تعرف تركيا يوم الرابع عشر من الشهر الجاري حدثاً تاريخياً هاماً، حيث ستجرى الانتخابات الرئاسية والتشريعية المفتوحة في تاريخها، التي تعد نقطة مفصلية ليس لتركيا فحسب، بل للمنطقة وللعالم الغربي على وجه الخصوص.
في حين تسعى الدوائر السياسية والاستخباراتية والإعلامية في العواصم الغربية رامية بكل أجندتها وجنودها وجهدها لمشاهدة لحظة إعلان خبر خسارة الرئيس رجب طيب أردوغان على التلفزيون العمومي التركي من زعامة ورئاسة تركيا الإنجازات وإطفاء نور نجمة و كسر هلال تركيا الدولة القوية في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط (MENA) والساحة الدولية كقوة فاعلة ومؤثرة في السياسة الإقليمية والدولية؛ تركيا التي كانت تلقب بالرجل المريض، أصبحت تعرف اليوم بالمهندس العبقري.
رواية الغرب واغتيال الشخصية!
انتخب رجب طيب أردوغان رئيساً لبلدية إسطنبول المدينة الكبرى في الانتخابات المحلية التي أجريت في 27 آذار/مارس 1994، وكانت وقتها تعاني من مشكلات مزمنة منها: مشكلة المياه التي كان الحصول عليها من المشقات اليومية، ومشكلة الصحة التي كان الحصول عليها بعد شهور عديدة، ومشكلة النقل التي حالت بين المواطن والتنقل للعمل وقضاء حوائجه، فضلا ًعن التلّوث، وكذلك مشكلة الديون التي أرهقت ميزانية البلدية وجيوب الإسطنبوليين.
لماذا كل هذا الاهتمام من طرف وسائل الإعلام الغربية بالانتخابات العامة التركية؟ وبالأحرى بشخص الرئيس رجب طيب أردوغان؛ عادة الإعلام الغربي يهتم بالانتخابات الأمريكية دون غيرها. ولما أتى هذا الشخص المحافظ الذي لم يخف يوما ً تديّنه في بلد أرداه التيار العلماني المتطرف المستغرب الذي أراد أن تصبح العلمانية دين تركيا الـ"حديثة" في محيط اجتماعي وثقافي محافظ.
برز نجم شخص الرئيس رجب طيب أردوغان في سماء إسطنبول المضيئة في الإعلام والساحة السياسية التركية بعقلية وثقافة وسلوك الرجل التركي العام وليس ذلك الرجل النخبوي. قليل من يعرف أن الرئيس رجب طيب أردوغان كاد أن يكون لاعباً محترفاً في الكرة المستديرة ولقبّة رفاقه في المستطيل الأخضر بالإمام كيزر Imam Kaiser نسبة لـDer Kaiser Franz Beckenbauer أسطورة فريق نادي بايرن ميونيخ ومنتخب ألمانيا الغربية في منتصف ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كان الرئيس أردوغان يلعب مدافعاً محورياً في فريقه، وبحكم انضباطه ومهارته في نوادي IETT Spor وCamiati Spor وErok Spor.
الانتخابات العامة ليوم 14 أيار/مايو وهذا رغم العوامل الداخلية والخارجية تبدو مؤثرة في تصويت الناخب، على سبيل المثال الأوضاع الاقتصادية الصعبة والزلزال المدمر الذي ضرب ولايات جنوب البلاد في الشتاء الماضي، والتحالفات الانتخابية المتناقضة للمعارضة أصحاب الطاولة سداسية القوائم، وملف اللاجئين/ الضيوف السوريين وغيرهم، والحرب على الإرهاب، والسياسة الخارجية التي هي الآن بين واقعية الثابت والمتغيّر.
في هذه الحالة لم يعد الإعلام الغربي مجرد متابع للانتخابات بتركيا بدافع الفضول والكتابة عن التجربة التركية ومسارها الديمقراطي الصحي healthy democratic process، بل أصبح الإعلام والمحللون المختصون في الشأن التركي في العواصم الغربية يلعبون دور الـ"مؤثرين" على مسار هذه الانتخابات ونتائجها، رغم أن الناخب التركي أثبت نضجه السياسي وإيمانه العميق بالديمقراطية: بالانخراط في الأحزاب السياسية وممارسة النشاط السياسي والمجتمعي.
