يستعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لخوض ما يبدو أنه أصعب استحقاق انتخابي يواجهه منذ وصوله إلى السلطة قبل عقدين من الزمن يوم الأحد المقبل. استخدم مُصطلح "ما يبدو" لأنّ أردوغان يُظهر ثقة مُطلقة بالفوز وكأنها مثل أي انتخابات أخرى فاز فيها مع حزبه الحاكم، لكن في المقابل تشعر المعارضة هذه المرّة أو تتعمد إظهار شعور بأنها أقرب إلى السلطة أكثر من أي وقت مضى أو كلاهما معاً، حقيقة أن هذه المنافسة الانتخابية غير مسبوقة بالنسبة لأردوغان إن على صعيد حجم وتأثير الظروف الداخلية المحيطة بها، والتي هي أكبر مقارنة بأي انتخابات سابقة كالتضخم المرتفع وتداعيات الزلزال المدمر، وتوحد معظم أحزاب المعارضة، لا سيما الكبيرة منها في جبهة واحدة، تجعل من الصعب الاعتقاد على الأقل بأن فوز أردوغان وتحالفه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية معاً سيكون مضموناً. مع ذلك، فإن التصور الذي تقوم عليه الحملة الانتخابية للمعارضة، والذي يستند على فرضية النصر المحسوم غير القابل للشك، قد لا يكون واقعياً تماماً. على سبيل المثال، نجح أردوغان نهاية الأسبوع الماضي في جمع حشد ضخم داعم له في إسطنبول، يُقدر بمليون و700 ألف شخص، بينما المعارضة التي تُسيطر على المدينة منذ الانتخابات المحلية الأخيرة في عام 2019 لم تستطع تنظيم حشد مماثل. لا تُعبر الحشود بأي حال بشكل دقيق عن اتجاهات الرأي العام، لكنّها تُعطي صورة يُمكن الاستناد عليها جزئياً لقياس هذه الاتجاهات.
جزء أساسي من المنافسة في انتخابات مصيرية من هذا النوع يقوم على الحرب النفسية، وإحدى الأدوات الأساسية للحرب النفسية هي خطاب الثقة المُطلقة واستطلاعات الرأي الموجّهة، ويُمكن القول إن التحالفين الحاكم والمعارض الرئيسي يستخدمانها بشكل واسع، أردوغان خطيب مفوه، ولديه كاريزما واسعة في مخاطبة الجماهير، وقبل كل شيء لديه تجربة عقدين من الانتصارات الكاسحة في الاستحقاقات الانتخابية العامة، وحتى المحلية، مع استثناء الانتخابات المحلية الأخيرة طبعاً. لقد استطاع الفوز في 12 استحقاقاً انتخابياً رئاسياً وبرلمانياً ومحلياً و3 استفتاءات شعبية، وواجه محاولة انقلاب عسكري فاشلة في عام 2016، كما لديه قدرة استثنائية في تحويل الأزمات إلى فرص.
بعد زلزال 6 فبراير على سبيل المثال، واجهت حكومته انتقادات بسبب استجابتها البطيئة للكارثة في بدايتها، لكنّه سُرعان ما تحول من الدفاع إلى الهجوم. لقد وعد بالشروع الفوري في إعادة إعمار المناطق المنكوبة على نفقة الدولة بالكامل في غضون عام وبدأ ذلك بالفعل، بعض استطلاعات الرأي المستقلة قدّمت نتائج مفاجئة بعد الزلزال، عندما أشارت إلى أن أردوغان وحزبه استطاعا زيادة مستوى التأييد الشعبي عما كان عليه قبل الزلزال، وأرجعت ذلك إلى إدارته للكارثة. قد تكون حكومته عاجزة في الإجابة عن أسئلة بخصوص التقصير في مراقبة الجودة السيئة لأعمال البناء التي أدت إلى تفاقم الخسائر البشرية، لكنّ أردوغان أثبت أنه الوحيد القادر على إعادة الإعمار.
جزء من نجاح أردوغان في تحويل الأزمات إلى فرص قائم على إخفاقات معارضيه. بعد الزلزال مثلاً لم تتمكن المعارضة من رفع التأييد الشعبي لها إلى المستوى الذي يُهدد استمرار أردوغان في السلطة لسببين أساسيين. أولاً، كونها ليست في السلطة منذ عقدين، فهي لا تمتلك تجارب يُمكن أن تكون مشجعة للناخب المتضرر بأنها قادرة على إعادة الإعمار بسرعة بالطريقة التي يفعلها أردوغان. وثانياً لأنها كانت انتهازية إلى حد كبير في توظيف الكارثة من أجل التصويب السياسي على أردوغان.
