منذ بداية الحرب الروسية- الأوكرانية التي أدت إلى هروب مليارات الدولارات إلى الخارج، وتواجه مصر أزمة اقتصادية ضاغطة بدأت باتباع السلطات المالية المصرية لسياسة سعر الصرف المرن، وانخفاض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار وفقدانه أكثر من نصف قيمته، مع توقعات بالمزيد من انخفاض العملة على خلفية احتياج مصر الشديد للعملة الأجنبية لتسديد أعباء الديون التي تُثقل كاهل الاقتصاد.
رغم ذلك تتوسع الحكومة المصرية خلال السنوات العشر الأخيرة في الاقتراض الخارجي بوتيرة متسارعة وغير مسبوقة، وبزيادة بلغت نحو 277%، مما جعلها تحتل المرتبة الثانية كأكبر عميل لدى صندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين.
يُعد الدّين الخارجي جزءاً من ديون مصر المُقترضة من المُقرضين الأجانب، وتتوزع ما بين 20 مؤسسة إقليمية ودولية، والعديد من البنوك التجارية الأجنبية، بالإضافة إلى قروض من 22 دولة. وبالطبع يجب تسديد هذه القروض وفوائدها، بالعملة الأجنبية التي تم الاقتراض بها.
تراكم ديون مصر الخارجية المصرية
قد أظهرت بيانات الحكومة المصرية تزايد ديون مصر الخارجية ووصولها إلى مستوى تاريخي مسجلاً 162.9 مليار دولار في نهاية ديسمبر 2022، مقابل 145.5 مليار دولار في نهاية عام 2021، بزيادة نحو 17.4 مليار دولار وبنسبة 11.9% في عام واحد فقط.
يتكون الدين الخارجي المصري من ديون قصيرة الأجل، والتي يجب سدادها خلال عام واحد، وأخرى طويلة الأجل تسدد على مدار عام أو أكثر.
إذ يتعين على الحكومة تسديد ديون خارجية بنحو 9 مليارات دولار مستحقة في العام المالي الحالي 2023 الذي ينتهي يوليو، وتُقدر قيمة عبء خدمة الديون مستحقة السداد خلال السنتين الماليتين (2024 و2025) بنحو 70 مليار دولار، وتنقسم ما بين 26 ملياراً ديون قصيرة الأجل، و43.6 مليار ديون متوسطة وطويلة الأجل.
وفقاً لتقرير وكالة رويترز الذي رفع قيمة الديون المستحقة على مصر خلال العام المالي الجاري حيث جاء في التقرير أنه يُفترض أن تسدد مصر من الدين الخارجي نحو 100 مليار دولار خلال السنوات الخمس القادمة، منها 18 ملياراً خلال العام الجاري.
كما يُعادل قيمة الدين الخارجي المصري نحو 5 أضعاف احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي المصري البالغ 34.4 مليار دولار.
لماذا اقترضت مصر هذا الحجم الضخم من الدَّين؟
سهلت الظروف العالمية خلال العقـد الماضي على مصر الاقتراض المحلي والخارجي بكثرة، نتيجة مجموعـة من العوامل مثل معدلات الفائدة المنخفضة التي كانت تقترض بها من مؤسسات التمويل الدولي، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهو ما أغراها بطلب المزيد من القروض.
بالإضافة إلى اعتماد مصر على الاقتراض من خلال بيع أدوات الدين مثل السندات الحكومية وأذون الخزانة للمُدينين الأجانب والبنوك المحلية بعائد مرتفع هو الأعلى في العالم.
مع تزايد الاعتماد على الاستدانة خلال السنوات الأخيرة بسبب الحاجة إلى تمويل الاستثمارات الواسعة من مشاريع ضخمة أثبتت أنها غير منتجة ولا توفر عائداً تنموياً يعوض الدولة عن الأنفاق في سبيلها، وبالرغم من ذلك أفرطت الحكومة في الإنفاق على مشاريع بلغت تكلفتها نحو 400 مليار دولار.
