تحفل أوراق الثورة الجزائرية بقصص أسطورية عن جميلات الجزائر اللواتي خُلدت تضحياتهن وبطولاتهن وأسماؤهن عبر الروايات والسينما، على غرار الجميلات الثلاث جميلة بوحريد وبوباشا وبوعزة، وحسيبة بن بوعلي، ومسيكة زيزا، وفضيلة سعدان، وغيرهن كثيرات.
لكن أخريات لم ينلن هذا الحظ، رغم أنهن قدمن الكثير، فرحلن في صمت وبكثير من الألم، كما لو أن الثورة هرّة تأكل أبناءها، أو لكأن الحياة الماكرة تلتهمهن مثل الأبطال أيام الحرب، لتلفظهن كالنواة في زمن الحرية.
هذه قصة البطلة المأساوية "فاطمة لوصيف"، المكنّاة "عيدة"، أرملة البطل الكبير والشهيد "الصادق شبشوب" المكنى "قوزير"، ومأساة زوجها الثاني عبد الله، الذي زُفت له بعد الاستقلال بعدما اطمأنت لسيرته، وسلوكه، لكن الضمير الجمعي للبلدة التي عاش بها زوج الاستقلال سيقرر معاقبته ومعاقبتها بالعلاقة المتعدية، بالنبذ والهجر والعزل، في بيت قديم بقرية بانيان جنوبي ولاية باتنة.
فقد عاشت "فاطمة لوصيف" وزوجها الثاني حياة قريبة من الفاقة والبؤس، لولا بيع الحجر الذي رحمهما من قسوة البشر. شاءت الأحكام الظاهرية القاسية أن تصنف زوجها الثاني "عبد الله" خائناً للثورة، عقاباً له على سنوات الخدمة في صفوف فرقة "الحَرْكة"، سيئة السمعة، التي أنشأها الجيش الفرنسي من جزائريين باعوا ذممهم للأعداء لمحاربة الثوار الذين هبوا لتحريرهم من نير العبودية.
لا ينكر زوج "عيدة لوصيف" ذلك، فهو يعترف أنه جُنّد في هذه الفرقة لكن للقصة أسرار أخرى، لا يعرفها الذين يقلبون الصفحة قبل قراءة آخر سطر فيها، لذا فإن الرجل خائن وزوجته خائنة حتى لو تعلق الأمر ببطلة زوجة الشهيد والبطل الفذ الصادق شبشوب الشهير بـ"قوزير".
"فاطمة لوصيف" القناصة التي حاربت مع زوجها 15 عاماً
ولدت فاطمة لوصيف عام 1922 في منطقة "زلاطو تكوت" جنوب ولاية باتنة الجزائرية، وتميزت منذ نعومة أظافرها بالنشاط والحركة.
عندما بلغت مرحلة الشباب تقاطر عليها الخطاب، لكنها زُفت لرجل غريب الأطوار يسمى الصادق شبشوب المكنى "قوزير". شاهدها في مناسبة عائلية فقرر أن يطلب يدها، ليس فقط بسبب جمالها الهادئ بل لشخصيتها القوية وروحها المرحة، كما لو أن القدر هيأ له قراناً أبدياً بنصفه الآخر، ولن تخيب السماء ظنه ولا مسعاه، إذ ستتقاسم معه تلك المرأة الجبلية القوية أيام السعد والخطر عندما تدق ساعة الموت على الأبواب.
انضم زوجها إلى مجموعة متمردة بـ"جبال الأوراس"، أطلقت عليها السلطات الفرنسية مصطلح "لصوص الشرف"، في محاكاة لقصة "روبن هوود" الإنجليزية، وهم 16 رجلاً قرروا منذ عام 1947، التمرد على القانون الفرنسي، والالتحاق بالجبال رافعين السلاح، لأسباب مختلفة منها الفرار من أحكام قضائية تثبت تورطهم في قضايا متعلقة بالحق العام، وأخرى مرتبطة برفض التجنيد الإجباري وعصيان أوامر الالتحاق بالقوات الفرنسية المشاركة في الحرب العالمية الثانية.
