تعد استطلاعات الرأي إحدى أهم أدوات توقع نتائج الانتخابات في معظم دول العالم، ولذلك يلجأ لها المتابعون والناخبون وكذلك صناع القرار المتنافسون في الانتخابات على حد سواء. بيد أن ذلك لا ينطبق كلياً على تركيا؛ إذ يقلل الباحثون في الشأن التركي، ومنهم كاتب هذه السطور، من دقة عمل شركات استطلاع الرأي فيها ويدعون لعدم الثقة بما يصدر عن معظمها إلا ما كان في إطار الاستئناس.
مشاكل وثغرات تقدح في مصداقية الاستطلاعات
ثمة أسباب مرتبطة بعمل هذه الشركات، وعوامل أخرى خارجة عن إطارها وسابقة على عملها. فمثلاً، لا يتعامل الشارع التركي في عمومه بشفافية كاملة مع استطلاعات الرأي لأسباب تتعلق بالتاريخ السياسي للبلاد والاستقطاب الأيديولوجي القائم منذ عقود وغيرها من الأسباب.
كما أن تماهي الانقسامات العرقية والأيديولوجية مع المناطق الجغرافية في البلاد يجعل من الصعوبة بمكان على أي عينة مستطلعة أن تكون ممثلة للشعب. كما أن استطلاعات الرأي تجرى عادة على الهاتف أو عبر الحواسيب، "وأقلها وجهاً لوجه"، ما يترك شرائح مهمة ومؤثرة في النتائج خارج العينة المستطلعة آراؤها، مثل ربات البيوت وكبار السن، والأهم "أتراك الخارج" الذين يمثلون ما يقرب من 5% من مجموع الناخبين.
أما ما يتعلق بعمل شركات استطلاع الرأي، فيمكن القول بأريحية إن أغلبها على ارتباط مباشر أو غير مباشر مع مختلف الأحزاب السياسية؛ ما يسيّس النتائج التي تعلن عنها إلى حد كبير من قبيل رفع نسب وتعزيز فرص الحزب الذي ترتبط به وتقليل حظوظ المنافسين.
بهذا المعنى، فشركات استطلاع الرأي التركية -في معظمها- لا تعكس رأي الشارع بقدر ما تعمل على صناعته وتوجيهه بالاتجاه الذي تريد من خلال إيهامه بتوقعات غير حقيقية.
كما أن عدداً لا بأس به من هذه الشركات إما مفتقد للأصول المهنية المطلوبة في هذا النوع من العمل، أو مستجد في المجال وضعيف فيه لنقصٍ في بعض الأدوات أو شحٍّ في الإمكانات. ويضاف لكل ما سبق أن الانتخابات الحالية هي الأولى التي تنظم بعد تطبيق النظام الرئاسي، بما يجعل المشهد الانتخابي الحالي جديداً تماماً على الجميع، وبما يتطلب تعديلاً أو تكيّفاً في المستجدات وهو ما لا تملكه أو تقدر عليه أو لا تريده كثير من هذه الشركات.
ورغم كل ما سبق، فإن بعض هذه الشركات يجري استطلاعات رأي أقرب للمعايير العلمية المتبعة، وهي في العادة استطلاعات خاصة لبعض الأحزاب أو المرشحين الرئاسيين مدفوعة الأجر وغير معلنة النتائج، ولذلك لا يطلع عليها عامة الشعب.
بالعودة للشركات المسيّسة في عملها، ثمة نموذج متكرر فيما تنشره من استطلاعات رأي يمكن تسميته بأسلوب "الصدمة ثم التدرج". ذلك أن هذه الشركات تعمد في أوائل ما تنشره من استطلاعات لتقديم نتائج غير منطقية تعظم بشكل واضح حظوظ الطرف الذي تدعمه سياسياً، لنشر إيحاء بأن فرصة كبيرة جداً في الانتخابات المقبلة.