وأثبت ذلك للعالم في ليلية المحاولة الانقلابية ضد الرئيس رجب طيب أردوغان في شهر تموز/يوليو عام 2016؛ حيث خرج ملايين الأتراك باختلاف انتماءاتهم الحزبية والمذهبية والعرقية والطبقية معبرين بصوت واحد عن رفضهم عودة تركيا لعهد الانقلابات والأزمات السياسية.
محطة التغيير الجذري في العلاقات التركية مع الغرب (عام 2006)
كان عام 2006 لحظة دقيقة واحدة، ودقيقة One minute, one minute أو Bir daka, Bir daka بالتركية لمّا كان الوزير الأول الصاعد رئيس الحكومة التركية المحافظة في قمة دافوس الاقتصادية، التي شاهد العالم فيها مغادرة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان اجتماع قمة دافوس محتجاً على عدم منحه الوقت الكافي للرّد على رئيس دولة الاحتلال شمعون بيريز حول العدوان الإسرائيلي ضد غزّة، رغم محاولات الأطراف الأوروبية وواشنطن التّخفيف من الصدمة التي تركها موقف رئيس الوزراء التركي حيث أربك رئيس دولة الاحتلال ومدير الجلسة الصحفي الأمريكي في الواشنطن بوست، دافيد إغناتوس David Ignatius.
واقعة دافوس عرفت تحولاً جذرياً في العلاقات الثنائية بين أنقرة والعواصم الغربية ومع ربيبتهم دولة الاحتلال. إنها لحظة القطيعة مع تركيا القديمة والاستعداد لاحتواء هذا الرجل القوي الذي اكتسب شرعيته من ثقة شعبه. موقف أردوغان في قمة دافوس عام 2006 قلب كل الأعراف الدبلوماسية في نظر الإعلام الغربي بالطبع إنه أكبر بكثير من غضب تلقائي من رجل شرقي.
لهذا أصبح العالم اليوم كلّه يتحدث عن الانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية وصارت تركيا قبلة للسياح العرب والغربيين وباتت دولة وازنة على الخارطة الجيو-سياسية والسياسة الدولية؛ بناء على ذلك تستعمل العواصم الغربية وإعلامها المتحيّز الاستعلائي كل قوتها لدعم مرشح المعارضة الـ"علمانية" التي جعل حقدها على الرئيس رجب طيب أردوغان أن يتدّين مرشحها ويصبح يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، مرشح تحالف الأمة السيد كمال كليجدار أوغلو زعيم حزب الحركة الجمهورية CHP في التجمعات الانتخابية وأمام الإعلام التركي المعادي لشخص الرئيس رجب طيب أردوغان بغية هزيمته وإنهاء حقبة حكم حزب العدالة والتنمية.
إنّ انضمام أهم الصحف الغربية البريطانية والألمانية والفرنسية ظاهرياً لمتابعة وتغطية الحدث التاريخي بتركيا يظل باطنها الكراهية المستمرة ضد الإسلام لحملة مسعورة ضد الرئيس رجب طيب أردوغان ومساندتها الصريحة لمرشح المعارضة، هذا يعني أن مديري التحرير ما زالوا لم يفهموا الأتراك بسبب غطرستهم ونظرتهم الاستعلائية للمنطقة كلّها، وبالتالي لا قيمة للحديث عن مبدأ أكذوبة "الحياد" في الإعلام الغربي.. إنه إعلام سلاح الدمار الشامل، وخير مثال على ذلك الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وسياسات القمع والاستيطان المتصاعدة لدولة الاحتلال تجاه الشعب الفلسطيني المحتل.
إنّه إعلام ليس له خط تحريري كما يزعمون، وإنما له خط هاتف مباشر من رئيس مجلس الإدارة عندما يتعلّق الأمر بالإسلام والمسلمين.
إعلام بين الغطرسة والكراهية
نشرت مجلة The Economist البريطانية عنواناً على صحفتها الأولى: ليسقط أردوغان من أجل تحقيق الحرية والخلاص من الخوف، فيما نشرت أيضاً مجلة Der Spigel الألمانية على غلاف صفحتها الأولى هي الأخرى صورة للرئيس رجب طيب أردوغان جالساً على كرسي هلاله مكسور وكتبت بالخط العريض: أردوغان، الفوضى أم الانقسام في حال خسارته للرئاسيات، كما عنونت مجلة Le Point الفرنسية وكأن الانتخابات العامة ستدور في فرنسا الغارقة في أزماتها الثلاثية الأبعاد: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. في مقال طويل للصحفي غيليوم بريي Guillaume Perrier الذي يقدّم نفسه كخبير في الشأن التركي عنونه بأردوغان بوتين آخر، وبالديكتاتور الذي يسعى لإعادة مجد الدولة العثمانية.
