تمتلئ منصات التواصل الاجتماعي المصرية بين فترة وأخرى بخطاب قومي هو في أساسه عنصري فاشي، متمحوراً بشكل أساسي حول حقيقة واحدة: أن المصريين "عرق نقي" متمايز عن غيره من الأعراق والبشر. وهو أيضاً "خارج التاريخ" والتفاعل الحضاري، لأنه عرقٌ ثابت لم يتغير عبر آلاف السنين التي مرت عليه أو يتفاعل مع عشرات الشعوب التي وفدت إما هجرةً أو استيطاناً أو غزواً.
يغذي هذا الشعور الفوقي والغريب بعض النزعات القومية التي تغذيها السلطة أحياناً عبر مواكب المومياوات وغيرها من الفعاليات الفرعونية.
القومية الكيميتية
وفي الآونة الأخيرة هاجم "أبناء كيميت" -وهم مجموعة يعتقدون بنقاء العرق المصري- بعنف مسلسل نتفليكس الذي يظهر كليوباترا سوداء، متبنياً فيما يبدو سردية المركزية الإفريقية، التي تعتبر أن إفريقيا هي أصل الحضارات، وأن كل شيء بدأ في القارة الأم. أكثر ما لفت انتباهي في هذا الاشتباك كان دخول البعض على حساب الممثلة؛ ليسبوها بأنها بالأصل "عبدة"!
وغير غريب كثيراً هذا الاستدعاء الاستعماري الذي نظر للسود باعتبارهم عبيداً، فالقومية الكيميتية هي أيضاً بناء استعماري صرف، أخذه البعض ووضعوه وساماً على صدورهم؛ لأنه جاء من الرجل الأبيض الأوروبي، المنبع الأول لنظرية التفوق العرقي التي جعلته يبرر احتلال الشعوب واستعبادهم دون وازعٍ من ضميرٍ أو إنسانية.
قبل الاحتلال الفرنسي لمصر لم يكن أحدٌ يعرف عن الحضارة المصرية القديمة شيئاً، بل كان المصريون أنفسهم يعتبرونها من "غرائب" الدنيا. جاء الغزو الفرنسي محملاً بحماسة العلماء وإعجابهم بـ"سحر الشرق"، تلك الأسطورة التي بناها الرحالة الأوروبيون عن المشرق عبر مئات السنين.
اكتشف الفرنسيون أثناء غزوهم لمصر حجر رشيد وفكوا رموزه، ومن هنا نشأ علم "المصريات" بشكله الحالي، وعلى أيدٍ غير مصرية. وبدأ الانبهار الفرنسي ثم الأوروبي بهذه الحضارة البديعة الضاربة في القدم، والتي لا يعرفها ولا يهتم بها المصريون القابعون أمامها لمئات السنين.
تشكلت أولى بذور القومية المصرية الحديثة مع الاحتلال الفرنسي الذي اعتبر مصر حقل تجارب ومستعمرةً فرنسية ثرية. وهكذا بنيت السردية القومية التي تلقفها الوطنيون الذين درسوا في فرنسا في السنوات اللاحقة.
السردية القومية المصرية في أطرها العامة هي سردية استعمارية بحتة. بنيت على أساس أن المصريين القدماء هم الأعظم عبر التاريخ، وأن مصر متمايزة عن غيرها ومحيطها تمايزاً خاصاً؛ فهي "متوسطية" أي أوروبية لأنها تقع على المتوسط، ولذلك فهي ليست "متخلفة تماماً" كإفريقيا، هي بالأدق "متخلفة نص نص".
وهي أيضاً ليست عربية، لأن العرب بدوٌ متخلفون أيضاً، بينما كانت مصر حضارة ضاربة في القدم عندما ظهر العرب بعد الإسلام.
نفس هذه الملاحظة مستمرة حتى اليوم في التصورات الشعبية – وحتى في تصورات رأس السلطة – عن الخليج، رغم أن دول الخليج استغلت فائض المال وسبقت مصر على مستويات عديدة وبفوارق فلكية.
وبما أن المصريين ليسوا أفارقة وليسوا عرباً، بل "شبه" أوروبيين فعليهم أن يتخاصموا بشكلٍ ما مع تاريخهم، العربي منه وغير العربي. ولأن السردية القومية قامت على أساس استعماري أوروبي كما ذكرت، فإنها تعتبر "الاحتلال التركي" أشد وأعنف وأكثر تخلفاً من "الاحتلال الفرنسي".
