أخذت أفكر بجدية لاتخاذ هذا القرار الصعب، قرار سيحتاج لإرادة حديدية، واستنفار لأقصى درجات طاقتي لأنفذه، وأن أحسم أمري وأقرر، هل سأنهض لأدخل دورة المياه أم أتحمل ساعات أخرى لتوفير طاقتي؟!
هل تعتبر هذه الجملة مبالغة، هي ليست كذلك، بل هي جملة حقيقية تماماً، تدور في ذهني وذهن كل مريض مناعة ذاتية في فترات النشاط، حين يصبح النهوض لدخول دورة المياه فعلاً عنيفاً يحتاج طاقة ومجهوداً لا يمتلكهما جسدي، فأظل أؤجل هذه الخطوة حتى تصبح شديدة الضرورة.
أنا مريضة مناعة ذاتية، اكتشفت مرضي منذ أكثر من 10 سنوات، ومريضة ذئبة جهازية منذ 3 أعوام، دعني أخبرك أن الحياة قبل المناعة الذاتية تختلف كلياً بعدها.
أنا قبلها شخص آخر تماماً
هل أنت مريض؟
أنت في كامل طاقتك تدخل الفراش عدة ساعات، وتستيقظ لتجد أن حالك قد تبدل، تشعر بإنهاك عام في جسدك، أنك مستنفد تماماً، وكأنك حجر بطارية قد نفدت طاقته، وقد تم "عضه" عشرات المرات حتى لم يبقَ منه شيء على الإطلاق.
تفكر قبل رفع يديك، فكرة النهوض تثير الرعب، فجسدك يزن أطناناً، جفناك ثقيلان، مفاصلك في ذمة الله، أنت صفر طاقة، تريد فقط أن تُترك وشأنك لا تفعل شيئاً، طاقتك فقط تكفيك كي تتنفس.
إن كنت شعرت بمثل هذا الشعور يوماً بشكل متكرر كل فترة، لينتهي بعد فترة، ثم يعود بلا مبرر طبي واضح، فقد تكون مريض مناعة ذاتية وأنت لا تدري.
ويجب عليك أن تستشير طبيب، فعلى عكس ما يعتقد البعض من ندرة أمراض المناعة الذاتية فهذا ليس حقيقياً، أمراض المناعة حالياً تنتشر بشكل مضطرد، هي فقط غير اعتيادية، وصعبة التشخيص، لذا يعتقد الكثيرون أنها بعيدة عنهم، لذا خذ الحذر.
المناعة الذاتية ما هي؟
في شهر مايو من كل عام يتم التعريف بأمراض المناعة الذاتية، ويوم 10 مايو هو يوم التعريف بمرض الذئبة الجهازية.
هناك حوالي 100 مرض معروف من أمراض المناعة الذاتية، هناك أمراض مؤثرة مثل فيبروميالجيا، لم يحسم العلم هل تدخل ضمن الأمراض المناعة الذاتية أم لا حتى الآن.
تخيل معي أن جسدك دولة لها جيش يحميها من العدوان الخارجي، الجيش هو جهازك المناعي، يحميك من الأمراض، من البكتيريا والفيروسات والميكروبات بأنواعها.
للأسف جيشك هذا قد خانك، ليس فقط لم يعد يحميك كما يجب، بل انقلب ضدك ليهاجم أعضاء جسدك نفسه، فبدلاً من حمايتك من الهجوم الخارجي أصبح هو مَن يهاجمك، وهكذا فإن أعضاء جسدك تقع تحت القصف حرفياً، ومع انشغاله في مهاجمتك لم تعد لديه القدرة على حمايتك، فأصبح جسدك جبهة مفتوحة لأي هجوم خارجي أيضاً.
في أمراض المناعة الذاتية جسدك يخونك حرفياً
الأزمة الكبرى أنك حين تُدافع عن جسدك ذاته فأنت تؤذيه، نعم كيف يمكنك أن تهاجم جهاز المناعة الخاص بك لتوقف هجومه على أحد أعضائك دون أن تضر نفسك؟! أنت القاتل والمقتول هنا، وهذه المعضلة حتى الآن، لم يصل العلم لحل حاسم لها.
أنواع أمراض المناعة الذاتية
يمكن تقسيم أمراض المناعة الذاتية حسب مكان هجوم الجهاز المناعي على الجسم:
– أمراض مناعة ذاتية يهاجم الجهاز المناعي بها عضواً واحداً أو جهازاً واحداً.
– أمراض مناعة ذاتية يهاجم الجهاز المناعي جسماً بأكمله.
