"بيض أقل، لحوم أقل، والكثير من أقدام الفراخ".. هذه ليست بداية نكتة أو فزورة، بل هذا ما يعيشه المصريون في واقعهم، وهذا ما تعتبره وسائل الإعلام المصرية بديلاً جيداً للتضخم الذي أصبح من المستحيل على أي شخص تجاهله.
اليوم من الواضح أن الكثيرين بدأوا يفقدون صبرهم على الوضع الاقتصادي المتعثر باستمرار. "لا نعرف إلى أين تتجه البلاد، أشعر أنني أدافع من أجل البقاء على قيد الحياة كعمل تجاري، وقد تحولت (مجازياً) إلى ربة منزل تحاول فقط إبقاء منزلها المتواضع واقفاً على قدميه".
هذا ما قاله مدير عام لشركة دولية في القاهرة منذ 30 عاماً. في تقرير البنك الدولي الصادر في أبريل 2019، قُدر أن نحو 60% من سكان مصر تحت خط الفقر، حيث يعيش أكثر من نصف سكان البلاد بأقل من دولارين في اليوم.
أنياب صندوق النقد الدولي
منذ بضعة عقود، كان الاقتصاد المصري في حالة متعثرة، ولمواجهة هذه الحالة مرة أُخرى لجأ النظام المصري، في يناير الماضي، إلى صندوق النقد الدولي من أجل خطة إصلاح اقتصادي مدتها 46 شهراً بقرض قيمته 3 مليارات دولار، ما جعل مصر ثاني أكبر مَدين لصندوق النقد الدولي في العالم بأكثر من 23 مليار دولار. صندوق النقد الدولي ليس الدائن الوحيد لمصر، حيث بلغ الدين العام للبلاد قرابة 162 مليار دولار من الديون الخارجية، وهو ما يعادل حوالي 86% من ناتجها الاقتصادي السنوي.
إن محاربة هذا العبء الثقيل من الديون، بالإضافة إلى العجز التجاري الذي يتجاوز 33.47 مليار دولار، والعجز الصارخ جراء سحب 20 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية منذ عام 2021 تحتاج جهداً كبيراً.
إذ لا يمكن الاعتماد فقط على صندوق النقد الدولي، حيث يستغل صندوق النقد الدولي بنية الاقتصاد المصري من خلال نشر معدلات نمو مبالغ فيها، لا تضاف مستويات الديون في الحسبان، كما يجر الحكومة رغماً عنها إلى سلسلة من القروض المختلفة. نظراً للطبيعة المعوقة للوضع الاقتصادي في مصر واحتياج النظام لمساعدة فورية، والذي يرجع جزئياً إلى مطالب صندوق النقد الدولي السابقة لمصر، فقد أعطى صندوق النقد الدولي نفسه اليد العليا في المفاوضات مع الحكومة المصرية. وهذا ما سمح له بأن يكون له التأثير الأكبر في السياسة النقدية المصرية بطريقة نيو ليبرالية متوحشة.
لا نستثني أحداً
في حين تلعب السياسات النيوليبرالية الصارمة التي ينتهجها صندوق النقد الدولي تجاه البلدان النامية دوراً في ازدياد الظروف الاقتصادية السيئة، لاسيما في مصر، أيضاً يجب محاسبة جزء من العناصر الحكومية على اتخاذ قرارات اقتصادية غير مدروسة، ما أدى إلى دخول صندوق النقد الدولي في هذا السيناريو السخيف من البداية.
"تكون الحكومة المصرية جريئة وجادة عادة في تنفيذ مطالب إصلاحية ضد مصالح الشعب الفورية"، كما وصف المحلل الاقتصادي المصري مجدي عبد الهادي، في المقابل "تكون شديدة التماسك والعناد عندما يتعلق الأمر بمصالح الشبكات المهيمنة، أو تلجأ للالتفاف على الإجراءات، كما فعلت بالتنفيذ المشبوه لأغلب برامج الخصخصة".