من الواضح أن المعارضة فشلت في الحرب النفسية ضد أردوغان في مسألة الزلزال لهذين السببين، على العكس من ذلك حققت المعارضة نجاحاً في توظيف الصعوبات الاقتصادية التضخم لصالحها، لكنّ هذا النجاح ليس ذاتياً بقدر ما أنه تحصيل حاصل لرد فعل شريحة من الناخبين الممتعضين من الأداء الاقتصادي للحكومة في السنوات الأخيرة.
لقد راقبت مختلف استطلاعات الرأي التي أجريت في الأشهر والأسابيع الأخيرة بعناية، ووصلت إلى خلاصة مفادها أن الزخم الشعبي الذي وصلته المعارضة الآن كان سببه الرئيسي شبكة التحالفات المعقدة، التي بناها المرشح الرئاسي للتحالف السداسي كمال كليجدار أوغلو. مع ذلك هناك بعض المبالغات في تقدير تأثير هذه التحالفات على المشهد الانتخابي، على سبيل المثال تعززت ثقة كليجدار أوغلو بالفوز في الرئاسة من الجولة الأولى بعد حصوله على دعم تحالف "العمل والحرية" الذي يقوده حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، لكنّ هذه التقديرات تجاهلت الآثار السلبية المتوقعة لهذا الدعم على القاعدة الانتخابية للتحالف السداسي.
يُقدر حجم الأصوات القومية الرافضة للتحالف بين كليجدار أوغلو والحزب الكردي بنحو 8%، ويبدو أنها قررت التصويت للمرشح الرئاسي الآخر المعارض مُحرم إينجه كرد فعل، وهذا التحول عكس الاتجاه الذي كان سائداً في استطلاعات الرأي التي تُفضل المعارضة، بعد تبنّي كليجدار أوغلو كمرشح مشترك.
مع ذلك، بقيت الحرب النفسية جزءاً أساسياً من استراتيجية أردوغان والمعارضة في الحملة الانتخابية، في علم الاجتماع السياسي فإن الحرب النفسية مؤثرة على السلوك التصويتي للناخب، قد لا يكون التأثير فعالاً على الناخب المؤدلج الذي يدعم أردوغان أو خصومه، لكنّه مؤثر على الناخب الرمادي الذي لم يحسم خياراته بعد، وتصويته المحتمل سيكون حاسماً في حسم المنافسة الانتخابية، لأن الكتلة التصويتية للتحالفين متقاربة للغاية، عندما توحي لهذا الناخب بأن فوزك مضمون فإنه قد يميل إلى التصويت لك، لأنه بفطرته الانتخابية يُفضل دعم من يُظهر القوة، إلى جانب ذلك أرى أن الحملة الإعلامية الموجهة ضد أردوغان في وسائل الإعلام الغربية عموماً جزء أساسي من هذه الحرب النفسية.
مازلت أشكك في تأثيرها على الناخب التركي الذي لا يُتابع بطبيعة الحال الصحف الغربية كإيكونوميست البريطانية على سبيل المثال، لكنّه قد يؤثر جزئياً في السلوك التصويتي العام، عندما يُساعد المعارضة على محاولة إقناع الجمهور بأن فوزها في الانتخابات سيعني تحسيناً لعلاقات تركيا مع الغرب ومنافع اقتصادية هائلة، لكنّ هذه الحملة تتجاهل حقيقة أن الرأي العام التركي عموماً وصل إلى مرحلة من النضج الوطني، بما يساعده على تقرير مستقبل بلاده بأصواته بمعزل عن التأثيرات الخارجية.
ما يُميّز الديمقراطية التركية خصوصاً في هذه الانتخابات أن فوز أي من التحالفين الرئيسيين غير مضمون، يرجع ذلك بشكل أساسي إلى الديناميكية السياسية التركية وديناميكية التحالفات الحزبية المُشكلة، لكنّ ذلك يعكس أيضاً أن أردوغان كان بارعاً في الحرب النفسية أكثر من معارضيه، لأنه استطاع مواصلة إظهار القوة والفاعلية على الأرض، وجعل هذه الانتخابات استفتاءً على حكمه، بقدر أكبر من منافسة بينه وبين خصومه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.