تجاوز لكي تجد الراحة النفسية.. تجربتي مع “سائق أجرة” علمنى حدود التسامح

عربي بوست
تم النشر: 2023/05/05 الساعة 14:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/05/06 الساعة 10:37 بتوقيت غرينتش
تجاوز لكي تجد الراحة النفسية / صورة تعبيرية iStock

ستُنْسَى مثلما ستَنسى؛ عدد الخيباتِ، ومواقع الخذلانِ، سيمضي السّيء وسيتحوّل لمحض ذكرى تستغربُ فيها؛ ما الذي أرَّقَكَ منها؟ ستتقزّم الأمور الكبيرة، ولن تركّز على التافه منها، لسبب بسيط يكمن في أنّك تتمنّى عبوراً يسيراً، وترى الرّحلةَ مساراً داخليّاً وليس خارجيّاً فقط.

في أحيانٍ كثيرة أزعمُ -بثقةٍ عالية- أنّ البشر يمرّون من نفس المراحل التكوينية في الحياةِ، فلا يمكن أن يفوتني تشبيهٌ يقول فيه أحد أستاذتي شارحاً المشاعر والأحاسيس بأنّها محض انطباعاتٍ تتشكّل، وبأنّ لكلّ واحد منّا لوحةٌ فنّية رُسمت بألوان مختلفة.

قد تتطابق ألواننا، غير أنّ اللّوحة تشعر باللّوحة انطلاقاً من إحداثِها لنفسِ الوَقعِ عليهما معاً، فحينما تقول: أنا أتألّم، فإنّني أشعر تلقائيّاً بكسر في قلبي، أشرح لك الشّعور، فتقول: نعم أفهمه مع أنّك في حقيقة الأمر لا تفهمه فهماً مُطابقاً؛ لكنّكَ تتمثّله انطلاقاً من تجربتك معه؛ وعلى هذا الأساسِ، أعتقد بأنّ لكلّ لوحةٍ ألواناً أساسية، كالألمِ، الفرحِ، الفقد، الخذلان، التّعب… إلخ.

اختبار التسامح

في محطّتي السّابقة، فشلت في اختبارِ التسامح، لأنّ الحياةَ جامعةٌ، إن نجحت في دَرسِها انتقلتَ لمرحلةٍ أخرى، وإن أخفقت وجب أن تعيد الاختبار؛ إلى أن تنجح فيه، بمنطق الإخفاق هذا؛ تكرّرت التجاوُزات، وضغطت على نفسي لمرّاتٍ كثيرة، كي أسامح تارةً، وكي أكبح نفسي عن عدم قول كلام جارح.

فصار من العَصيّ عليّ بعدها أن أميّز بين: من يجب أن أسامحه وأمنحه فرصة أخرى، وبين من لن يُفَوِّتَ فرصة سحقي إن مُنِح فرصة إضافية؛ ولأنّ كثرة الضّغط تولّد الانفجار، انقلبَ التعامل إلى حال واحد، بلا أدنى اعتبار للفروقات الظّرفية، ولم يغثني في حقيقة الأمر سوى سائق أجرة، أغاثني فجأة، من التخبّط الذي كنتُ فيه؛ وأراني: الفاصل بينهما.. فما هي حدود التسامح؟ ومتى يجب أن أتجاوز ومتى يجبُ أن أنسحبَ؟

يقولون إنّ على المرء أن يعرف قدرّ نفسه، وأعتقد بأنّ هذه القاعدة دائماً تُفهم بالمعنى المُعاكس، نفهمها بِعَدِّ سلبياتنا، وإحصاء أخطائنا، ومعرفة هفواتنا، ولا أحد منّا ينتبه إلى أنّ القَدْرَ يضمّ الجيّد والسّيء، وأنّنا نكبرُ ونتحسّن، لأنّ التجارب تُعلّمنا، والنّضج يتحدّد بالذي عرفناه.

لكلّ منّا ألوان مُبهجة يحتضنها، من الطّبيعيّ أن نكون مختلفين، إلّا أنّ لكلّ منّا ما يميّزه، والقمة تسعُ الجميع، ولا يجبُ أن يكونَ هُناك تنافسٌ عليها، التنافس الأدقّ والصّحيح هو منافسة المرء لذاته، ومراقبته لسيرورة تطوّره.