من أمثلة النوع الأول مرض السكر من النوع الأول، الروماتويد في المفاصل، التصلب المتعدد في الجهاز العصبي، سيلياك يهاجم خلايا امتصاص الجلوتين في الأمعاء، الوهن العضلي يهاجم العضلات وأعصابها، هناك العشرات من الأمراض المختلفة، والتي يمكن لمن أراد الاستفاضة أن يعرفها أكثر.
حكاياتي مع الذئبة الجهازية
بجانب ما سبق هناك الذئبة الجهازية Systemic lupus erythematosus التي تستبيح كامل الجسد. في رحلة تشخيصي كنت مثالاً لما يعاني منه أغلب مرضى الذئبة والمناعة عموماً.
لا أحد يصدق أنك مريض
شُخصت بمرض هاشيموتو، وهو مرض مناعة ذاتية يهاجم الغدة الدرقية، كانت المرة الأولى التي أرى مريض مناعة ذاتية أمامي، وهو نفسي، بحكم دراستي العلمية فأمراض المناعة الذاتية نظرياً أعرفها جيداً، ولكنني كنت أظنها أمراضاً غريبة بعيدة، لا تخرج من المراجع لتصيب البشر حقاً.
لذا معرفتي بأنني مصابة بمرض مناعة لم يسمع أحد عنه كان غريباً، لم أتحسن مع كل العلاجات المعروفة وقتها، وكان الخيار النهائي هو الجراحة واستئصال الغدة.
بعدها بسنوات انخفض هيموجلوبين الدم إلى 5، شخصت بأنيميا خبيثة pernicious anemia، وهو مرض مناعة ذاتية يهاجم به الجسد مستقبلات فيتامين B12، فيمنع الجسم من تكوين دماء سليمة تستطيع حمل الأوكسجين، وهكذا كان الحل في نقل الدم وتعاطى فيتامين B12 مدى الحياة.
دعني أخبرك أن هذه الأحداث لم يتم الربط بينها، وبقي وضعي الصحي سيئاً، أعاني دائماً بلا تشخيص حاسم، تمر فترات صحة لعدة أشهر، ثم انتكاسات لا يعرف الأطباء تشخيصها بالضبط، وبعد فترة تطول أو تقصر تختفي الأعراض، هناك دائماً أعراض تتكرر، فتأتي معاً أحياناً، ومنفردة في أحيان أخرى.
– تعب وإنهاك شديدان، مجهود ضعيف.
– ألم بالمفاصل.
– مشاكل بالبشرة والجلد.
– مشاكل بالجهاز الهضمي.
– حساسية الجلد للضوء، للحشرات، للأطعمة والأدوية.
ودائماً ما ينظر الجميع لي بأني أتمارض، فقط أسرتي الصغيرة، والدتي ووالدي وأخي مَن صدَّقوني، أما الآخرون فبعضهم يرجح أنني "محسودة" أو "مريضة نفسياً"، مع إصابتي بمشكلة كبيرة في الحركة بلا تشخيص، حتى الأطباء خذلوني حتى أصبح مجرد الضحك يؤلم، في هذه العتمة يظهر طبيب صديق ليساعدني، بعد عشرات الفحوصات بدأت تظهر البشائر.
لاحظ أن أغلب مرضى المناعة الذاتية، خاصةً في المراحل الأولى أو غير المتدهورة أغلب فحوصاتهم تأتي سليمة، مما يزيد إعاقة التشخيص.
ولكن بمسح ذري حاسم اكتشفنا أن 23 عظمة من عظام جسدي قد تآكلت من الداخل، وتحوي شروخاً، منها عظام الساق والحوض والأضلاع، ما السبب؟! الله وحده يعلم، فإن كانت الفحوصات قد أظهرت المرض، لكنها لم تقرر السبب، وفي النهاية أرجعوه لمرض وراثي شديد الندرة.
ولكن لم يُرحنِي التشخيص وقتها، طبعاً نحن الآن ندرك أن هذا أحد أعراض الذئبة الجهازية بسبب مشاكل تنشيط فيتامين د، ولكن وقتها لم تكن المعلومة معروفة طبياً.
كلمة السر كورونا
لسنوات كانت حالتي متأرجحة، حتى 2020 مع إصابتي بالكورونا، والتي كادت تودي بحياتي، وإصابتي بجلطات الساق والرئة، وبعاصفة سيتوكين مناعية بسيطة، ولكني نجوت بفضل الله.
تعافيت ببطء، وبعد عدة أشهر بدأت حمى غريبة، لا تنخفض الحرارة نهائياً مع المخفضات والمضادات الحيوية والكورتيزون.
