فرضت الدراما العربية نفسها طبقاً رئيسياً على السفرة الرمضانية، والقلة القليلة من هذه الأعمال استطاعت جذب اهتمام المشاهدين، وفرضت سيطرتها على الشاشة الصغيرة، وحصدت هذه الأعمال الكمّ الأكبر من المشاهدات، وكالعادة يتداول رواد السوشيال ميديا أبرز أحداثها، بأدق تفاصيلها وأخبار أبطالها، وحتى العبارات التي ينطقون بها تصبح "تريند" و"لازمة" يُكررها الكثير من الناس، وهذا يعني أن هذه المسلسلات تضع بصمتها وبشكل واضح على أفكار وسلوكيات ومبادئ ومفاهيم المتفرجين، من كبار وصغار، ومراهقين وأطفال.
ما يعني أن الدراما تشارك وبشكل كبير في بناء شخصية أبنائنا، لذلك من المهم تسليط الضوء على محتوى هذه الأعمال والتدقيق في تفاصيلها، وفي هذا المقال سأتناول أبرز هذه المسلسلات بعناوين مستنبطة من مضمونها.
الدراما من وراء أسوار الكمبوند
كتّاب ومخرجون وممثلون يعيشون خلف أسوار الكمبوند، حيث الماء والخضرة والوجه الحسن، عالم راقٍ غارق في الرفاهية، ومن أمام حديقة الفيلا المطلة على بركة السباحة يبدأ الكاتب بحكاية خيوط درامية لأولئك الذين يعيشون خلف تلك الأسوار.
ويستعين الكاتب بمخرج يعيش بنفس الكمبوند، ويتخيلون حياة الناس في إحياء يسمعون عنها وعن سكانها، ولكن أقدامهم لم تطأ أرضها، يجهلون تماماً كيف يعيشون، وما هي المشاكل التي يعانون منها، هم الذين لا يعرفون وجه الفقر، ولم يجربوا يوماً وجعه، ولم تقرقع بطونهم من الجوع، لا تعنيهم أزمة السير، ولا أزمة الوقود، ولا يعبأون بغلاء الأسعار، هم يملكون مجتمعهم البعيد الهادي، ولهم أماكن خاصة لا يُسمح لمن خلف هذه الأسوار بالاقتراب منها.
هم عالم لا يمتّ بصلة لمن يعيشون في المناطق الشعبية، حيث البيوت المتلاصقة، والنوافذ المفتوحة على بيت الجيران، والأحياء الضيقة المُعتمة، وأصوات الأولاد بالشوارع يلعبون الكرة في الحارات.
باختصار، مَن يكتب قصصهم بعيد عن عالمهم، لم يكن في يوم من الأيام جاراً لهم، أو صديقاً لأحد أولادهم، لم يجلس في مقاهيهم، لم يقعد على كراسيها الخشبية القديمة وينفث دخان سجارته، إذن كيف يستطيع هؤلاء الكتاب والمخرجون كتابة وإخراج قصص "ناس" لا يعرفونهم!
لكن للأسف هذا ما يحدث على أرض الواقع في الدراما المصرية، خاصةً وقد تابعنا العديد من هذه الأعمال، وآخرها "جعفر العمدة"، حيث يعيش بطل المسلسل في حي شعبي "بالسيدة زينب"، وهو رجل أعمال ناجح، ولكنه أيضاً بلطجي، يأخد حقه بنفسه، وطبعاً تحت سلطته مجموعة من "الزعران"، يستعين بهم في المعارك الكبرى، أما المعارك الصغيرة في الحارة، ومع عائلة فتوح خاصة، فهو كفيل بها.