يزداد هذا الأثر بشكل ملحوظ حين تجتمع عدة شركات على نفس النهج وفي نفس السياق الزمني، بحيث يظهر وكأن هناك إجماعاً على هذه التوقعات، وهو أمر قادر على التأثير في رأي بعض المتابعين ولا سيما المترددين غير المؤدلجين على وجه التحديد.
ومع الوقت واقتراب موعد الانتخابات، تبدأ هذه الشركات بنشر نتائج استطلاعات رأي جديدة تتدرج فيها بالتوقعات من تلك المبالَغ بها إلى أرقام ونسبٍ تبدو أكثر منطقية. فمن جهة تكون هذه الشركات قد حققت بعض التأثير الذي كانت ترومه، ومن جهة ثانية تكون آخر استطلاعات الرأي التي تنشرها قبيل الانتخابات أقرب للواقع نسبياً، بحيث يمكنها في المستقبل الادعاء بقرب هذه التوقعات من النتائج الحقيقية، بينما لو بقيت على النتائج الأولى المعلنة لكانت ضربت مصداقيتها في مقتل.
ولأن المثال أجدر بتوضيح الفكرة، ذاع في الآونة الأخيرة صيت شركة "ORC" التركية لاستطلاعات الرأي على أنها "الشركة التي استطاعت توقع نتائج انتخابات 2018 بدقة"، ما دفع بالكثيرين للاحتفاء بتوقعاتها للانتخابات المقبلة وإسباغ المصداقية عليها. بيد أن التدقيق العميق في الأمر لا يؤيد ذلك بالضرورة.
ذلك أن الشركة التي تعمل وفق منهجية علمية سليمة ينبغي أن تكون قادرة على توقع النتائج أو الاقتراب منها في كل أو على أقل تقدير معظم الاستحقاقات الانتخابية، وإلا كان توقعها الدقيق في استحقاق واحد أقرب للصدفة منه للمنهجية.
بالعودة لشركة "ORC"، فقد توقعت فعلاً في آخر استطلاع رأي أجرته قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2018 بشكل دقيق، وقبل ذلك الانتخابات الرئاسية في 2014 بشكل قريب من النتائج الرسمية.
لكنها، في المقابل، فشلت في توقع نتائج كل من الاستفتاء على النظام الرئاسي في 2017، والانتخابات البرلمانية الاعتيادية وجولة الإعادة في حزيران/يونيو وتشرين الثاني/نوفمبر 2015، وكذا نتائج انتخابات البلدية في 2019 لدرجة أنها توقعت فوز مرشحَيْ العدالة والتنمية في كل من أنقرة وإسطنبول وهو ما حصل عكسه تماماً في البلدتين.
في سياق الانتخابات الحالية، نشرت الشركة ثلاثة استطلاعات رأي رئيسة بخصوص الانتخابات الرئاسية. أولها في شهر آذار/مارس الفائت وتوقعت فيه فوز كمال كليجدار أوغلو بنسبة (53.1%)، مقابل (42.3%) للرئيس رجب طيب أردوغان، و (3.1%) لمحرّم إينجة، و(1.5%) لسينان أوغان.
وفي استطلاع رأي أجرته في شهر نيسان/أبريل الفائت، توقعت الشركة حصول مرشح "الطاولة السداسية"، كمال كليجدار أوغلو على نسبة (49.3%)، وأن يحصد أردوغان نسبة (42.4%) من الأصوات، وحصول محرم إينجة على (6.1%)، وسنان أوغان على (2.2%).
وفي استطلاعها الأخير في أيار/مايو الجاري، وقبل أيام من موعد الاقتراع، 14 مايو/آيار، منحت الشركة كمال كليجدار أوغلو اليد العليا بنسبة (48.0%)، وتوقعت حصول أردوغان على (44.6%)، ومحرم إينجة على (4.3%)، وسنان أوغان على (3.1%).