بين مجلة تدعى بالاقتصادي، وأخرى بالمرأة وأخرى بالنقطة، هذا المحور الثلاثي أشهر كراهيته وخوفه ليس للرئيس رجب طيب أردوغان وإنما خوفهم من دخول دولة إسلامية في نادي الكبار الذي فهم قواعد لعبة الأمم التي أصبح هو فيها لاعباً مؤثراً، وأجبر على إعادة تشكيل السياسة الدولية في المنطقة بمنطق جديد لمناطق النفوذ بين قوى دولية واقليمية يراعى فيه مفهوم ميزان القوة بما يتفق ومصالح اللاعبين الجدد، فالرؤية الغربية للمسلم الحاكم هو الحاكم التابع لأوامرهم، أمّا الحاكم المسلم المستقل فهو ديكتاتوري ومستبد.
ومن يعتقد أنّ هذه الهجمة الإعلامية الشرسة من الإعلام الغربي على الرئيس رجب طيب أردوغان، والدعوة الصريحة لإسقاطه هي من أجل الديمقراطية، فعليه أن يراجع قراءته لهذا الإعلام الحاقد على الإسلام ولكل صورة إيجابية عنه، إنّه إعلام يحب الإثارة والنمطية وتصوير منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط ((MENA منطقة الخراب والعنف والتطرف الديني والفساد.
فاز أم خسر الرئيس رجب طيب أردوغان معركة الرئاسيات يوم الأحد المقبل، لقد عرف اليوم العام والخاص أن تركيا عند الغرب أصبحت Türkiye وليس turkey الديك الرومي، الطير المفضل في حفلات عشاء ليلة عيد المسيح في فرنسا ويوم الشكر Thanksgiving في أمريكا وكندا، إن الرجل قد قفز ببلاده من تركيا الأزمات والتبعية إلى تركيا الإنجازات والاستقلال الكلي، قام الرئيس رجب طيب أردوغان في مشروعه النهضوي التنموي فانتقلت تركيا اليوم إلى الصناعات الدفاعية، فوضع لتركيا مكاناً يستقل على الغرب ويصنع خبزه وملابسه وسلاحه بسواعد أبنائه وفي بلده، كما أدخل بلده مجموعة الدول التي تمتلك الطاقة النووية.
صحيح المعركة ليست سهلة، وهي آخر منافسة انتخابية يخوضها الرئيس رجب طيب أردوغان، وذلك بعد أن حقق الفوز من قبل في 12 استحقاقاً انتخابياً و3 استفتاءات شعبية، هذه المرة.
هي المعركة الأخيرة له، بات الرجل يعرف جيداً أن إرثه السياسي على المحك، رغم كارثة الزلزال الذي أصاب 11 محافظة تركية في جنوب البلاد، لا ننكر أن معضلة تركيا في الفترة الحالية في ارتفاع نسبة التضخم التي تلهب قفة الناخب والأتراك والمقيمين بتركيا عموماً بسبب الغلاء في المواد الأولية والكهرباء والبنزين، ورغم زيادة الأجور لوقف نزيف التضخم، بالرغم من أن هذه المسألة أي مشكلة التضخم أصابت العديد من دول العالم ومنها بشكل كبير دول هذا الإعلام المتغطرس الذي يتمنى كل الشر للرئيس رجب طيب أردوغان بسبب التداعيات الاقتصادية لجائحة كوفيد-19 والحرب الروسية-الأوكرانية وتأثر أسعار النفط والقمح في السوق الدولية، وإن كان التضخم في تركيا يرجع كذلك للعملة التركية وما شهدته من حروب مقصودة لضربها؛ مما أثر على توازنها واستقرارها.
وفي الأخير تبقى الانتخابات العامة في تركيا عادة لا تحتكم للمقولة الشهيرة لمهندس استراتيجيات الحملات الانتخابية في الحزب الديمقراطي بواشنطن جيمس كارفيل James Careville: إنّه الاقتصاد، يا غبي It's the economy, stupid، أما في تركيا الجديدة والقوية، فإنّه استكمال الاستقلال في القرار السيادي والاقتصادي، يا غبي!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.