مع اندلاع الأزمة السودانية مؤخراً باشتعال الحرب بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني في 16 أبريل/ نيسان 2023، بشوارع العديد من المدن السودانية، بدأت العديد من المواقع والصحف تتداول دوراً إنسانياً ينتظر دول جوار السودان، ومنها مصر، سواء في استقبال اللاجئين والنازحين، أو في إجلاء رعايا الدول الأجنبية من السودان.
فيما ثار جدل بين المصريين حول ضرورة استقبال الإخوة السودانيين، حضرت فيه نبرات عنصرية، لكن يتم استهجانها من الغالبية العظمى للمصريين، وتغلب على تعليقات مواقع التواصل الاجتماعي رغبة عامة قوية في تقديم الدعم للسودانيين القادمين إلى مصر، ونبذ أية خطابات عنصرية موجودة على هامش الجدل العام.
لكن هناك حديثاً يبدو متصاعداً على الهامش حول التأثير الاقتصادي لهذه الموجات من النزوح والهجرة على مصر، يترجم هذا في الخلط المتعمّد بين أرقام اللجوء والهجرة، سواء في خطاب النظام السياسي المصري، أو المؤيدين له من مواطنين عاديين أقرب إلى اليمين الشعبوي ولجان إلكترونية تكرر كلاماً ممجوجاً حول فرص العمل، والتيه وسط الأجانب في بعض الأحياء، وتستعمل أرقاماً مبالغاً فيها بشدة حول أعداد المقيمين الأجانب في مصر.
كما كانت هناك تصريحات للسيسي حول تأثيرات الاشتباكات في السودان على اقتصاد مصر؛ حيث صرّح في مقابلة مع صحيفة يابانية في الثاني من مايو/آيار 2023 قائلاً "نواجه صعوبات مع فرار كثير من السودانيين إلى مصر، وإذا استقبلنا مزيداً من السودانيين، فسنتأثر بالأزمة حتماً في ظل الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن حرب أوكرانيا"
نحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على أهم التأثيرات المحتملة للأزمة السودانية على الاقتصاد المصري، وكيفية حدوثها عبر تناول مسألة تأثر التجارة البينية والاستثمارات، وتأثير اللاجئين والنازحين وانتقال العمالة على سوق العمل والنظرة لهؤلاء كمستهلكين جدد، وكفرصة في حال وجود تصنيع محلي قوي، أو كتهديد في حالة وجود أزمة غذائية.
التجارة البينية بين مصر والسودان
للسودان أهمية نسبية في السوق العالمي، يكتسبها من بعض منتجاته الأولية التي تُستخدم عالمياً، مثل الصمغ العربي المستخدَم في صناعة الأدوية، وكذلك لديه أهمية إقليمية في صادرات اللحوم والسمسم، لكن يغلب على صادرات السودان الشكل الأولي الذي يفتقد القيمة المضافة التي يتم تسريبها للخارج بشكل كبير عبر تجارة يتم أغلبها عبر وسائط غير رسمية.
حيث إن هذه التجارة تقوم بتصعيد نخب مثيرة للشكوك حول مصادر ثرواتها، مثل حميدتي الذي نشط في تجارة المواشي والأقمشة حتى إنشاء ميليشيا لحماية تجارته.
يشير تقرير لقناة سكاي نيوز عربية إلى أن إجمالي التبادل التجاري بين البلدين ارتفع لقرابة مليار ونصف المليار دولار في العام الماضي 2022، بعدما سجّل نحو 900 مليون دولار في العام 2021، كما يشير التقرير إلى استحواذ السودان على 13.2% من إجمالي قيمة التبادل التجاري بين مصر والقارة الإفريقية.
لكن ما يغفله التقرير أن حجم التبادل التجاري المصري مع إفريقيا ذاته هزيل جداً، ناهيك عن أن هذا الحجم للتبادل التجاري بين مصر والسودان شديد الضعف، وبالمناسبة فإنه لم يتجاوز المليار دولار قبل عام 2021، وهي أرقام هزيلة جداً بين دولتي جوار يقترب تعدادهما السكاني من 150 مليون نسمة، وتربطهما علاقات ضاربة في التاريخ.
بل إذا ما قورنت هذه الأرقام بالتبادل التجاري بين دولتي الإمارات والسودان، اللتين لا تربطهما أية حدود برية أو بحرية، إلا إذا اعتبرنا الجزر اليمنية جزءاً من الإمارات، فإن بيانات وزارة الاقتصاد الإماراتية حول خريطة التجارة الدولية الإلكترونية تشير إلى حجم تبادل تجاري مع السودان في العام 2021 كان في حدود 15.7 مليار درهم، أي ما يعادل 4.3 مليار دولار، ونحن هنا نتحدث عن التبادل التجاري غير النفطي بطبيعة الحال، وهو رقم أكبر من 4 أضعاف التبادل التجاري بين مصر والسودان في نفس العام.