تطورت أعمال تلك المجموعة إلى ما يشبه الانتقام من مندوبي الإدارة الفرنسية ومعاونيهم الجزائريين، فتحولوا في نظر العامة إلى أبطال، ومنهم الصادق شبشوب الذي رفض الانضمام للجيش الفرنسي ومحاربة الألمان، فعاش طريداً برفقة زوجته التي ظلت وفية له متحملة العيش في قلب الخطر.
قبيل انطلاق ثورة التحرير بأعوام تمكن مصطفى بن بولعيد، وهو من قادة الثورة الستة وأحد مفجريها الأوائل، من إقناعهم بتبني الفكر العسكري والمشاركة في عملية تفجير الثورة في الأول من نوفمبر، فالتحقوا بها دونما تردد.
شاركت فاطمة لوصيف الشهيرة بـ"عيدة" مع شريك حياتها في جمع الأسلحة، حتى أضحت جندية ترتدي اللباس العسكري الرسمي لجيش التحرير، وتعد الطعام للمجاهدين، تارة، وتستكشف لهم المسالك الآمنة بما تمتعت به من فراسة، تارة أخرى، وتستعمل في غالب الأحوال السلاح بمهارة جلبت لها تقدير واحترام المجاهدين الذين وشّحوها كنية "القنّاصة".
يقول الإعلامي صالح سعودي المهتم بتاريخ الثورة الجزائرية: "تناول المؤرخ الفرنسي هنري علاّق سيرتها رفقة زوجها شبشوب في كتابه الشهير كفاح الجزائر، وقال عنها بأنها رامية ماهرة أحيت في الجزائريين أمجاد الكاهنة عندما ظهرت في شريط تلفزيوني وهي تتأبط سلاحاً رشاشاً".
شاركت فعلياً في العديد من المعارك الكبيرة بجبال "أحمر وتيفيراسين وإيش أزيزا وعين زعطوط" بالولاية الأولى، ثم معركة جبل "بوكحيل" الطاحنة، التي قادها العقيد شعباني بالولاية السادسة، شهر سبتمبر 1961، قبل أن تحضر المعركة الأخيرة التي فارقت فيها زوجها ورفيق دربها الأول الصادق شبشوب "قوزير"، الذي سقط شهيداً في معركة قرب نقاوس بولاية باتنة في أكتوبر من العام ذاته، بعدما صار برتبة ضابط أول، فعاشت أشهراً من الحزن على فراقه بعد حياة مضطربة في "جبال الأوراس" دامت 15 عاماً.
أرملة الشهيد تتزوج خائن الشهداء وبائع الحجر
مُنيت حياة "عيدة" بانتكاسة مؤلمة بعد الاستقلال حينما فضلت العيش في مدينة باتنة مع عائلة تكفلت بها، فتم نسيانها تماماً، حتى إن رجلاً من رفاق السلاح الذي يعرف تاريخها وتاريخ زوجها، راح يجمع لها الإعانات المخصصة للمواطنين، وبعضها كان قادماً في إطار المساعدات الأمريكية التي رافقت إعادة ترتيب شؤون الدولة الوليدة بعد حرب طاحنة، حتى بلغ ما آل إليه حالها مسامع رجل شاءت الأقدار أن يكون منحدراً من منطقتها ومقيماً بالحي نفسه الذي سكنته بباتنة.
كان هذا الرجل يسمى عبد الله الذي اتضح لاحقاً أنه كان عليماً بتاريخها الثوري وببطولات زوجها، فتقرب منها حتى ألفها وألفته نظير ما شاب علاقتهما من ود واحترام وتراحم، فروى لها حياته القاسية التي أجبرته على الفرار من منطقته بعدما نبذه أهلها جرّاء تجنده في فرقة الدفاع الذاتي التي أنشأتها السلطات الفرنسية تحت مسمى "فرق الحركة"، فقبلته زوجاً بعدما عرض عليها مشاركته حياته الباقية، قبل أن ينتبذ بها بيتاً قديماً من الطين بقرية بانيان، دائرة مشونش، غير بعيد عن شرفات ومخانق منطقة غوفي الشهيرة.