وهكذا، فإن الذي عرف المصريين على "هويتهم القومية" هو الاحتلال الفرنسي المتنور. فيا له من احتلالٍ متحضر عظيم، ذاك الذي ساعدنا على التعرف على ذواتنا غير الإفريقية وغير العربية التي احتلها الترك المتوحشون قروناً.
لكن هذه القومية لم تكن جذورها أصيلةً، ولذلك ففيها تناقضات كثيرة فجة وحادة سأمر عليها بشكلٍ مجمل في هذا المقال.
قومية "الباشا"
اعتبر العديد من المؤرخين والكتاب والمثقفين المصريين أن محمد علي "باشا" هو مؤسس مصر الحديثة، وهذا يستتبع أنه كان لديه مشروعٌ قومي كبير لمصر، وقد تحدى بمصر وجيشها نير الاستعمار التركي العثماني المتوحش.
لكن الحقيقة أن "الباشا" لم يكن مصرياً ولم يعبأ يوماً بالمصريين، فقد كان يحتقرهم بشدة. ولم يكن يحمل مشروعاً قومياً بقدر ما كان يحمل مشروعاً شخصياً، بل لو عرض عليه منصب "الصدر الأعظم" في الدولة العثمانية لترك مصر مؤثراً تطور "الكارير" الشخصي من والٍ عثماني على مصر إلى الوزير الأول في السلطنة "العلية".
والحقيقة الصادمة أن "الباشا" لم يتعب نفسه ليتحدث مثل المصريين أبداً، فقد كان يتحدث التركية -وهي لغة النخبة العثمانية آنذاك- وهو نفسه ينحدر من أصولٍ بلقانية لا علاقة لها بمصر من قريبٍ أو بعيد.
بل إن الشعور القومي لدى المصرين بدأ بالتشكل تحت نير حكم الباشا نفسه، عندما أخذ الفلاحون البسطاء بالسخرة والاستعباد ليجندهم في الجيش الذي خدم أولاً طموحاته الخاصة.
وتحت نير هذا الوضع القاسي في جيش الباشا "المصري" كان الفلاحون المصريون يتشاركون شيئاً واحداً في الجيش: السخرة والظلم. ومن هنا بدأ الفلاحون الذين جاؤوا من قرىً مختلفة وبعيدة عن بعضها البعض، بدأوا بالشعور بـ"الجامعة الوطنية" نسبياً. وبالعداء للترك الذين يمثلهم محمد علي.
ولهذا فإن البعض يحاجج بأن الشعور العميق لدى المصريين بالأزمة تجاه "الأتراك" لم يأت من السلطان العثماني، بقدر ما جاء من محمد علي نفسه، والسخرة والاستعباد التي أذاقها للمصريين الغلابة.
يعني أن سردية القومية المصرية تعتبر محمد علي وطنياً مصرياً، وأن الوجود العثماني كان احتلالاً متوحشاً، بينما كان السبب الحقيقي لتنامي كره المصريين للحكم التركي جاء من محمد علي نفسه.
لكن التناقض لا يتوقف هنا، فرغم أن السردية القومية تتبنى كره عموم المصريين لنير الحكم التركي، فإن المصريين اجتماعياً يتباهون إذا كان لديهم "أصل تركي"، إذ يضمن لهم هذا بالضرورة أنهم كانوا "أبناء ذوات" وليسوا مثل بقية "الفلاحين"، وهو وصفٌ لديه دلالة عنصرية عميقة في الوجدان المصري الحديث، رغم أن مصر "الفرعونية" عميقاً هي حضارة فلاحية ارتبطت بالنيل، ولا جدال في ذلك.
بالغوص قليلاً في علاقة المصريين بالأتراك وموضعهم في الهوية القومية نجد الرابط عند نابليون نفسه، الرجل الذي بدأ تدمير المشرق على يديه، عندما أعلن فور وصوله مصر أنه ليس غازياً، وإنما جاء مصر ليحرر المصريين من "ظلم المماليك"، بينما هو "صديق للسلطان العثماني".
في ذلك الوقت لم تكن القومية المصرية الحديثة قد تشكلت بالانفصام عن العرق التركي، ولذلك كان لزاماً على نابليون التأكيد على صداقته للسلطان "المسلم" وليس "التركي"، فالجامعة الأساسية لبلاد المشرق في ذلك الوقت كانت هي الإسلام.
