في كل صباحٍ من كل يوم، أذهب إلى عملي كالعادة، وفي أثناء فراغي أنزل إلى ساحة سمير قصير القريبة من مكتبي في وسط بيروت (Downtown)، حيث تمثال الصحفي سمير قصير، الذي تم اغتياله سنة 2005 على أيدٍ مجهولة، ليس هو فحسب، فهناك الكثير من الشخصيات اللبنانية الإعلامية والسياسية والدينية من كل الطوائف التي اغتيلت دون أن نعرف الحقيقة الفاعل حتى يومنا هذا، فليست هناك أدلةٌ قضائية بسبب إغلاق الملفات عبر الضغوطات السياسية وتسييس القضاء اللبناني، ولكن هناك سياقٌ تاريخي للأفعال الإجرامية تلك والاغتيالات السياسية التي عاشتها البلاد منذ فترة طويلة.
أثناء استراحتي في عملي، أجلس بالقرب من التمثال، وهو محاطٌ بالأشجار وصوت العصافير الجميلة، فأنظر إليه وأستذكر تلك الشخصيات التي رفعت الصوت عالياً ضد القمع والقتل والأنظمة الفاسدة والديكتاتورية بشكلٍ عام والنظام السوري بشكلٍ خاص، ولكن ذاكرتي لم تبدأ رحلتها منذ زمنٍ طويل، إنما بدأت باستحضار تلك الشخصيات عندما بدأت تلوح في الأفق عودة النظام السوري إلى الحضن العربي والجامعة العربية، وها قد حصلت أخيراً بعد سنواتٍ من القطيعة العلنية فقط أمام الجمهور العربي، ولكن في الحقيقة، فإن الأمور مختلفة تماماً، لم تكن هناك أي نية دولية وإقليمية لإسقاط النظام السياسي في سوريا، لم ينقطع التعاون الاستخباراتي بين سوريا وجميع الدول العربية، ولم ينقطع التعاون العسكري والسياسي مع بعض الدول العربية، مثل مصر والجزائر وغيرهما، أما اليوم فإن الأمور تتجه إلى أن تكون أكثر وضوحاً وتطبيعاً بشكلٍ علني على المستويات كافة، من هذا المنطلق لا بد من مقاربة جوانب التطبيع من عدة زوايا؛ كي نستطيع أن نفهم ذلك التقارب العربي في هذا التوقيت، وما هي الخلفيات في ضوء الإيجابيات والسلبيات.
المقاربة السياسية
رُب ضارةٍ نافعة، لقد جاء الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في شهر فبراير كحبل الخلاص للنظام السوري المعزول سياسياً على المستويين العربي والغربي، لقد تدفقت المساعدات على سوريا بحجة النكسة الإنسانية التي تعرضت لها البلاد. لقد استطاع النظام السوري استغلال هذا الحدث بشكلٍ جيد، فلقد بدأ الحراك الدبلوماسي يأخذ أشكالاً متقدمة، تطورت من زيارات للوزراء الخارجية إلى افتتاحٍ للسفارات وزياراتٍ رفيعة المستوى بين النظام السوري وبين عدة دول مثل سلطنة عمان والإمارات العربية وقريباً المملكة العربية السعودية، لقد كان وقع زيارة وزير الخارجية السعودية إلى العاصمة السورية دمشق كبيراً في المشهد السياسي، وتبدّلٍ واضح في التوجه العام السعودي تجاه القضايا الإقليمية، ولكن اللافت أن معظم التصاريح السعودية كانت تركز على ضرورة الإصلاح السياسي وضرورة إعادة النازحين إلى ديارهم سالمين وبكرامةٍ إنسانية، يجب التركيز على أن كل تلك الأحداث المتسارعة حصلت عقب التقارب السعودي الإيراني، بمباركة صينية، الذي حصل في شهر مارس/آذار التي سرّعت الانفتاح العربي على سوريا. ولكن ليس الزلزال هو الذي حرّك ملف التطبيع، إنما قام بتسريعه فقط، فهناك عوامل عدة ومختلفة، على رأسها المملكة العربية السعودية التي غيّرت موقفها من موقفٍ يسعى إلى إسقاط بشار الأسد ونظامه السياسي إلى موقفٍ يسعى ويحفز ويسوّق في الدول العربية على ضرورة إعادة سوريا إلى الحضن العربي، وفقاً لرؤيتها الخاصة وهي استقرار المنطقة من أجل تحقيق مصالحها وازدهار اقتصادها وتحقيق الأمن الذي هو أولية استراتيجية التي سوف تحقق الاقتصاد والازدهار.