عاشا معاً حياة منعزلة عن العالم الذي نبذ زوجها الجديد، ثم نبذها هي الأخرى بعدما تناهى لمسمع الناس زواجها من رجل خائن يناقض من حيث المبدأ والسلوك ماضيها الثوري التليد، وقد كان لها أن تتحمل ذلك بصبر، غير أن رميها بالتنكر لتاريخ زوجها الأول الشهيد الذي عاشت معه 15 سنة، أدخلها في نوبة من الصمت والكآبة، دفعتها للامتناع عن أي حديث يتعلق بالثورة الجزائرية.
في سنوات المحنة النفسية والمادية تلك، قيّض القدر لزوجها الجديد عملاً غير متوقع، حيث تنتشر على طول ضفاف الوادي الأبيض بالقرب شرفات منطقة "غوفي"، حجارة بلورية ذات لمعان براق وكريستالي، تعرف بمسمى الصخر الجوفي، فعكف عبد الله على التقاطها وعرضها للبيع للسياح الجزائريين والأجانب الذين كانوا يترددون على البلاد في العقد الأول من سنوات الاستقلال، ما مكنهما من الصمود أمام غول الجوع، بعد حرمانها من أي راتب، والاستمرار رغم حال الكفاف والعفاف في الدفاع عن نفسيهما من التهم الغليظة التي شوهت مصيرهما المشترك.
"الحقيقة مثل جثة القتيل؛ تقاوم الغرق وتطفو فوق السطح على الدوام".
لقاء صحفي عابر يعيد كتابة التاريخ من جديد
هذا تحديداً ما سيقع بعد سنوات طوال من الظلم والحيف والنكران والنبذ، عندما رغب صحفي جزائري عامل بالتلفزيون العمومي، يسمى أبا حفص بن شنوف، في النبش في أصل الحكاية، لأسباب إنسانية بحتة لم يكن يتوقع أنها ستعيد كتابة التاريخ من جديد، وتكمل القصة إلى آخرها قبل غلق الكتاب.
ذلك أن "عيدة لوصيف" التي كانت تزور بيت عائلته أيام التخفي عن السلطات الفرنسية، كانت حملته بين يديها وهو ابن 4 سنوات، ولتلك الأسباب دون غيرها فتحت له قلبها، مؤكدة له أن زوجها ليس خائناً بعبارة: "هل تعتقد أني رفعت السلاح وشاركت مع زوجي الشهيد الصادق شبشوب كي أتزوج رجلاً خائناً؟!".
مرددة بالعبارات نفسها تقريباً ما كتبته الصحفية والمحامية فاطمة عبدلي التي حاورتها ذات مرة قائلة: "اخترت عبد الله زوجاً، لأنني متأكدة من نظافته، وعدم إساءته للثورة أو الثوار، ولقد كشفت لي عشرتي معه عن نبل أصله وطيبة معدنه، ذلك أنه لم يسئ إليّ ولو بكلمة نابية واحدة طيلة هذه السنوات".
أما زوجها سي عبد الله، فقد روى للصحفي "بن شنوف" الوجه الخفي والمضيء للقصة السوداء قائلاً: "عندما قررت السلطات الفرنسية إنشاء فرق الدفاع الذاتي و"الحركة"، طلبت مني قيادات الثورة الانخراط فيها كجاسوس لأقدم لهم الأخبار عن تحركات الفرنسيين ومخططاتهم العسكرية. التقيت أحدهم في يوم ماطر، وكان مسؤولاً في جيش التحرير الجزائري، وكلفني بالمهمة التي أديتها حتى تفطَّن العسكر الفرنسيون لمهمتي السرية، فعُذبت حرقاً في اليدين والرجلين قبل أن يلقى بي في غياهب السجون التي لم أخرج منها سوى بعد الاستقلال، ثم ولأني لم أتحمل الأوزار النفسية الناجمة عن اتهامي بالخيانة والعمالة للاستعمار التي كنت أجابه بها جميع البشر، قررت أن أهجر بلدتي والاستقرار بمدينة باتنة حيث لا يعرفني أحد".