ما أريد قوله هنا باختصار يتمثّل في أنّ عليك أن تُموقع نفسك في المكان الصّحيح كي تستطيع أن تَزِن حياتك، وعلاقاتك، وتقرّر: أن ترضى أو تنسحب. فلا يمكنك مثلاً أن تتنازل كلّ مرّة مع شخص لا يبادلك أقلّ تقديرٍ واحترام، ألن يكون في هذا مشقّة لمن يعرفُ ما يستحقّه؟

التسامح iStock/

الحياة أخذ وعطاء

في العلاقاتِ، أخذ وعطاء، ومهما قُلتَ إنّك تحبّ حبّاً غير مشروط فإنّي أودّ تنبيهك بأنّ في هذا هلاكٌ لك، وبأنّه لا يصحّ إلّا في دائرة العلاقات المقرّبة مع الوالدين والأبناء والإخوة وما جاورهُما، وغيره.

الحب لا يصحّ بالمُطلق، فكلّه عذابٌ، فإن بادرتُ، فهذا لا يعني أنّني أنتظر مُقابلاً منك، بل على الأقل يجبُ أن أحظى باعترافٍ، وبعض الخطوات، إذ لا يمكن أن نركض نحو شخصٍ يُحاول أن يتفادانا، إن قصدنا الجنوبَ قصَدَ الغرب، نحتاج لعلاقاتٍ نمشي فيها إلى نفس الوِجهة ونُراعي بعضنا.. فلا تستخسر خطواتك عليّ؛ كي لا أصدّ بوجهي عنك.

كما أشرتُ سابقاً، فقد أمضيتُ سنة أتخبّط فيها، ولعلّ من تبعات هذا كوني للآن أفضّل العزلة، وأحبّذ البقاء وحدي، كملاذٍ آمن لا إزعاج فيهِ، أهذا يعني بأنّ الآخرين جعلوني أكره الخارج بكلّ ما يحويه؟ قطعاً لا، بل يعني بأنّي أجدتُ وضع الحدود والمسافاتِ، وهذا ما أتمنّى أن تجيدهُ، وإن كنتَ بين ألفِ شخصٍ؛ ضع حدوداً لا تُتَجاوَزُ، وتعامَل بمثل ما تُريدُ أن تُعامَلَ به.

فإن أردتَ أن تُحتَرَمَ احتَرِم، وإن أردتَ أن تسمع كلاماً جيّداً قُلهُ كي تسمعه، وهكذا، أريد بشدّة أن أضيف مدى جمال أن تكتفي بأشخاص معدودين على الأصابع كمُقرّبين إلّا أنّي لا أحبّ فرض آرائي، وأؤمن بجمال التجربة الفردية، المهم هو أن ترتاح في علاقاتك، وغيرهُ: لا بأس به.

سيلحقكَ الأذى، سواءً ابتعدتَ أو اقتربت، إلّا أنّ الكيَّ يكونُ أكثر ألماً إذا ما كان من قريبٍ، والجُرحُ يكون أكثر عُمقاً إذا ما أتاك من حبيبٍ، فلا نتأذّى من شخص لا نبادله المشاعر، لأنّه محض عابر، لا ذكريات لنا معه، لأنّ المؤذي حقّاً هو تحوّلهُ، وكلامه، وليس كونه شخصاً غريباً أتى ليلقي على مسمعك بضع كلماتٍ ويرحل، وعن نفسي، أكبر الأذى هو سوء الفهم، فإن كنت تعرفني، وأسأت فهمي، فإنّك حقّاً لا تعرفني، ولا حاجة لي بوجودك في حياتي، ولن يفيدك وجودي في شيء.

سائق الأجرة ودرس التسامح

يقول سائق الأجرة: كنت أُقِلُّ رجلاً مهمّاً، وإذ بشخص يخطئ في حقّي، كان الطّريق ممتلئاً، وفجأة أسرع كي يتوقّف أمامي بسيارته لينتظر نزولي إليه، فقال لي الشّخص الذي معي توقّف لنرى ما يريدهُ وهو المخطئ وليس نحن، غير أنّي لم أفعل.. أتعلمين لماذا؟ لأنّي كُنت صائماً هذا أوّلا، وهو أيضاً صائم وقد يكون مُدخّناً وتُثار أعصابه بسهولة، ولأنّ معه ابنةً لا يمكن أن أظلمها بوقوفي هُناك، ولأنّي لو توقّفتُ فإنّ اللا شيء سيكبُرُ.

