في الحقيقة؛ لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تُعلن فيها صالة مزادات، بيع الآثار مصرية، فلا يكاد يمر شهر أو يزيد حتى نسمع عن مثل تلك الإعلانات بـ"لندن وباريس ونيويورك" وغيرها من العواصم العالمية، لكنها – وللأسف – تلك هي المرة الأولى التي نرى فيها رأس مومياء مصرية يباع هكذا عياناً بياناً.
الغريب أن صالة مزادات "Swan Fine Arts" في مدينة تتسورث ببريطانيا، طرحت الأخلاق جانباً، وهي تسمح لنفسها بأن تعرض بقايا بشرية للبيع، فهذا الرأس المصري القديم؛ ليس تحفة أثرية يمكن اقتناؤها والتزين بها، إنما نفس بشرية ما كان لأحد – أياً كان – أن يعلن عن بيعه. هذا فضلاً عن كونه جزءاً من تراث مصر، يحمل تاريخاً عريقاً يخصنا نحن المصريين!
وهذا الرأس الذي يُعرض – مع قطعة مصرية أخرى عبارة عن يد بشرية – يعود تاريخه لنحو 2800 عام، حيث استطاع علماء من خلال استخدام تقنية الكربون المشع تأريخه للفترة الانتقالية الثالثة التي تمتد ما بين (1070- 664 ق.م).
تقول دار المزادات؛ إن رأس المومياء خرج من مصر أثناء الحرب العالمية الأولى، أي منذ ما يزيد على 100 عام، مع جندي بريطاني كان يعمل بمصر، وأن عائلة هذا الجندي – لم تذكر دار المزادات اسمه – قامت بوضع الرفات البشرية في صندوق زجاجي كي يراه الناس، غير أنه لم يعجبهم النظر إليها، فقامت العائلة ومنذ زمن بتخزين الرفات في صندوق محكم، ومؤخراً ارتأت العائلة عرض الرفات على دار المزادات، ولم تقترح سعراً محدداً، وقالت – أي العائلة – إنها ستتبرع بالرأس لأحد المتاحف حال لم يشتره أحد!
وأعلنت الدار؛ أن سعر الرأس في المزاد يبدأ بـ 25 ألف دولار أمريكي، لكن من المحتمل أن يرتفع سعره عن ذلك بكثير، خاصة أنّ هذه هي المرة الأولى التي يُباع فيها رأس مومياء. كما أنه، ومن المتوقع أن يقوم أحد المتاحف العالمية بشراء الرأس والقيام بدراسات وأبحاث علمية عنه.
أين وزارة السياحة من الآثار المصرية المسروقة؟
وبعد أن انتشر خبر الإعلان عن بيع رأس المومياء المصرية، وذاع بوسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الإخبارية، أصدرت وزارة السياحة والآثار المصرية بياناً مقتضباً، أوضحت في مقدمته أنها نجحت – نعم نجحت هكذا تقول – "في رصد أحد المزادات المقامة بصالة Swan fine Arts في مدينة "تتسورث" بالمملكة المتحدة، تقوم بعرض قطعتين أثريتين مصريتين ضمن معروضاتها". فالوزارة تعتبر أن معرفتها بخبر البيع هو نجاح في حد ذاته!
وأعلنت الوزارة – كالعادة في مثل تلك الحالات – أنها اتخذت الإجراءات اللازمة من أجل الاطّلاع على المستندات الخاصة بالقطع المعروضة للبيع، للتأكد من خروجها من مصر بشكل شرعي أم لا، وأنها في حال التأكد من خروجها بشكل غير شرعي، فإنها ستتخذ الإجراءات اللازمة لوقف عملية البيع. وهذا في الحقيقة هو أقصى ما يمكن أن تقوم به الوزارة!