يضرب أبناء العائلة المعادية لعائلته، يسحلهم بالشارع، ينهال عليهم ضرباً، ثم يجلس على الكرسي بنصف الحاره ويدخن "الشيشة" دون اعتراض أو تدخل من أحد، والمشهد الآخر، وهو الأشد غرابةً، حين يذهب جعفر إلى شركة في منطقة تجارية، ويصطحب معه شاحنات محملة بالبلطجية لاسترجاع حقه من صاحب شركة الأمن، الذي رفض تسديد الديون المتراكمة عليه للمعلم جعفر، والسؤال المطروح بإلحاح: أين الشرطة؟! ما دورها في هذه الأحداث، لماذا لا تتدخل في مشاكل الحارة، ولماذا لم يقم صاحب شركة الأمن أو أحد موظفيه باستدعاء الشرطة، هل سكان هذه المناطق الشعبية فوق القانون؟!
في مشهد درامي آخر، يحمل الكثير من المعاني غير الأخلاقية، امرأة تخلع زوجها وابن عمتها دون أن يعلم، لا بل وتصل إلى قمة التطرف غير الأخلاقي، عندما خلعت زوجها دون أن يعرف، وقرّرت الزواج من ابن حارته، عدو عائلته، أمامه في عرس مفاجئ علني، دون أي احترام للعلاقات المتشابكة لسكان هذه المناطق. حيث الجار يعتبر صاحب مكان "وسابع جار صاحب دار"، إنها صورة قاتمة غارقة بالسوداوية، والسؤال: هل هذه الصورة الحقيقية لفئة تعتبر المكون الرئيسي والأكبر في المجتمع المصري؟ أم هي صورة التُقطت من بعيد دون التمعّن بتفاصيلها، وهذه النوعية من المسلسلات، مَن يُسهم في ترويجها ودعمها ويساعدها على تحقيق أعلى نسب مشاهدة؟! مَن يصنع لها الأمجاد ويصفق لصناعها؟ هل هم أولئك القاطنون خلف أسوار الكمبوند، بالتأكيد لا.
فتلك طبقة لا تعنيها الدراما العربية، فهم لا يشاهدونها، لأنهم أصلاً لا يتحدثون اللغة العربية، ولا يفهمونها.
إذن ضحايا هذه الأعمال هم حطب ووقود شهرة ونجاح هذه الأعمال، هم من يحملون وزر شهرتها واستمراريتها، هم من يغرقون صنّاعها بالأموال دون أن ينتبهوا لخطورة الرسائل التي تكمن في تفاصيل هذه النوعية من الدراما، على أفكار وعقول أبنائهم، وعلى مستقبلهم بشكل عام، لأنهم الأغلبية، وهم القوة الأكبر في المجتمع، يجب عليهم التوقف عن المساهمة في إنجاح هذه النوعية من الدراما السامة.
الدراما السورية.. "أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب"
مسلسل عاصي الزند، للنجم السوري تيم حسن، والمخرج سامر البرقاوي، عمل أقل ما يقال عنه إنه مدهش، مسلسل بغاية الإتقان والروعة، عمل درامي لم نشاهد ما يشبهه منذ سنوات طويلة، أداء متكامل ومتميز من قبل كل الممثلين، ويعتبر من أفضل الأعمال العربية في هذا الموسم الرمضاني، فقد استطاع أن يتفوق ويعلو كعبه على بقية الأعمال الدرامية هذا العام، العمل "متعوب عليه"، ويملك مقومات عالية الجودة من ناحية الإخراج والتصوير، وأضافت الأغاني التراثية على العمل جمالية وروحانية ممتعة، ولكن يبدو أن صناع العمل لم يقتنعوا بقدرة هذا العمل على النجاح، فلجأوا إلى الطريقة الأسهل، وهي إثارة الجدل، وقد فعلها بطل المسلسل عندما استخدم ألفاظاً بذيئة تمس كرامة المرأة، ألفاظاً صادمة خارجة عن المألوف، والمشكلة أنها مسبّات مبتكرة، وإن كان لها وجود فهي غير متداولة بين الناس، والمرأة بشكل عام، والأُم بشكل خاص ضحية هذا الاستخدام، دون أدنى احترام لقداسة الأم ومكانتها العالية في كل المجتمعات العربية، وكأن المرأة عبءٌ وعارٌ على الرجال، وتعتبر إهانة كبيرة أن يُشتم الرجل بأُمه أو أخته، وترسيخاً لفكرة أن البنات "هم للممات"، جاء مشهد أقوى وأشد تأثيراً، حيث كان يحتفل عاصي ورجاله بانتصارهم على الباشا، وهو ما أثار امتعاضه، وبلحظة فكّر وقرّر أن يُفسد فرحتهم، فقام بكشف علاقته الحميمة مع أخت صالح، كاشفاً عن علامة فارقة في جسدها، غضب صالح وجُن جنونه، وهدّد أخته بأن يقتلها في حال لم يقم زوجها بتلك المهمة.