ولكن الملف اليمني يُعتبر أهم الملفات سخونةً وحساسيةً للمملكة العربية السعودية؛ لأن اليمن يُعتبر الخاصرة الرخوة بالنسبة للمملكة، ويشكل عمقاً استراتيجياً، إضافةً إلى الحدود البرية الكبيرة بين البلدين، وإلى الموقع الاستراتيجي الذي يتمتع به اليمن المطل على بحر العرب. ولكن ما هي الرؤية التي انطلق منها القطار العربي للتطبيع مع النظام السوري؟ من لم يُطوع في الحرب هل سوف يُطوع في السلام والدبلوماسية؟ وهل الخليج العربي قادرٌ اليوم بعد حرب دامت قرابة الـ12 سنة التي غيّرت من ديمغرافية البلاد والبنية التحتية الثقافية والطائفية وحصول هندساتٍ مجتمعية خطيرة التي مارسها النظام السوري والميليشيات الموالية له أن يعيد سوريا إلى العروبة المنشودة بعد أن أصبح مرتمياً وخاضعاً بشكلٍ كبير للإرادة الإيرانية؟ ما هو السبيل إلى طرد الميليشيات الطائفية وكل القوى الخارجية، مثل روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وإيران من البلاد؟ هل لديهم القدرة والقوة الكافية لفرض الإصلاحات السياسية الضرورية، وعلى رأسها تحويل النظام من نظامٍ رئاسي مُطلق إلى نظامٍ برلماني تعددي؟ هذه النقطة بالتحديد لم ولن يقبل بها النظام على الإطلاق لعدة أسباب، وأهمها مرتبطة بوجود الأقلية العلوية على رأس النظام السياسي بصلاحياتٍ كبيرة، كل تلك الأسئلة يصعب الإجابة عليها.
إن التقارب السعودي الإيراني له إيجابياتٍ في الملف اليمني على المستوى الأمني والاقتصادي وحتى السياسي، إن حلحلة ذلك الملف سوف تضمن نسبياً أمن المشاريع التي تقوم عليها رؤية الـ2030 مرحلياً، ولكن ذلك وفق التطورات الجيوسياسية على المستوى الإقليمي والدولي، إضافةً إلى تخفيف التوتر في مضيق هرمز؛ حيث يمر النفط المتدفق عبر هذا المضيق، والذي يمثل ما يقرب من 40% من جميع أنواع النفط المتداولة عالمياً.
أما في الملف السوري، فإن الانفتاح لن يعيد سوريا إلى العروبة المنشودة ولا إلى الحضن العربي، فإن الدولة بالمفهوم الفلسفي لم تعد موجودة، إنما النظام المقتصر على بعض الشخصيات الأساسية المقسمة بين العائلية والأمنية والرأسمالية، لن يتغير سلوك النظام بعد أن اعتبر نفسه منتصراً في حربه الكونية حسب زعمه، فهو لم ينتصر إلا على شعبه وناسه الذين يعيشون اليوم في مخيمات البؤس والعذاب. لقد انتصر محور إيران على الأرض السورية حسب رؤيته، وبتأييدٍ من حلفائه، مما يعزز من موقفه السياسي ورؤيته الثاقبة في مواجهة المسلحين، إضافةً لتجنيب الخليج تلك الحركات المسلحة والثورات التي كانت تريد أن تكمل طريقها إلى العمق الخليجي. ماذا عن محافظة إدلب؟ وما هو مصير الآلاف من المقاتلين والهاربين من بطش النظام؟ فإن إدلب كانت وجهة التهجير والمصالحات التي رعاها الروس وطرد كل من عارض النظام السوري في درعا والغوطة وغيرها من المناطق. إن الحل السياسي لن يكون سهلاً كما يعتقد البعض والعملية معقدة وشائكة، أما بالنسبة للنازحين، فعودتهم ليست قريبة كما تسعى الدول العربية، إن قوة النظام لم تعد كما كانت سابقاً، ولن يستطيع أن يستوعب الملايين من النازحين الناقمين على هذا النظام، والذين قد يشكلون خطراً في المستقبل، كونهم ينتمون في معظمهم إلى الطائفة السنية أي الأكثرية في سوريا. أما في ملف الكبتاغون، سوف يبقى سلاحاً مسلطاً يُستخدم في الأوقات المناسبة لتحقيق مكاسب سياسية معينة وأهداف اقتصادية معينة.
أما تأثير الملف السوري على الساحة اللبنانية فهو كبير، وسوف يغير في المعادلة الداخلية، إن التطبيع يعني إنهاء الحرب القائمة، مما يعني إنهاء سبب وجود حزب الله داخل الأراضي السورية، مما يعني إعادة حزب الله قواته العسكرية إلى لبنان، هكذا سوف يتفرغ الحزب للشؤون اللبنانية حصراً بعد خروجه من الملفات الإقليمية المرهقة، وعلى رأسها سوريا، ولكن خروجه العسكري لا يعني انتهاء تأثيره السياسي في الأرض السورية ونقل الأسلحة، فهذه العودة تعزز من قوته السياسية والاجتماعية وتعزيز وجوده في السلطة وهيمنته على القرار السياسي للدولة اللبنانية، كما أن عودة دمشق بقيادة الأسد إلى الساحة العربية سوف يعطي النظام نفسه قوة سياسية، وسوف يبدأ بالعودة إلى الملف اللبنانية بشكلٍ أكبر.