يمكن ملاحظة ذلك في أساليب الإنفاق المشكوك فيها للحكومة المصرية في مشروعات مختلفة، كالسيطرة الاقتصادية الهائلة للمؤسسة العسكرية، ما أدى إلى تآكل مشاركة القطاع الخاص في الاستثمار. في السنوات الأخيرة احتكرت الأجهزة العسكرية والاستخباراتية أنشطة هائلة من الاقتصاد المصري، حيث سيطرت بمفردها على صناعات بأكملها، أهمها العقارات.
كما يُعرف داخل دوائر القطاع الخاص حضور لواءات من المؤسسة العسكرية في الاجتماعات التي يتم فيها تحديد السياسات الاقتصادية بشكل مستمر، وغالباً ما تكون لديهم القدرة على رفض الكثير من البدائل الاقتصادية. نتيجة لذلك تصل الحكومة المصرية إلى وضع غير مستقر للغاية، مع تزايد الضغوط المحلية والدولية من أجل التغيير، قبل أن يُفلت الوضع بشكل غير مسبوق في السنين الأخيرة.
رغم أن مصر عانت من عدم الاستقرار الاقتصادي في معظم تاريخها الحديث، فإن العقد الاجتماعي الذي تم تطويره بين الدولة والمواطنين قد تم التمسك به إلى حد كبير، حيث توفر الدولة المنافع الاقتصادية والاجتماعية والإعانات التي تشتد الحاجة إليها في مقابل التسامح الاجتماعي والسياسي للتعديات الحقوقية وانغلاق الحياة السياسية.
ومع ذلك، في ظل النظام الحالي، تم قطع العديد من المساعدات الاجتماعية والدعم، وشطب قطاع هائل من المصريين من بطاقات التموين، فضلاً عن إغلاق مساحات حقوقية وسياسية، ووجود عشرات الآلاف من السجناء السياسيين. وقد جعلت هذه الإجراءات العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها عديم الفائدة تقريباً، وقريباً يوجد احتمال كبير أن يبدأ الشعب المصري في التشكيك حول طبيعة الدولة في حياتهم.
ما الذي يمكن توقعه للمستقبل؟
مع تصاعد مثل هذا الضغط الهائل على الحكومة المصرية، فإن صناع القرار لديهم خياران محتملان للتعامل مع هذا العبء:
الخيار الأول وهو الأكثر تفضيلاً بالتأكيد، هو الانفتاح الاستراتيجي للقطاعين السياسي والاقتصادي في البلاد، إلى جانب الإفراج الفوري عن جميع السجناء السياسيين. يخفف هذا المسار من الضغوط المتزايدة على الحكومة، كما يشير إلى الاستقرار وبدء اتخاذ قرارات عقلانية بشأن المستثمرين الأجانب والجهات الفاعلة الدولية.
كانت هناك بعض المؤشرات على أن الحكومة تدرس اتخاذ هذا المسار مع بدء الحوار الوطني، في 4 مايو من هذا العام، بين الحكومة وأحزاب المعارضة التقليدية، مع خطط لبيع أكثر من 32 شركة حكومية من أجل تخفيف قبضة الجيش على اقتصاد البلاد. ومع ذلك، يرى العديد من المحللين أن هذه مجرد حركة استراتيجية من الحكومة، سعياً لإرضاء صندوق النقد والمجتمع الدولي، للاعتقاد بأن النظام المصري يقوم بإصلاح حقيقي، هذا ما يناقضه استمرار سجن صحفيين بارزين ومدافعين عن حقوق الإنسان دون محاكمات عادلة، فضلاً عن استمرار سيطرة الجيش على القرارات الاقتصادية الرئيسية.
ومع ذلك، لا يزال لدى الحكومة الوقت والقدرة على تحويل مصر إلى وضع اقتصادي وسياسي أفضل، إذا كان هناك استعداد ورغبة حقيقية للقيام بذلك.