قد تشكل الحرب فرصة لمضاعفة هذا التبادل التجاري، ولتحسين الميزان التجاري الذي يميل لصالح مصر، فبطبيعة الحال توقفت العديد من المصانع عن الإنتاج بسبب الحرب يقتضي أن تقوم التجارة البينية بسد جزء من الفجوة في الإنتاج الذي يحتاجه السوق المحلي السوداني.
لعل ارتفاع التبادل التجاري بين مصر والسودان بنسبة 18% في العام 2022 دليل على هذا الادعاء، فبسبب الاضطرابات في الشارع السوداني بعد انقلاب أكتوبر 2021 توقفت العديد من المصانع وتزايدت التجارة البينية كثيراً بصورة تلقائية، لكن هذا يعتمد أيضاً وبشكل كبير على التغير في موازين القوى الداخلية في السودان وتوجهاتها في إدارة العلاقة مع مصر، فحتى وإن كان جزءاً من التجارة يتم بشكل غير رسمي، فإن الجزء الأكبر من الأرقام المعلنة يتم بترتيب واتفاقات بين الدولتين والأنظمة السياسية.
رغم أن التبادل التجاري بين البلدين لا يمثل أكثر من 1% من إجمالي تجارة مصر مع العالم، فإن أهميته تنبع من كون غالبية الواردات المصرية من السودان، هي واردات غذائية وبخاصة اللحوم والحبوب، وإن كانت لا تشكل نسبة كبيرة من الواردات المصرية إلا أن الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع وقع في وقت حرج، حيث ترتفع أسعار السلع والمحاصيل الزراعية والغذائية عالمياً، ولطالما كان هناك افتراض رسمي وشعبي كبير أن يثمر التعاون بين البلدين حل جانب كبير من تلك المشكلة.
عندما نتحدث عن التأثير على الاستثمارات المتبادلة تشير البيانات المتاحة وفقاً لتقرير الجزيرة نت حول الاستثمارات المشتركة إلى حجم استثمارات سودانية في مصر في الفترة من 2000-2013، بلغ 97 مليون دولار بواقع 315 شركة سودانية، فيما وصل عدد المشروعات المصرية بالسودان في نفس الفترة حوالي 229 مشروعاً برأس مال بلغ حوالي 10.8 مليار دولار.
الأرقام السابق ذكرها ضعيفة إذا ما قورنت بالاستثمارات المتبادلة بين تركيا والسودان أو حتى بعض دول الخليج والسودان، لكن في ضوء التنبؤات باستمرار الحرب، فإن كثيراً من الأنشطة الاقتصادية بالسودان ستتوقف، ويمكن توقع أن تكون مصر خلال الفترة المقبلة وجهة المستثمرين السودانيين في ظل عدم استقرار الأوضاع ببلدهم، ما قد ينعكس على أرقام الاستثمار، لكن من ناحية أخرى قد نشهد أيضاً انسحاباً للاستثمارات المصرية هناك، ما يؤدي لانخفاض كبير في الأرقام الخاصة بالاستثمارات المشتركة.
التأثير على سوق العمل: لا تبدو الخطابات العنصرية أو اليمينية الشعبوية الاستباقية المرتبطة باللجوء والهجرة خطابات قادمة من فراغ أو مجرد خطابات ثقافية، فالخطابات الشعبوية في السلطة والمعارضة ووسط العوام تتخذ من البيانات الخاطئة أو المبالغ فيها مادة دسمة، سواء لابتزاز الخارج بملفات إنسانية مثل ملف الهجرة واللجوء للحصول على دعم أكبر للتعامل مع هذه الأزمات، أو حتى لتبرير السلوكيات العنصرية من قبل المواطنين العاديين.
وفي حالة اللاجئين في مصر تستحضر القضية لاستعراض الفرق في التعامل بين مصر ودول أخرى في مسألة اللاجئين، وهناك مبالغة كبيرة في هذا الأمر، وبالذات فيما يتعلق باللاجئين السوريين في المكايدة السياسية مع النظام التركي، ومؤخراً استخدام المهاجرين السودانيين كمادة للمبالغة في خلط متعمّد في الغالب بين الهجرة واللجوء.
فبينما يجري الترويج لاستضافة مصر لقرابة 10 ملايين من اللاجئين عموماً، ونصفهم من السودانيين، فإن بيانات التقرير الإحصائي لمكتب الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر، الصادر في 31 مارس/آذار 2023 تشير إلى أن مجموعهم لا يصل 294 ألفاً، وأن السودانيين أقل من ربع هذا الرقم بواقع 60779 طالب لجوء.
