نور الدين زنكي بن آق سُنقر التركي، واحد من أشهر القادة العسكريين والسياسيين المحنكين والمصلحين الفاعلين في تاريخ الإسلام في القرن السادس الهجري/الحادي عشر الميلادي، فهو قائد فذ، ابن قائد فذ، وجده أيضاً كان من القادة الكبار في تاريخ الدولة السلجوقية.
والسلاجقة، كما نعلم، قوم أتراك نصروا الدولة العباسية، وأحيوا المذهب السُّني، فبعد سيادة الشيعة في القرنين الرابع والخامس الهجري، جاء السلاجقة وامتدت دولتهم من وسط آسيا على حدود الصين إلى غرب آسيا على شواطئ البحر المتوسط، بل إلى بحر مرمرة على تخوم الدولة البيزنطية التي لاقت منهم أسوأ هزيمة، محوا فيها بكل قدرة لديهم تأثير الدول الشيعية التي أخضعت الخلافة العباسية، وسيطرت على مصر والشام والجزيرة العربية وبلاد فارس.
وقد قام بناء هذه الدولة على نوع من الفيدرالية التابعة للمركز، فالسلطان السلجوقي منذ زمن طغرل بك وألب أرسلان وملك شاه وأحفادهم هو القائد الأعلى لهذه الدولة، وأبناؤه يتولون الأقاليم والمقاطعات بمعاونة قيادات عسكرية تركية تامة الولاء للدولة السلجوقية، ومن هذه القيادات المحلية في الموصل وبلاد الشام ظهر آق سنقر، والد عماد الدين زنكي وجد نور الدين محمود، وكل من زنكي وآق سنقر أسهما بدور فاعل في مواجهة موجات التشيع التي انتشرت في حلب مركز الدولة الحمدانية الشيعية، كما أسهما في دحر العدو الصليبي، وقد استطاع عماد الدين زنكي أن يحقق نجاحات كبرى في إعادة ماردين وتوحيد الموصل ومناطق واسعة من بلاد الشام، مثل الفرات وحلب والرقة وغيرها، ثم جاء نور الدين محمود من بعد وفاة والده في عام 541هـ، فأكمل مشروعه العظيم بتوحيد الموصل والجزيرة الفراتية جنوب الأناضول بحلب، وأخيراً تكلل هذا النجاح بدخول دمشق وضم بلاد الشام كلها ضمن هذا المشروع.
كما تمكن من استعادة العديد من المدن والقلاع من الصليبيين وتحصين مدن الثغور المتماسّة مع العدو، واحتضن نور الدين محمود ووالده من قبله البيتَ الأيوبي؛ إذ سيُكمل صلاح الدين الأيوبي هذا المجهود العسكري الضخم، والإصلاحات الداخلية في مقاومة المشروع الشيعي، ونشر المدارس السنية، واحتضان العلماء وطلبة العلم، وإيقاف الأوقاف على المؤسسات العلمية والصحية والاجتماعية المختلفة.
سمات قيادة نور الدين زنكي وفقاً لرواية ابن عساكر
وتمدنا مصادر التاريخ الإسلامي بصورة مثالية عن القائد نور الدين زنكي في ميادين الجهاد وقمع الصليبيين، والتعليم والتربية، واحتضان العلماء، وحفظ الأمن، وتقوية الجبهة الداخلية، ومقاومة التشيع الذي كان قد انتشر في شمال بلاد الشام، وسيخصص ابن الأثير المؤرخ الشهير تأريخاً مستقلاً هو "الباهر في الدولة الأتابكية" لدولة عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وأولادهم، وكل من جاءوا بعده من المؤرخين يسيرون على دربه في مدح نور الدين محمود.
ولكننا سنعتمد على رواية معاصره المؤرخ والحافظ هبة الله بن عساكر الدمشقي، المتوفى بعد نور الدين محمود بعامين فقط، وهو الذي بنى له نور الدين المدرسة النورية لتدريس وإقراء الحديث النبوي الشريف في دمشق، وهو الرجل الذي صلى عليه صلاح الدين الأيوبي عند وفاته، ودُفن في مقبرة باب الصغير، حيث سنراه يقدم صورة واضحة المعالم غير مبالغ فيها -كما يفعل ابن الأثير- عن سمات قيادة نور الدين محمود؛ فعلى مستوى الجهاد "والقمع لأهل الكفر والعناد والقيام بمصالح العباد وخرج غازياً في أعمال تل باشر، فافتتح حصوناً كثيرة، وافتتح قلعة أفامية وقلعة عزاز وتل باشر ودُلوك ومرعش وقلعة عينتاب ونهر الجوز وغير ذلك، وحصن البارة وقلعة الراوندان وقلعة تل خالد وحصن كفر لاثا وحصن بسرفوت بجبل بني عليم وغز حصن إنب". وهي منطقة جغرافية تمتد من جنوب وسط الأناضول إلى مناطق وسط وغرب بلاد الشام.