الملاحظ في هذه الاستطلاعات الثلاثة أنها أعطت كمال كليجدار أوغلو في البداية نتيجة كبيرة وفوزاً مريحاً ومؤكداً في الجولة الأولى، ثم تدرجت بنتيجته تراجعاً وبنتيجة أردوغان صعوداً، مع عدم إمكانية حسم الانتخابات من الجولة الأولى.
قد يقال إنه لا يوجد دليل على تعمد الشركة إصدار النتائج بهذا الشكل، وهذا صحيح. بيد أن تراجع فرص مرشح رئاسي يمثل معظم المعارضة التركية وتقف خلفه سبعة أحزاب سياسية أكثر من 5 نقاط خلال أقل من شهرين لا يحصل عادة إلا نتيجة لأخطاء كبيرة أو هزات سياسية أو فضائح ما.
لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث في السباق الانتخابي الحالي. فإذا ما أضفنا معلومة أن الشركة كانت مقربة من العدالة والتنمية سابقاً وأنها الآن أقرب للحزب الجيد، ثاني أكبر أحزاب "الطاولة السداسية" وتحالف الشعب المعارض، يمكن أن تكون الصورة أوضح.
إذا كان هذا حال شركة "ORC" فإن الأمر ينطبق على شركات أخرى كثيرة بنفس المنطق مع اختلاف الاستحقاقات الانتخابية بتوقعات دقيقة في بعضها وبعيدة في بعضها الآخر، مع انتهاج التدرج المشار له.
هل ينبغي تجاهل نتائج استطلاعات الرأي بالكلية؟ ألا يمكن الاستفادة منها أبداً؟
بلى، فإن لم يكن ممكناً الثقة الكاملة بنتائج استطلاعات الرأي تقليدياً في تركيا، خصوصاً في الانتخابات المقبلة التي تجرى وفق نظام مستجد ومنظومة تحالفات غير مسبوقة ومنافسة شديدة، فإنه يمكن الاستئناس ببعض نتائجها.
فيمكن على سبيل المثال الاستئناس بالسياقات العامة التي تُجمع عليها معظم أو كل شركات استطلاع الرأي، مثل كون أردوغان وكليجدار أوغلو المرشحَيْن الرئيسيين في الانتخابات المقبلة مقابل ضعف المرشحَيْن الآخرين؛ محرم إينجة وسينان أوغان، ومثل تقارب الفرص بين الجانبين وعدم توقع فوز كبير ومريح وكاسح لأي منهما على الآخر.
ويمكن الركون للمعلومات التقليدية المتكررة بشكل شبه مستقر مثل المحافظات والدوائر الانتخابية التي تعدُّ قلاعاً ومناطق محسومة لهذا الطرف أو ذاك، كـ"إزمير" بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري و"ديار بكر" بالنسبة لحزب الشعوب الديمقراطي وعدة مدن في البحر الأسود والأناضول بالنسبة لحزب العدالة والتنمية.
كما يمكن الاستئناس والمقارنة، وليس الثقة التامة، ببعض النتائج المتتالية لنفس الشركة لا سيما إن كانت تبدو منطقية، من باب تقدم أو تراجع أحد الأطراف.
الخلاصة
وفي الخلاصة؛ فإن تجربتنا على مدى سنوات طويلة واستحقاقات انتخابية عديدة مع شركات استطلاع الرأي في تركيا تدفعنا للحذر الشديد في التعامل مع نتاجها المنشور في وسائل الإعلام، ووضع مسافة مع التقديرات المبالغ بها من جهة وتزكية بعض الشركات بعدِّها قادرة على التوقع الدقيقي للنتائج من جهة أخرى.
ولعل هذا السياق المتكرر بشكل شبه دائم في الانتخابات التركية ماثل بشكل أكثر وضوحاً في الانتخابات المقبلة في ظل تقارب الفرص وحدّة المنافسة وعمق الاستقطاب السياسي في البلاد.
لذلك، مرة أخرى، لن يكون ممكناً معرفة نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في تركيا بشكل دقيق -وربما قريب- على الأغلب إلا مساء الرابع عشر من الشهر الجاري مع فرز الصناديق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.