى الإقليمية الفاعلة التي وجدت صعوبة في مواجهة الاندفاعة الإقليمية للرئيس رجب طيب أردوغان خلال العقد الماضي. لكنّه في المقابل سيخلق فراغاً إقليمياً قد يُضر بالمنطقة العربية بشكل أكبر من الفوائد التي يُمكن أن تجنيها.
في سوريا والعراق على سبيل المثال، ستستعد إيران لملء أي فراغ ينجم عن تراجع الحضور التركي؛ لأن الدول العربية لا تمتلك القدرة على ملء مثل هذا الفراغ. كما أن تركيا بتوجهاتها الغربية، سينطلق دورها الإقليمي الجديد من منظور غربي في وقت يسعى فيه الشرق الأوسط إلى بناء هوية جيوسياسية جديدة له ويسعى لإقامة شراكات أخرى مع قوى عالمية منافسة للغرب كروسيا والصين. لن تجد الدول العربية على الأرجح صعوبة في الحوار مع رئيسي تركي غير أردوغان، لكنّها ستواجه صعوبات كبيرة في التعامل مع إقليم يزداد فيه الحضور الإيراني وتسعى فيه الولايات المتحدة لتوظيف "تركيا الجديدة" للحد من تنامي الدورين الروسي والصيني في المنطقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.