وحتى في خطابات محمد علي "باشا" نفسه للجنود المصريين، كان يحرص على وصف نفسه بـ "خادم السلطان" قلقاً من احتمالية حدوت تمردات إن هو أعلن غير ذلك. ويمكن باستنتاجٍ بسيط أن نفهم أن المصريين في ذلك الوقت لم ينظروا للسلطان العثماني باعتباره محتلاً تركياً، وإنما نظروا له باعتباره "خليفةً" للمسلمين.
وبينما جاء الكره المصري "للترك" بسبب السخرة في جيش محمد علي، كان المثقفون المصريون الذين ابتعثهم محمد علي لفرنسا قد بدأوا أولى كتاباتهم حول "الهوية الوطنية المصرية"، واعتبر هؤلاء أن محمد علي "وطني مخلص" أراد إنقاذ مصر من نير الحكم العثماني-التركي وقد محمد علي كان يتحكم بنسبة كبيرة فيما يكتب عنه في الكتب، سواء من المصريين أو الأجانب. كما خلص المؤرخ خالد فهمي في تأريخه لفترة محمد علي.
واللافت للانتباه أن أول من فرط في الآثار المصرية الفرعونية كان محمد علي وعائلته، إذ كانت هذه الآثار عبارة عن هدايا يقدمها الباشا وأحفاده الخديوية للأجانب.
الحقيقة التاريخية أن تاريخ المشرق، بل والمناطق الإسلامية كلها، معجونٌ ببعضه ولا يمكن فلترته بشكلٍ كامل. فقد حكم مصر على سبيل المثال مغاربةٌ وعرب وكرد وترك وشركس وحتى أرمن، لكن النصيب الأكبر كان للتواجد التركي، باعتبار الخزان البشري العسكري الفائض للقبائل التركية المهاجرة من وسط آسيا، خصوصاً بعد دخولهم الإسلام مع الخلافة العباسية.
التأسيس للهوية على أساس "العرق" يوقع السردية التاريخية المصرية في مأزقٍ كبير. فهذا الكره للعرق التركي في القومية المصرية الحديثة جعل سردية كاتبي التاريخ القومي المصري تحذف تقريباً مئات السنين المهمة من تاريخ مصر، وهكذا أصبحت "دولة المماليك" على سبيل المثال نسخةً مشوهة في التاريخ المصري، لا يمكن لنا استيعابها أبداً ضمن الخليط الإثني الذي جاء مصر عبر التاريخ وانصهر في مصر وأصبح مصرياً. على الرغم من أن تبني دولة المماليك ضمن السردية القومية يضمن لمصر اتساعاً ونفوذاً كبيراً في الإقليم.
صحيح أن دولة المماليك كان لها سيئاتٌ عديدة خصوصاً في فترات التدهور مثل أي دولة أخرى، لكنها أيضاً شاهدةً على نهضةٍ حضارية وعسكرية هائلة أنقذت المشرق كله وليس مصر فقط. بدايةً من الظاهر بيبرس الذي وصل نفوذ الدولة المصرية في عهده لوسط الأناضول في تركيا الحالية وحتى ارمينيا والقوقاز، وازدهرت على كل المستويات، مروراً بالناصر محمد بن قلاوون الذي كانت مصر في عهده وطوال ثلاثين عاماً جوهرة المشرق المستقر.
لكن هذه الشخصيات لا يمكن إدماجها أبداً ضمن هويتنا المصرية، لأنهم ينتمون لعرقٍ "متوحش" هو العرق التركي. لكن أيضاً إذا كنت مصرياً ولك أصول تركية فأنت "على راسك ريشة".
وفقط من باب تأكيد الحقائق التي لا نقاش حولها، العرق التركي وصل مصر قديماً جداً. فالعديد من حكام مصر العظام عبر التاريخ ينتمون للعرق التركي، بدايةً من أحمد بن طولون وكذلك سيف الدين قطز وبيبرس. كما أن العنصر التركي العسكري دخل مصر مع الخليفة الفاطمي العزيز بالله عندما حارب العباسيين في بلاد الشام ولاحظ مهارة وقوة الجند الأتراك في الجيش العباسي فاستكثر منهم في جيشه المصري. وهكذا جاؤوا مصر بأعدادٍ غفيرة وانصهروا فيها، مثلهم مثل القبائل المغاربية والسودانية التي وفدت إلى مصر مع الفاطميين واقتسمت السلطة مع الخلفاء.