تتضارب التقديرات حول تأثير ظاهرة الهجرة واللجوء على اقتصادات البلدان المضيفة بشكل عام، إلا أن الأمر يرتبط ببنية الاقتصاد ومؤشرات سوق العمل والنظرة لهؤلاء كمستهلكين جدد، وبالتالي كفرصة في حال وجود تصنيع محلي قوي أو كتهديد في حالة وجود أزمة غذائية، فإذا كان غالبية المهاجرين يعملون في وظائف ثابتة وشركات مستقرة، فهذا يشير إلى أن المهاجرين في مصر يساهمون بشكل إيجابي في سوق العمل ونمو الاقتصاد المصري، لكن هذا يتطلب سياسات تحفيزية لتنشيط سوق العمل.
مصر والسودان واحتمالية انتقال الصناعة
في حالة طال أمد الحرب -لا قدر الله- تشير التجربة إلى هروب رؤوس الأموال للخارج في أوقات الأزمات، وفي الأزمات الممتدة، فإن رؤوس الأموال هذه لا تخرج كسيولة فقط، بل قد يتم تفكيك مدن صناعية وأنشطة اقتصادية بأكملها ونقلها إلى دول الجوار.
تشير حالة الحرب الأهلية الممتدة في سوريا منذ 2011 إلى انتقال شبه كامل للصناعات السورية من مدينة حلب إلى مدينة غازي عنتاب التركية وبعض المدن الحدودية الأخرى، الأمر الذي أحدث طفرة كبيرة في هذه المدن بالتوازي مع تفريغ حلب من مصانعها التي دمرت الحرب العديد منها أو على الأقل قضت على البنية التحتية التي تخدمها، وعلى أية فرضية لاستقرار رؤوس الأموال بها.
آمال عريضة واتفاقات غير مفعلة
تربط بين مصر والسودان العشرات من الاتفاقات غير المفعلة، بالرغم من مرور قرابة عقدين على توقيع البلدين اتفاق الحريات الأربع الذي نص على: حرية التنقل، وحرية الإقامة، وحرية العمل، وحرية التملك بين البلدين في عام 2004، فإن هذا الاتفاق لا يزال محل نقاش لسبل تفعيله وهو مادة ترويجية لكل زيارة رئاسية أو وزارية بين البلدين.
ومن العجيب أنه لا تزال هناك تأشيرة دخول بين البلدين، ومن التطورات الإيجابية مؤخراً أن مطلب إلغاء تأشيرة دخول السودانيين لمصر أطلقت عدة مطالبات من قبل نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، وأن الحكومة المصرية أبدت بعض المرونة في التعامل مع الفارين من الحرب الدائرة في السودان استجابة لهذا الضغط الشعبي.
لكن مسألة إلغاء التأشيرات كلياً تبدو بعيدة المنال في النظام المصري الذي يبحث عن أية مصادر للدخل ويقدم المحاذير الأمنية على كل شيء، ومنذ انقلاب الـ3 من يوليو 2013 ظل يتعامل مع كل المسافرين المصريين للسودان باعتبارهم أعضاء من المعارضة.
اتفاقية الربط الكهربائي بين مصر والسودان
تتحدث بعض التقارير المصرية بمبالغة شديدة حول اتفاقيات الربط الكهربائي الطموحة التي تتضمن تصدير مصر لـ 3000 ميغاوات من الكهرباء للسودان منذ 2020، فإن التصريحات الرسمية حتى كتابة هذا التقرير لا تشير إلى أكثر من 300 ميغاوات تم إنجازها أي إننا نتحدث عن 10% فقط من المستهدفات، رغم الفائض الكبير الذي حققته مصر في قطاع الكهرباء والطاقة في السنوات الماضية، ولا تزال الطرق البرية التي أعلن عن افتتاحها أكثر من مرة مغلقة معظم الوقت.
في التحليل الأخير قد يكون للحرب الدائرة في السودان تداعيات سلبية على العلاقات الاقتصادية بين البلدين تجارة واستثماراً، لكن بعض تأثيراتها على الاقتصاد المصري تبدو إيجابية وقد تتضاعف تلك التأثيرات الإيجابية في حالة وضع سياسات جيدة للتعامل معها فدول الجوار تصبح أكثر المستفيدين من رؤوس الأموال الفارة من مناطق الصراع، والتي تستطيع فتح مشروعات جديدة تستوعب المهاجرين أنفسهم وتزيد من القيمة المضافة لإنتاجهم وللاقتصاد الوطني.
لكن على الجانب الآخر، فإن الحديث عن عبء اللجوء يجب أن يؤخذ بجدية أكبر، بعيداً عن خطابات استجداء الخارج، لأن المسألة شديدة التأثير على قدرات الدولة وعلى المجتمع وصراعاته الداخلية، ويطرح عدة تساؤلات قد تبدو موضوعية أحيانا حول استعداد الاقتصاد المحلي والبنية التحتية لاستقبال المزيد من اللاجئين والمهاجرين في وقت تحارب فيه الحكومة المصرية الزيادة السكانية باعتبارها عدوها الأول.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.