المقاربة الاقتصادية
السؤال الأهم هنا، من سوف يدفع لإعادة أعمار سوريا، ومن هو المستفيد من الإعمار؟ قبل ذلك لا بد لنا أن ندرك أن الأمريكي لم يعارض كثيراً التقارب العربي والنظام السوري وحتى التقارب الإيراني السعودي، لانشغاله بالملف الأوكراني والتوسع والصعود الصيني، رغم اعتبار النظام السوري نظاماً قاتلاً لشعبه، إلا أنه لم يحرك ساكناً كي ينقذ الشعب السوري من القنابل والبراميل المتفجرة التي أُلقيت عليه طيلة الـ12 سنة، ولكنه حتى الآن لم يُعط الضوء الأخضر للبدء في إعادة إعمار سوريا، وهذا سوف يشكل عائقاً كبيراً بسبب النفوذ الأمريكي الذي لايزال موجوداً في سوريا. لن تدفع روسيا ولا إيران أي قرشٍ على هذا المشروع الضخم، إنما القادر الوحيد في تلك المعادلة هم دول الخليج، فهم من يملكون الكتلة النقدية والاقتصاد الأقوى، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، إن حصلت عملية إعادة الإعمار، فمن هو المستفيد من هذا المشروع الضخم؟ من يتحكم بالحدود البرية التي تسمح للشركات بالدخول والخروج؟ من يسيطر على المطارات؟ من يملك الأمن والقرار السياسي والاقتصادي في البلاد؟ إن المستفيد الأول هو الميليشيات والنظام السوري الذي سوف ينتعش بعد أن تتدفق الأموال عليه، وسوف يزيد من قبضته الأمنية وترسانته العسكرية ويوسع دائرته الاجتماعية بعد أن تراجعت بسبب الحرب الضروس، وخروج الكثير من المناطق من قبضته الأمنية، إضافةً إلى أنه سوف يعيد بناء اقتصاده الخاص، ودعم فرقه الخاصة مثل الفرقة الرابعة وغيرها من الأفرع الأمنية.
المقاربة الأخلاقية
كل يوم أنظر إلى تمثال سمير قصير وأسأل نفسي، ماذا عن دماء مئات الآلاف من الضحايا والشهداء الذي قُتلوا وشُرّدوا؟ والآلاف من المختطفين واليتامى؟ قصصٌ لا يمكن أن تُصدَّق، أين حقوق النساء اللواتي اغتُضبن؟ أين حقوق الأطفال الذين خسروا أهلهم وذويهم وخسروا حقوقهم الإنسانية وطفولتهم البريئة؟ ماذا عن الهندسات المُجتمعية التي حصلت بسبب السياسات الطائفية والتغيير ديمغرافي الذي حصل؟ ماذا عن رغبة الانتقام من قبل الطرفين، النظام والشعب؟ هل ستنتهي بهذه السهولة؟ كلا، لم تنتهِ الحرب العالمية لمجرد استسلام ألمانيا النازية في أوروبا، لقد بدأت للتو مأساتها؛ حيث اغتُصبت عشرات الآلاف من النساء في ألمانيا من قبل السوفييت وقوات الحلفاء، لقد حصلت الكثير من عمليات الانتقام والقتل، هكذا سوف يحصل في سوريا بعد عودة النازحين تحت رعاية النظام الذي اعتبر نفسه منتصراً على شعبٍ أعزل، لا ضمانة لسلامة الشعب والنازحين من بطش النظام الذي استخدم الكيماوي ضد شعبه عدة مرات. لا يمكن ألا يُقارب الملف من الناحية الأخلاقية وحصرها بالمصالح السياسية والاقتصادية التي وضحناها، وأنها لن تصبّ في مصلحة الخليج بسبب المأساة التي عاشتها المنطقة، فإن آثار الثورة السورية لم تقف في الحدود الجغرافية السورية، إنما كان لها آثارٌ كبيرةٌ في كل من العراق والأردن ولبنان والمنطقة كلها. ناهيك عن الأمراض النفسية التي يعيشها الجيل الجديد بعد أن شاهد المذابح وعاش القمع والحياة في المخيمات التي سوف تنتج وحوشٍ بشرية وقنابل موقوتة، إذا لم تعالج تلك المأساة بطريقةٍ علمية.
لا يمكن التطبيع دون إصلاحاتٍ سياسية حقيقية قادرة على أن تنتج نظاماً تعددياً وحياة ديمقراطية صحيحة وسليمة، تعطي السيادة المطلقة للشعب وليس للجماعات الطائفية والدوغمائية، ولكن هذه الإصلاحات غير قابلة للتحقيق في ظل نظام لا يقبل التفاوض، ولا يقبل التعددية ولا الديمقراطية، ولا أي شكلٍ من الإصلاحات ولو بسيط، فهذا الانفتاح سوف يُقابل بالانغلاق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.