ويتكلل جهده الأكبر بدخول دمشق وجنوب الشام وضمها لدولته، وكانت أوضاعها الاقتصادية والأمنية بائسة، تتعرض المدينة لهجمات الصليبيين، وكانت على شفا السقوط في أيديهم، ولو سقطت لكانت مصيبة كبرى لا تقل عن مصيبة سقوط القدس، وحين دخلها نور الدين وقر قراره بها "ضبط أمورها، وحصّنَ سورها، وبنى بها المدارس والمساجد، وأفاضَ على أهلها الفوائد، وأصلح طُرقها، ووسع أسواقها، وأدرّ الله على رعيته ببركته أرزاقها، وبطل منها الأنزال، ورفع عن أهلها الأثقال، ومنع ما كان يُؤخذ منهم من المغارم"، كما يقول ابن عساكر.
ولا شك أن هذا المجهود الكبير من نور الدين محمود كان يستلزم أن يكون على مستوى القيادة العسكرية مؤهلاً بطلاً مغواراً، عارفاً بأسرار قيادة المعارك التي لا شك أنه تعلّمها من أبيه طوال الثلاثين عاماً التي قضاها في كنفه وتحت عينه وبصره، فكان كما يقول ابن عساكر "في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، شديد الانكماش، حسنَ الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدمُ أصحابَه عند الكرّه، ويحمي مُنهمزِمَهم عند الفرّة، ويتعرضُ بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة".
وعلى مستوى مقاومة المشروع الشيعي سنراه يؤكد أن نور الدين "أظهر بحلب السُّنة حتى أقام شعار الدين، وغيّر البدعة التي كانت لهم في التأذين، وقمعَ بها الرافضة المبتدعة، ونشر فيها مذاهب أهل السنة الأربعة… وبنى بها المدارس ووقف الأوقاف وأظهر فيها العدل والإنصاف".
وعلى مستوى علاقته بالعلماء والقُضاة والرعية ستراه من أرحم القادة وأعدلهم في تاريخ الإسلام، يشهد له بذلك القاصي والداني من المعاصرين له واللاحقين عليه، فقد كان يحرص بنفسه على أن يسمعَ "من المتظلمين الدعاوى والبيّنات طلباً للإنصاف والفضل، وحرصاً على إقامة العدل، وأدرَّ على الضعفاء والأيتام الصدقات، وتعهد ذوي الحاجة من أولي التعفف بالصلات، حتى وقفَ وُقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة العميان ومعلمي الخط والقرآن"، واهتم بالأيتام والأرامل إنفاقاً وتعليماً، وحرص على رعاية الحرمين الشريفين وتجديد ما خرب فيهما.
هذه هي الرواية التاريخية التي يلقيها علينا ابن عساكر معاصر نور الدين محمود، وهو رجل علامة في الحديث النبوي والتاريخ، مشتهر بين العلماء بالعلم والتقوى والورع، تؤخذ شهادته على محمل الجد دون طمع فيما عند نور الدين محمود من مال أو منصب؛ إذ عرف ابن عساكر بالزهد والاقتصاد في أمور الدنيا.
هاملتون جب يشيد بنور الدين زنكي
على أن اللافت أن شهادة ابن عساكر وابن الأثير من بعده وجلّة المؤرخين المسلمين يتفق معها المستشرق والمؤرخ البريطاني السير هاملتون جب (1895- 1971م)، وهو رجل اشتُهر بدراساته الجادة في التاريخ الإسلامي، والبحث عن الحقيقة وإن وقع في بعض الأغاليط كدأب عامة المستشرقين في هذا الميدان، ولكنه يمدح نور الدين محمود لأسباب مختلفة، فهاملتون جب يرى نور الدين خريج مدرسة الإمبراطورية السلجوقية في ميداني السياسة والإدارة والعسكرية، فقد عمل بدأب لإنجاح فتوحاته وعملياته العسكرية، وموقفه الصلب في مواجهة الصليبيين من خلال بناء جيش قوي ومنظّم قائم على النظام الإقطاعي الذي أقره السلاجقة من قبله، وعملوا بمقتضاه في الإنفاق على جيوشهم، وهي إقطاع الأراضي الزراعية للعساكر بمختلف رتبهم، فلهم الحق في الانتفاع من ريع هذه الأراضي مع فلاحيها وفقاً لأنصبة محددة يشرف عليها ديوان الجيش، وفي الوقت نفسه يحرصون على تنمية هذه الأراضي الزراعية.