نعم، هذا هو أقصى ما يمكن أن تقوم به الوزارة، فدُور المزادات – بشكل عام – التي تعلن عن بيع الآثار؛ لا يمكنها إقامة معارض أو بيع قطع أثرية إلا إذا كان لديها ما يثبت ملكيتها. لذا فإن هذا الرأس؛ لم يكن ليُعرض للبيع لو لم تكن صالة مزادات"Swan fine Arts" تملك بشأنه الوثائق التي تحميها. وإن كانت دور المزادات تتلاعب أحياناً بالوثائق، كما حدث مؤخراً في باريس وواشنطن من خلال قيام بعض تجار الآثار باختلاق وثائق وهمية لعشرات من قطع الآثار المصرية التي بيعت لمتحفي "اللوفر أبوظبي والمتروبوليتان للفنون بنيويورك"!، والتي أثبتت التحقيقات الأمريكية والفرنسية فيما بعد أنها وثائق مزيفة!
لا يقتصر الأمر على دور المزادات الكبرى، فهناك عشرات المواقع الإلكترونية التي تعرض آلاف القطع الأثرية المصرية للبيع المباشر، أو عن طريق المزادات، وتتم عملياتها في هدوء، ولا يبدو أنها تلفت انتباه السلطات المصرية التي لا تتحرك إلا إذا أثيرت ضجة إعلامية!
تاريخ سرقة المومياوات المصرية والآثار المصرية
قد يتعجب البعض منا أو يندهش من قيام جندي بريطاني بحمل مومياء مصرية إلى بلده، لكن قد يخبو هذا التعجب ويخفت هذا الاندهاش؛ حين نعلم أن تاريخ مصر وآثارها كانت هكذا متاحة لكل من هبّ ودب.
فقبل أربعين عاماً من الآن، وقبل صدور قانون حماية الآثار 117 لسنة 1983 كانت تجارة الآثار في مصر مشروعة، وكانت حوانيتها منتشرة في كل مكان، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى؛ كانت البعثات الأجنبية الخاصة بالحفائر – وما أكثرها – تتقاسم مع الحكومة المصرية ما تتحصل عليه من عمليات الحفر والتنقيب التي تقوم بها في الأراضي المصرية!
ولم تكن تلك هي الأسباب الوحيدة لنهب آثارنا المصرية، فقبل ذلك بقرون كانت أرض مصر سداحاً مداحاً، فما من أحد قدِم إليها إلا وأعجب بآثارها، وتمنى أن لو يحمل معه إلى وطنه ما استطاع منها، وكان لجهل بعض أبناء الشعب المصري، أو تجهيلهم، دور كبير في تسهيل عملية نهب الآثار، كما كان للحكام المحتلين دور أكبر في تلك السرقات، فهؤلاء الحكام المحتلون اتخذوا من الآثار المصرية – قوى ناعمة – استطاعوا من خلال إهدائها، والسماح للصوص الأجانب بالحفر والتنقيب دون رقيب أو حسيب – لتثبيت عروشهم المهتزة!
وفي ذلك الوقت كانت تجارة المومياوات – على الأخص – تجارة رابحة؛ فقد كان سائداً أن "القار" الموضوع على المومياوات يشفي الأمراض والجروح والكدمات، لذا فقد ولع الأجانب، وخاصة البريطانيين بها، حتى إن أقدم مومياء مصرية عُثر عليها حتى الآن، لا تزال موجودة بالمتحف البريطاني بلندن. بل لقد استطاعت بريطانيا – من خلال مبعوثيها – نهب العديد من المومياوات المصرية من مقابر مصر العديدة الممتدة بين منف وطيبة، أما عن مئات الألوف من قطع الآثار المصرية المنتشرة بمتاحف العالم المختلفة، فحدث ولا حرج، في ظل عجز الدولة عن استرجاعها.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن؛ هل تستطيع وزارة السياحة والآثار إيقاف عملية البيع، وإعادة الرأس إلى مصر؟.. والجواب الذي لا لبس فيه – وبكل أسف – أن الرأس سنراه قريباً معروضاً بإحدى قاعات متحف عالمي.. ولن تستطيع الوزارة إعادته إلا إذا أثبتت بالدليل القاطع أنه خرج من مصر بشكل غير شرعي طبقاً للقوانين الدولية المعمول بها في مثل تلك الحالات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.