الشاهد الوحيد يعيد الاعتبار للضحية في مقهى البلدة
مع أن الرجل أظهر للصحفي "بن شنوف" آثار التعذيب البادية على بدنه، فإن القصة لن تصدَّق بختم الحقيقة الرسمية، في غياب شهادات موثقة، يعرف عبد الله الزوج الثاني لـ"فاطمة لوصيف" هو وغيره بأنه ما من أحد سيصدقه، فالمثل الجزائري القديم يقول: "من ليس له شاهد يموت كاذباً"، بخاصة أن طرق توظيف الجواسيس تقتضي أن تكون ذات طابع خاص وغير متاحة الأسرار للجميع.
يخبرني الصحفي "بن شنوف" بالترتيب العجيب للقدر، والذي يسميه البعض الصدفة، التي أتاحت له ليكون سبباً مباشراً في حل العقدة الدرامية للقصة بصفة غير متوقعة، ذلك أنه سافر ذات مرة لولاية بسكرة الجزائرية بقصد إجراء عمل تلفزيوني مع عدد من المسؤولين البارزين، بينهم عبد الحميد خنتلة، أحد مساعدي العقيد شعباني خلال الثورة، ورفيقه "سي الطاهر" أحد مسؤولي منظمة المجاهدين، وهناك حدَّثهما عن مأساة عيدة لوصيف وزوجها عبد الله.
فقررا مرافقته لزيارتهما، وكم كانت المفاجأة صادمة حينما اتضح أن "سي الطاهر" هو ذلك القائد الذي جنّد "عبد الله" في ذلك اليوم الماطر، مقدماً حتى أوصافاً دقيقة عن لون وتفاصيل القشابية التي كان يرتديها، فطلب منه المسؤولان الرفيعان الالتحاق ببسكرة في اليوم التالي لتسوية ملف الاعتراف بمشاركته في الثورة بصفة رسمية، وإنهاء حالة الالتباس المدمر الذي سمم حياته وحياة زوجته وأرملة البطل الشهيد.
لكن عبد الله رفض بعزة نفس الحصول على منحة خدمة الثورة وعلى وثيقة الاعتراف، مشترطاً أمراً وحيداً، هو أن تتم مرافقته للمقهى الواقع في ساحة القرية لتناول فنجان قهوة على رؤوس الأشهاد، والشهادة له وتبرئته من كابوس جثم على روحه لعقود طويلة أمام الملأ، وحينما وقع ذلك بالفعل ردد الرجل جريح الكرامة والكبرياء: "لست في حاجة لمنحة مالية، فلدي ما يكفيني كي أعيش مع زوجتي في غنى عن الجميع".
التكريم السماوي يسبق عناية الدولة ليلة عيد الثورة
أنجز "بوحفص بن شنوف"، الذي يرجع له الفضل في إرساء الحقيقة بعد سنوات طويلة من التيه والجحود، فيلماً وثائقياً مدته 45 دقيقة، لصالح التلفزيون الجزائري العمومي، تناول حياة البطلة "عيدة".
كما أفردها بكتاب عنوانه "عيدة.. ما تزرعه النساء يحصده الرجال"، فأعيد لها الاعتبار مثلما أعيد لزوجها عبد الله، فسميت باسمها مدارس ومؤسسات.
لكن القدر العجيب سيتعاطف مع زوجها عبد الله الذي رفض أي تكريم رسمي، ففي عام 2001 رغبت السلطات الجزائرية في دعوتها الشرفية إلى حفل رسمي بمناسبة ذكرى اندلاع الثورة ليلة الأول من نوفمبر، لكن مشيئة الله رأت أن تلحقها بالرفيق الأعلى مساء 31 أكتوبر 2021، أي ليلة ذكرى الثورة المباركة، بفارق ساعات فقط قبل التكريم الرسمي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.