ويرى جب أن الجيوش التي كان يقودها نور الدين محمود كانت منسجمة معه، خاضعة له لأسباب أخرى وهي صلاتُه العائلية مع السلاجقة، وشرعيته الراسخة التي اكتسبها من كل من السلطان السلجوقي والخليفة العباسي، يقول: "احترموه بسبب النجاح الذي أحرزه في تشغيل هذا النظام بصفة كونه رجلاً دبلوماسياً، وقائداً للجيوش على السواء، حتى إن حملته في سبيل ما تجوز لنا تسميته (إعادة التسلُّح الخلقي) بمنح الزعماء والإحيائيين الدينيين كل تأييد من جانبه، لم تكن الحملة الأولى من نوعها أبداً، والحق يُقال إن نور الدين أقام سياسته الخاصّة على أساس ما كان قد تم تحقيقه بهذه الطريقة في إمبراطورية السلاجقة ونسج على منواله".
ولئن أدرك جب مدى تأثر نور الدين محمود بالنُّظم الإدارية والسياسية والعسكرية التي أوجدتها الدولة السلجوقية والتي استفاد هو منها، وسار على دربها، وحققت له الاستقرار المطلوب في جيشه ودولته، وبين عامة الناس والرعية، فإنه يعود ويؤكد بأنه أيضا كان مختلفا عن الولاة والسلاطين والأمراء والقادة العسكريين الآخرين؛ فنور الدين محمود كان "أكثر نزاهة، وأعمق إخلاصًا من بعض أسلافه… أظهر نور الدين بصفة كونه قائداً وإدارياً على السواء بصيرة ومقدرة ارتفعتا على المستوى المألوف في زمانه، دون أن يتعارض مع النظام القائم".
هاملتون جب وخلاف نور الدين زنكي وصلاح الدين
ويرى هاملتون جب أن الخلاف الذي وقع بين نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي لم يكن خلافاً على السلطة والطمع فيها، على عكس ما يراه كثير من المؤرخين العرب والمستشرقين، بل يؤكد أنه خلاف إجرائي، واجتهاد سياسي لكل منهما، فبينما أراد نور الدين محمود سرعة توحيد مصر والشام والقضاء على الخلافة الفاطمية وإحلال الخلافة العباسية محلها في القاهرة، كان صلاح الدين يؤخر هذا الإعلان لتحديات خطيرة تتعلق بحملة صليبية قبرصية قادمة صوب الإسكندرية، وتحالف ذيول النظام الفاطمي في الداخل معها، وتربّصهم به.
وهذه رؤية منصفة، وقراءة هادئة من هاملتون جب للأحداث التاريخية في تلك الأوقات، يقول: "ليس هناك من أدنى ريب في أنه لو طالت حياته (أي نور الدين) أكثر، وجرى رأب الصدع المؤقت بينه وبين صلاح الدين لكان الهجوم المضاد على الصليبيين قد جاء على نحو أسرع، وأشدّ عنفاً في اندفاعه مما جاء عليه في واقع الأمر. إن حقيقة هذا الجفاء بينه وبين صلاح الدين لا يمكن إنكارها ولكن أسباب ذلك تتضح بصورة كافية لكل من يقوم بدراسة المصادر".
ويقر هاملتون بما ذكرناه آنفاً من أن الخلاف بين نور الدين وصلاح الدين لم يكن طمعاً في ملك أو سلطة، وإنما كان اجتهاداً لكل منهما، بل يؤكد فوق ذلك أنه "عقب فشل الحملة الصقلية على الإسكندرية سنة 1174م (569هـ) كان محتملاً أن يستقر الوضع العام في مصر إلى درجة تكفي لإعادة التفاهم التام بين نور الدين وصلاح الدين، لكن نور الدين كان قد تُوفي حتى قبل وصول الحملة".
وهكذا نستطيع أن نرى إنصاف المستشرق البريطاني هاملتون جب في رؤيته العميقة لسيرة نور الدين محمود، وهي رؤية تتوافق مع المصادر التاريخية الإسلامية التي بدأت مع العلامة ابن عساكر، مروراً بابن الأثير والذهبي وابن كثير وابن خلكان والصفدي وابن العديم وغيرهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.