في مثل هذا اليوم من عام 2021 كنا نضع اللمسات الأخيرة للتحضير لوضع رؤية وطنية استثمارية لمستقبل السودان الجديد في مجالات البنية التحتية والطاقة والصناعة والزراعة والري والثروة الحيوانية وغيرها، في شكل مشروع وطني بدأ مشواره مباشرة عقب نجاح ثورة ديسمبر المجيدة، وكان هدفه الأساس فتح أبواب المساهمة لكل الكفاءات الوطنية لدعم المرحلة الانتقالية، ولإعادة بناء الدولة بأسس علمية.
هذا المشروع الوطني الخالص وقفت عليه خبرات سودانية وطنية من مختلف بقاع الوطن، وأيضاً مختلف الرؤى السياسية والفكرية من الداخل والخارج (ممثلين للسودانيين من كل قارات العالم). عملوا جميعاً متطوعين لمئات الساعات في شكل جماعي رغماً عن اختلاف الأماكن والتوقيت، وجلهم لم يكن له سابق معرفة ببعض.
ففي كثير من الأحيان يكون الاجتماع نهاراً بتوقيت السودان وليلاً أو حتي فجراً عند الآخرين. كان هدفهم الأساس وضع تصور لكيفية ترتيب منظومة الدولة وتطوير المشاريع والأفكار بصورة علمية على المقاييس الدولية، وبناء منظومة شفافة تمنع أي فرص فساد أو استغلال للسلطة أو مقدرات الدولة لصالح أفراد أو جماعات، عكس ما تعودنا عليه طوال حكم الإنقاذ، الذي للأسف ما زال مسيطراً على منظومة إدارة الدولة والخدمة المدنية حتى بعد الثورة بقوانينه وشخوصه.
بالتأكيد لم تتح للحكومة الانتقالية فرصة تغيير جل النظم والقوانين واللوائح التي ما زالت إلى اليوم بنفس العقلية القديمة، وتدار من نفس الشخوص التي لم تتعلم ما هو أفضل مما تعودت عليه طوال سنين نظام الإنقاذ.
الملحمة الوطنية المذكورة شارك فيها متطوعون -بلا أي مقابل- من أفضل الخبرات السودانية حول العالم في كل المجالات القانونية، والاقتصادية، والإدارية، والهندسية، والطبية، وعلوم الاجتماع وغيرها، وأهمهم الخبراء في مجالات التخطيط ووضع الاستراتيجيات لدول وشركات كبرى اقتصادياتها ومشاريعها تفوق عشرات مليارات الدولارات.
كان تركيز الجميع على أهمية توسيع قاعدة الفائدة لتلكم المشاريع لتشمل أكبر عدد من القطاعات، فمشروع زراعي ضخم يجب أن يكون مصاحباً لمشروع طاقة وبنية صناعية وطرق وكباري ليضمن نجاحاً متكاملاً ونقلة اقتصادية ومجتمعية متوازنة تضمن توزيعاً عادلاً للمشاريع في كل أطراف السودان، مع التركيز على المناطق المهمشة التي عانت مع الحروب، لتخلق فيها نهضة اقتصادية كبيرة تساعد على الاستقرار.
تشرفت في الفترة من مارس إلى مايو 2021 بالتطوع كرئيس للجنة كونت من قبل وزير الطاقة والنفط حينها، لوضع خطة لمشاريع الاستثمار في الوزارة، وللتحضير لمؤتمر باريس والمؤتمرات التي تليه من الاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج وغيرها.
وشارك معي فريق من المتطوعين من الأفضل في مجالاتهم عالمياً في القانون والاستثمار والبنوك والتخطيط الاستراتيجي وقطاع النفط والكهرباء وغيرها، عملوا يداً بيد مع مجموعة مميزة من أفضل الكفاءات الشابة من موظفي وموظفات وزارة النفط والطاقة، ممثلين لكل الأقسام الأساسية: بدءاً من قسم الاستكشاف وإنتاج النفط والغاز، لقسم نقل الخام وتخزين المواد البترولية، إلى قسم المصافي وصناعة البتروكيماويات، إلى قطاع الكهرباء بأقسامه المختلفة من التوليد إلى النقل إلى الطاقة البديلة، مع قسم التخطيط الاستراتيجي بالوزارة.