منذ وقع الصراع في السودان بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، نشرت بعض الحسابات على فيسبوك خريطةً لـ"المملكة المصرية" التي تضم السودان وأجزاء من ليبيا. والمفارقة أن هذه المملكة المصرية كانت يد الاستعمار البريطاني في العالم العربي كله، ومركزاً لنفس الاستعمار في جزءٍ كبير من إفريقيا، وهي نفس المملكة التي أذاقت المصريين سوء العذاب. لكن لا مشكلة، يمكن لهم تبني "مملكة" مصر أيام الاستعمار، كما تبنوا سابقاً سردية الاستعمار الفرنسي عن مصر.
"الفراعنة أنفسهم لم يكونوا أنقياء العرق"
أعود سريعاً إلى المصريين القدماء، فربما لا يعلم أبناء كيميت أن "الفراعنة" أنفسهم لم يكونوا أنقياء العرق كما يفترضون، فقد اختلطوا بآخرين من "الأغيار" مثل قبائل المشواش الليبية التي اقتربت من وادي النيل للاستيطان فيه، وخاضوا حروباً طويلة مع المصريين، انتهت بانتصارٍ مصري.
أخذ المصريون أسرى من قبائل المشواش، وتحول هؤلاء الأسرى فيما بعد إلى عمالٍ ومزارعين وجنود، وانصهروا في المجتمع. ومن الجيل الخامس من هؤلاء الأسرى صعد في الجيش المصري ضابط كفء اسمه "شيشنق". كان جده كاهناً مصرياً!
أصبح شيشنق بمثابة وزير الدفاع، ومع ضعف الفرعون "بسوسنس" أصبحت سلطته نافذة في أنحاء البلاد. فزوج ابنه من ابنة الفرعون، وعندما مات الفرعون الضعيف أصبح شيشنق فرعوناً بطبيعة الأحوال.
استطاع شيشنق توحيد البلاد بعدما كانت قد بدأت بالتفكك في آخر عصر الفرعون الضعيف السابق، ولم يكتف بهذا فضم بعضاً من مناطق الشام للمملكة "المصرية". وأسس شيشنق الأول بهذا الأسرة الفرعونية الثانية والعشرين التي حكمت قرناً من الزمان.
أما تاريخ شيشنق فموثق وموجود في موسوعة مصر القديمة لعميد الأثريين المصريين الدكتور سليم حسن تحت عنوان "حكم دولة اللوبيين لمصر"، والتي يعتبرها المؤرخون أسرةً فرعونية بطبيعة الحال. وهذا يفتح النقاش حول السؤال الأساسي: من هم المصريون؟ هل هم عرقٌ محدد واضح المعالم، وذاتٌ كلية واحدة لا تتغير أبداً عبر التاريخ؟ أم هم مجموع البشر الذين قطنوا هذه الأرض عبر آلاف السنين واختلطوا جميعاً وانصهروا في بوتقةٍ واحدة حول وادي النيل؟
إن مصر القديمة حضارة عظيمة، لكنها مثل كل الحضارات القديمة اختفت واندثرت ولم يعد لها أثرٌ واضح غير آثار ما زال العلم حتى الآن يحاول فك رموزها، فضلاً عن أنه لم يكن لها أي امتدادٍ حضاري أو ثقافي-لغوي يمكن أن يحافظ على استمراريتها، فالمصريون لا يتحدثون الهيروغليفية ولا يعرفون اللغات المصرية القديمة.
من هم المصريون؟
المصريون يتحدثون العربية، وهم بأغلبهم مسلمون، والامتداد الحضاري الذي يمكنهم البناء عليه لمشروع وطني مستدام وقوي هو الامتداد العربي – الإسلامي، وهو البناء الوحيد الذي يمكن لمصر من خلاله أن تكون دولة إقليمية كبيرة. وإذا كان المصريون مختلفين في أصل المنشأ عن غيرهم فهذا لا يعني تفوقاً لصالحهم، فموقع مصر الجغرافي وطبيعتها، حتمت عليها عبر التاريخ أن تتبنى الحضارة التي تظهر على أرضها وتصبح مركزاً لها. أياً كانت هذه الحضارة: فرعونية أو يونانية أو إسلامية، وسواءٌ كان هذا الحاكم مصرياً قديماً أو ليبياً أو يونانياً أو تركياً أو أرمنياً أو كردياً.
ليس على المصريين النقاش كثيراً حول هويتهم، وإنما عليهم النقاش حول وضع بلادهم المزري حالياً والتعامل مع المتسبب فيه، والذي يتحصن فيما يبدو خلف خطاب فاشي عنصري، نفس الخطاب الذي عادةً ما يصدر من الأمم المنكوبة والمأزومة، والمهزومة نفسياً أمام عالم لا يرحم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.