مسلسل العربجي
في مسلسل "العربجي" كان شرف المرأة المحور الرئيسي للمسلسل، تقول الحكاية إن عبدو رجل قوي لا يهاب أحداً، ولا يخضع لسلطة أحد، متمرد على زعيم الحارة، يقرر الزعيم أن يهينه، فقام بتدبير مكيدة تمس شرف ابنته، وهذا ما كان، انكسرت شوكة عبدو، وضاعت هيبته، حتى وصل الأمر به أن يقبّل حذاء الزعيم لكي يستر عليه وعليها، استطاع الزعيم إذلال عبدو وانحنت هامته. عبدو"القبضاي" طأطأ رأسه، عبدو القوي الذي لا يُقهر قهرته ابنته، وبعد أن تموت ابنته حرقاً ويتأكد أنها عفيفة وشريفة يلوم جميع المشاركين بالمكيدة، ولا يلوم نفسه الأمّارة بسوء الظن، يشعر بالظلم، ولا يشعر أنه ظالم، بكى بكاء الضحية، ولم يبكِ بكاء الندم، شعر أن الجميع متهم بمقتل ابنته، ولم يشعر بأنه هو المتهم الأول، وطبعاً هاج وماج، وقرر قتل خصمه الأضعف، زوج ابنته المغدورة، بطريقة مقززة لا تليق بمخرج العمل المبدع دائماً سيف السبيعي، ولا بالممثل الراقي المحترم المرحوم محمد قنوع.
السؤال هنا: ما محتوى الرسائل التي أراد صناع هذه الأعمال إيصالها للمشاهد العربي؟
هل الرسالة هي أن المرأة التي تعيش معك تحت سقف واحد هي قنبلة موقوتة، قد تنفجر في وجهك وتهدم حياتك، أن شرفك وكرامتك وهيبتك مربوطة مع طرف ثوبها، وخصلات شعرها، أن وجود الأنثى في بيتك يشكل تهديداً على رجولتك مع كل خطوة تخطوها، ومع كل كلمة تنطق بها، لأنها في حال أقدمت على ارتكاب أي خطأ وإن كان غير مقصود قد تكسر ظهرك، وتدس رأسك بالتراب، لأنها وبغفلة من زمانك قد تجعلك قاتلاً، من أجل كل ذلك يجب على كل الرجال أخذ الحيطه والحذر منها، عليهم أن يتتبعوا خطواتها، أن يراقبوا تحركاتها، أن يتجسسوا على مكالماتها، وألّا تغفل عيونهم عنها، لأنها مسؤولية كبيرة، وقيد وحمل ثقيل عليهم، أن يتحملوا وجعه طوال حياتهم.
هذه هي الأفكار السامة التي يريدون زراعتها في عقول المشاهدين، والغريب أنها أفكار تتعارض مع أسلوب حياتهم، ومع آرائهم في السوشيال ميديا والحياة العامة، فهم المدافعون باستمرار عن حرية المرأة، وعن حقوقها، ويدعمون كافة الحريات الشخصية للأفراد بلا حدود، ولو كانت منافية للدين والعادات والتقاليد، لذلك أقول لهم: "أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.