عمل هذا الفريق لعشرات الساعات في تناغم عالٍ جداً مع بعضهم ومع الخبراء المتطوعين ليل نهار، ولأول مرة في تاريخ الوزارة بهذا الشكل كما أكد الجميع ليخرجوا بقائمة مشاريع قومية في مختلف بقاع السودان، وتصور دقيق لأولويات هذه المشاريع وارتباطها بالقطاعات المختلفة كالصناعة والزراعة والبنية التحتية وغيرها. ولأول مرة نجحوا في التقييم بنظرة متكاملة، وليست نظرة المصلحة المحددة لقسم من أقسام الوزارة لأنه هو من اقترح المشروع، أو حتى لأنه توصية من جهة عليا. الروح الجماعية للعمل في هذا الفريق لم تصنف أياً من أعضائه أو تستثنِ أحداً من المشاركين بناءً على فكر أو لون سياسي أو مناطقية، أو حتى أعطت أحداً أفضلية على الآخرين لأنها كانت بروح عمل جماعي لمشروع وطني خالص أنتج قائمة تفصيلية بمشاريع تفوق العشرات من مليارات الدولارات للوزارة، مع تفاصيل كيفية اختيارها ومميزاتها للمستثمرين، ووصف تفصيلي لمميزات الاستثمار في المشروع في أن يفتح للمستثمر أبواب استثمار إضافية في المشاريع المكملة الصناعية والزراعية والبنية التحتية.
أهم ما تركنا للوزير حينها في تقريرنا الختامي توصية محددة فيها تفاصيل لوائحية كاملة عن كيفية تطوير هذه المشاريع بنسق عالمي، وبدرجة عالية من الشفافية لا تتيح لأي كائن من كان مستقبلاً أن يستخدمها كباب للفساد أو المحاباة لأي جهة كما كان الحال بجل مشاريع الوزارة في خلال فترة نظام الإنقاذ الفاسد.
استخدمت رئاسة مجلس الوزراء منظومة الفرز والعرض للمشاريع التي تم تطويرها من قبل هذا الفريق لكل مشاريع الوزارات الأخرى، وقدم ممثلون لفريقنا محاضرة تفصيلية عن الأساليب التي تم تطويرها لكل وكلاء الوزارات في اجتماع رسمي لمجلس الوزراء، وكان من قدم حينها هذا العرض التفصيلي مجموعة من الشباب الموظفين بوزارة النفط والطاقة ومجلس الوزراء فيهم أعضاء هذا الفريق.
هل تصدقون أن مشاريع الطاقة والمشاريع المصاحبة بشرق السودان فقط التي تم تطويرها وفتحها للاستثمار تفوق ١٣ مليار دولار أمريكي؟ وكنا نتوقع في بدايات 2023 أن تكون ضربة البداية للعديد منها لتخلق لأهلنا في الشرق فرص استقرار وتنمية مجتمع تفوق كل ما تحقق منذ الاستقلال.
أيضاً مشاريع الطاقة في غرب وجنوب وشمال السودان كانت مقترح انطلاقة لنهضة اقتصادية تغير ملامح الوطن.
وفي اليوم الثاني من مايو 2023 بعد عامين أخذنا هؤلاء العسكر والجنجويد، نتاج لجنة البشير الأمنية، الطامحون للسلطة وإبقائها في أيديهم خدمة لمصالحهم الشخصية والفئوية ولحزب نظام البشير البائد وللدول التي ترعاهم وتنهب في ثرواتنا؛ إلى درب دمار شامل حتى للمرتكزات لدولة السودان وبنياتها الضعيفة سلفاً، عاملين في هدم وتدمير المؤسسات والمصانع والبنية التحتية في حرب لا تخص المواطن السوداني بأي شيء، فهم من خلق هذا الدعم السريع ليقتلوا به الشعب السوداني والآخرين، والآن هم يتخلصون منه بقتل الشعب وهدم البلد ككل فوق رؤوسنا.
حسبنا الله ونعم الوكيل..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.