مع أنّ الرّجل الموجود معي ألحّ عليّ لأتوقّف، غير أنّي لم أفعل ما لم يؤذني وكان الأذى بعيداً، فإنّي سأتجاوزُ، لقد ذهبتُ، وهو الآخر سيهدأ فيما بعد، وكلانا سيسعدُ؛ لأنّ شيئاً لا داعي له لم يحدث.

بهذا، لخّص الموقفُ درساً، وعلمتُ متى يمكن أن أتجاوز ومتى لا يجبُ أن أفعل، فحسب درجة الأذى، يُحدّدُ الموقف، وحسب حالة الطّرف الآخر يُحدّد التجاوز أو الاستمرار، لا إطلاق في الأمر سوى أنّ الله لا يكلّف نفساً إلّا وُسعها، وما دامت لديك الأسباب الكافية للرّحيل فامضِ ولا تلتفت، وما دمت تجدُ أنّ عليكَ أن تَمنَحَ أو تُمنَحَ فرصةً أخرى، فسارع لإعطائها أو إيجادها.

لكن يجب أن تعرف قدرَ نفسكَ أوّلاً، وسامح، لا لشيء سوى لترتاح، فإن حملتَ حقداً على أخيكَ نَهَشَكَ الشعورُ، وإن كرهتهُ تمنَّيتَ زواله من فوقِ الأرض، وأنتَ بشرٌ، ليس من حقّك أن تزيلَ أو تُقدِّرَ للآخر ما يجب أن يفعله أو ما لا يجبُ عليه أن يفعله، لا تتدخّل فيما ليس لك فيه علمٌ، قد يكون سيّئاً معك لظروف، وجيّداً بالنّسبة لفئة أخرى؛ وحدود تعاملك -في هذه الحالة- منحصرة في أن تزيحه عن محور وجودِكَ بلا ضرر أو ضِرار.

يُحزنني كثيراً أنّني خسرتُ الكثير من الأشخاص الذين أحبّهم، ويُحزنني أنّي كذلك ابتعدتُ عن الكثيرين، لكنّني طاقةٌ محدودة، ولا أملكُ وُسعاً كافياً لاحتضان أكثر من عشرة أشخاص، وبعض العائلة، وما دمت هُنا، فلكلّ شخصٍ تعرفهُ نصيبٌ منك، فأنتَ وللأسفِ، لستَ كُلّكَ لَكَ. لأهلك نصيبٌ، ولأصدقائك نصيب، ولكلّ محيط بك نصيبه، اهتم بهؤلاء، وأحسِن لمن تعرف ومن لا تعرفُ، وهَبِ الأعذار للآخرين بهذا ستُلاقي السّعادة والهناء.

فلمدّة طويلة تذمّرتُ لسماع هذا أو ذاك، تأذّيتُ من قيلٍ وقالٍ، قُلتُ كردّ فعلٍ لما سَمِعتُ، أمّا وقد رأيت مصائب الآخرين، وقُربَ الموتِ من أيّ شخص؛ صارت كلّ الأشياء تافهةً، وندمتُ أشدّ النّدم على حُزني على ما لا يستحقّ، غير أنّ الحياة كما كرّرتُ عُبورٌ ومدرسة وليس من حقّي أن أندم على ما فات، كلّ ما أملكُهُ من أمري هو: أن أكونَ أكثر سماحةً، وأحمِيَ قلبي، ولا أؤذي. وإن تجاوزَ أحدهم الخطّ الأحمر الذي رسمته أبعَدتُهُ وإن بكيتُ بُعده ليلاً ونهاراً، وصرتُ في رثائه كما وصفَ ابن الزّيات:

ألا مَن رأى الطفل المفارق أمَّهُ

بُعَيد الكرى عيناه تنسكبان

رأى كل أمٍّ وابنها غير أمِّه

يبيتان تحت الليل ينتجيان

وإن مكاناً في الثرى خُطَّ لحدُه

لِمن كان من قلبي بكل مكان

أما إذا ما سامحت الآخرين، فتساءل دائماً: ماذا بشأن نفسك ألن تسامحها؟ فإنّ موطن المرء فيهِ.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حفصاء عمراوي
طالبة وكاتبة مغربية
طالبة فلسفة ومهتمة بمجالات الأمومة والطفل والمجتمع
تحميل المزيد