صاحب الحمى التهابات في الجلد دون عدوى، هنا طرقت باب أطباء المناعة.
في محراب أطباء المناعة
أحب أن أمازح طبيبتي بأنه لا أحد يفهمهم، والكل يخاف منهم في فروع الطب الأخرى، فهذا العالم المليء بالمستضدات والأضداد والجلوبينات المناعية يثير الرعب حتى لبعض الأطباء.
مع زيارتها للمرة الأولى، شعرت أن الصورة تكتمل، لقد قامت بربط كل ما مر في حياتي تقريباً بالمناعة الذاتية وبالتشخيص الجديد، الذئبة الجهازية.
من حسن حظي أن تحاليلي كانت حاسمة بكوني مريضة ذئبة، ولكن 35% فقط من مرضى الذئبة يحصلون على نتائج تحاليل حاسمة، بل أغلب الأطباء يشخصون المرض اعتماداً على الأعراض، وينتظرن أن يتحسن المريض بالأدوية، أو تثبت الفحوصات التشخيص.
الذئبة نشّطتها الكورونا، والتي تعتبر واحدة من ثلاثة عوامل تقوم باستثارة الأمراض المناعية:
– العدوى الفيروسية
– ضوء الشمس
– التوتر النفسي
لذا قليلون من يستطيعون التأكيد أن التوتر يقتلهم بالفعل، وهم يعنونه حقاً
فالتوتر يقتل مريض الذئبة، حيث ينام سليماً ليستيقظ مصاباً بفشل رئوي أو كلوي بسبب التوتر، فمع الذئبة أنت وحظك، كل يوم مُحمل بالمفاجآت، قد تستيقظ على أحد الأجهزة يُهاجم ولا تعرف كيف سينتهي هذا الهجوم؟ هل يمل الجهاز المناعي ويتركه قبل القضاء عليه؟ أم يصر على إنهائه؟ وما أهمية الجهاز الذي سيستهدفه؟ هل هو جهاز يمكن الاستغناء عنه؟
على مدى 3 أعوام مررت بعدة انتكاسات، هجوم الدم حيث أنيميا انحلال للدم، والتي أخذت فترتها ثم رحلت، ثم الأمعاء، مسببة التهاباً وحساسيات تجاه بعض الأطعمة لتأخذ وقتها ثم ترحل، ثم مفاصل الجسد كاملة، ثم الأوعية الدموية والتسبب في التهاب خلوي.
ولكن في بعض الأحيان لم يتوقف الجهاز المناعي، فعندما قرر مهاجمة الرحم لم يتوقف إلا بعد الانتهاء منه واستئصاله، لذا ليست كل مرة ستمر.
لا علاج ها هنا
تتساءل عن العلاج الشافي، لا يوجد، الذئبة وأغلب أمراض المناعة الذاتية أمراض لا تشفى، ولكن نستعين بالعلاجات لتخفيف الأعراض وإبطاء تأثيرها.
ولكن دعني أخبرك بالمعضلة
العلاج فيه سُم قاتل
أغلب العلاجات تستنزف الجسد أيضاً، فمثبطات المناعة والكورتيزون وغيرها من المواد تفسد بقدر ما تصلح، وتبقى أنت وطبيب المناعة تتراقصان على خيط رفيع بين خطر المرض وخطر العلاج، تهاب سقوط عضو جديد، تدعو ألا يكون عضواً أساسياً، وخاصة الكُلى التي تفضلها الذئبة، والتي تنقل المريض لمرحلة أخرى من المرض.
ها أنا أكتب الآن وأنا أستعد لجراحة جديدة بعد يومين، ولا أدري ماذا يحمل الغد، وهكذا كل مرضى المناعة الذاتية.
في النهاية
مع شهر المناعة الذاتية والتوعية بمرض الذئبة، أشكر الله أن مَن عليَّ بعائلة ساندتني طوال الرحلة التي لم تنتهِ حتى الآن، ولكن أرى الكثيرين يعانون من البشر بذات معاناتهم من المرض.
مِن اتهامهم بـ"الدلع"، وعدم تحمل المسؤولية، والتقصير، وإشعارهم بأنهم عبء على الحياة، هؤلاء المرضى يعانون جسدياً ونفسياً ومادياً، فالأدوية أسعارها خرافية، والمشافي ليست رخيصة، لذا فلا يملكون ترف الراحة.
مريض المناعة ليس قانطاً من رحمة الله، ولم يفقد الأمل، ولا يشتكي بلا سبب، هو يتألم حقاً، وكل ما يطلبه أن تؤازره أو تدعو له، أو على الأقل تتركه بلا تنظير جديد يؤلمه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.