أما الخيار الثاني، وهو الاستمرار في تهميش جميع المراكز الاقتصادية البديلة وأصوات المعارضة، والمزيد من القرارات غير المتوافقة مع مصالح الشعب.
هذا مع عدم وجود هيئة إشرافية أو شفافية حكومية أو وسائل إعلام محلية موضوعية، لا تطرح على المصريين تناول أقدام الفراخ كحل للأزمة الاقتصادية، بل تسعى نحو نقل استياء المواطنين من القرارات الحكومية غير المدروسة. في حين أن هذا الخيار من شأنه أن يعفي النظام نفسه من لعب السياسة والتوافق مع أطراف المعارضة، لكن سيؤدي إلى غضب شعبي، ربما ينفجر بطريقة لا يمكن السيطرة عليها، ما سيُغرق مصر في حلقة مفرغة من عدم الاستقرار، مع المزيد من الفقر والجياع والغضب.
مع بداية طرح عدة أسماء للترشح في الانتخابات الرئاسية، وتحديداً عقب إعلان المعارض المصري ورئيس حزب الكرامة السابق أحمد الطنطاوي الترشح للانتخابات الرئاسية "لتقديم بديل مدني ديمقراطي"، والعودة إلى مصر في 6 مايو الجاري، من المفترض أن توضح الحكومة المصرية للجميع إلى أي مسار تتجه في الفترة المقبلة، خاصةً حيال طريقة تعاملها مع أحمد طنطاوي عندما يصل إلى مطار القاهرة.
في حال قررت الحكومة فتح المجال السياسي والاقتصادي بشكل حقيقي، فإن المسؤولية الكبرى تنتقل إلى ما تبقى من جماعات المعارضة والنخبة السياسية المصرية داخل البلاد.
ما نحتاجه في الفترة المقبلة هو العمل السياسي الجماعي والنقاش من جميع أفراد المجتمع المدني والمثقفين البارزين داخل وخارج مصر، للالتفاف حول تنظيم سياسي يمكنه تقديم بديل للنظام الحالي.
لقد رأينا بالفعل مدى فاعلية التنظيم، مع الفوز المفاجئ للصحفي خالد البلشي كرئيس جديد لنقابة الصحفيين خلال شهر مارس. وكان خصم البلشي خالد المري، المدعوم بقوة من قبل الدولة، من حيث الظهور الإعلامي خلال الانتخابات، كما كان ينظر إليه على أنه الفائز المُتوقع قبل خوض الانتخابات. من خلال حملة منظمة للغاية ومركزة ومتفانية، تمكن البلشي من التغلب على المري والفوز بالمقعد، وهو مثال رئيسي- مع طبيعة اختلاف السياقات الانتخابية، من نقابة الصحفيين إلى رئاسة الجمهورية– على مدى أهمية هذا النوع من التنظيم لمستقبل البلاد.
إذا قررت الحكومة اتخاذ المسار الأول، فإن هذا التنظيم السياسي يمكن أن يطالب بشكل فعال بإصلاحات سياسية واقتصادية ملموسة بطريقة موحدة، ما يزيد من قوتها في المفاوضات، وبالتالي احتمال موافقة الحكومة المصرية على المطالب الإصلاحية. وفي حالة سلك المسار الآخر، فإن الحوار والخطاب السياسي رغم استمرار حصاره، الذي يبدأ من الآن، يساعد على خلق مناخ سياسي متعدد الأفكار، وقابل للرأي والرأي الآخر بين النخبة، لإنشاء مناخ سياسي صحي جديد.
تدخل مصر مرحلة انتقالية وعابرة في تاريخها الحديث، وسوف يتغير الوضع الحالي آجلاً أم عاجلاً. لدى المسؤولين السلطة والقدرة على تحديد كيف ومتى ستحدث هذه التغييرات التي تشتد الحاجة إليها، سواء أكانوا سيفعلون هذه التغييرات عن قراءة حقيقية للأزمة، أم حتى بشكل اضطراري، على تغيير الوضع الذي وصلنا إليه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.