هل يمكن أن تتعثر مصر عن سداد الديون؟
لـم تحفـز الديون التنميـة الاقتصادية والاجتماعية على عكس ما كانت الحكومة المصرية تُعلن، وكان تأثيــر الاقتراض محــدوداً علــى الاقتصاد الحقيقــي القائم على الإنتاج، وأدى الاعتماد المفرط على الاستدانة إلى انكشاف الاقتصاد المصري مع بداية الحرب الروسية.
كما ساهمت أقساط الدين العام التي تبتلع نسبة ضخمة من إيرادات الدولة، في تقويض قدرة مصر على الحفاظ على الاحتياطي النقدي الأجنبي لديها، وأعجزها علــى ســداد ثمــن الواردات التـي تشـتد الحاجـة إليهـا، وجعلها تتراكم في الموانئ بين كل فترة وأخرى في انتظار تدبير عملة أجنبية لتحريرها.
بالإضافة إلـى سـداد خدمــة الديــون الخارجيــة المرتفعــة بالعمـلات الصعبة، فـي الوقـت نفسـه الذي يتعين عليها حماية الجنيه المصري من الدخول في دوامة من التخفيض المستمر، والقضاء على التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوياته في خمس سنوات.
مما يجدر بالذكر أن كل ذلك نجم عن سياسة الاقتراض التي اعتمدت على تدوير القروض، من خلال استخدامها لسداد قروض أخرى، وجعل الاقتصاد يقع في فخ ودوامة الاستدانة التي تمتص الموارد الاقتصادية.
هو الأمر الذي يستدعي القلق من إمكانية اقتراب الاقتصاد المصري من منطقة شديدة المخاطر، يصعب على المواطن المصري الذي يعاني بسبب الأوضاع الاقتصادية الحالية أن يتحملها، مع تحمل كلفة سداد الدين العام الخارجي والداخلي المرتفع، وهو الأمر الذي يساهم في زيادة الضغط على العملة المصرية ويدفعها نحو المزيد من الانخفاض.
ما دفع بعض الخبراء الاقتصاديين يقترحون فكرة إعلان مصر عجزها عن سداد الديون مع المطالبة بجدولتها والإعفاء الجزئي من بعض الديون، ومد آجال تسديد أقساط وفوائد القروض، مثلما أعلنت مجموعة من الدول المتعثرة عن سداد الديون.
بهدف التخلص من التزامات الديون التي تثقل كاهل الاقتصاد المصري. إذ يرى هؤلاء الخبراء أن هذه الخطوة ستخفف من الضغوط على سعر الصرف والتضخم، وعلى الأعباء التي يواجهها المواطن المصري.
ديون مصر والدول المتعثرة عن سداد
ساهمت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية الناتجة عن فيروس كوفد -19 والحرب الروسية في ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء في التراكم الكبير للديون الخارجية في العديد من الدول النامية، مما زاد من مخاطر التخلف عن السداد السيادي خلال الفترة المقبلة.
هناك ما يقرب من 50 دولة معرضة بشكل كبير لخطر التخلف عن سداد الديون السيادية، حيث إن هناك ما يقرب من 15% من الدول منخفضة الدخل في مرحلة التعثر في سداد الديون بالفعل، وهناك 45% أخرى عرضة بدرجة كبيرة لمخاطر الدَّين، وعددها آخذ في الازدياد، ومنها مصر.
ما جعل مجموعة من الدول المتعثرة عن سداد الديون تطالب صندوق النقد والبنك الدولي، بتخفيف عبء الديون وإعادة النظر فيها، من خلال إلغاء بعض الديون جزئياً أو كلياً، أو عبر إعادة هيكلة وجدولة الفوائد أو أصل الدين، أو تعليق خدمة الديون لأجل بعيد.
لكن المفاوضات بهذا الشأن تعثرت وواجهت بعض العقبات، بسبب تبادل إلقاء اللوم بين الولايات المتحدة والصين، وتُعد تشاد هي الدولة الوحيدة التي توصلت إلى اتفاق لتخفيف عبء الديون مع الدائنين.
إيجابيات انضمام مصر إلى الدول المتعثرة عن السداد
كما أوضحنا سابقاً يُساهم بند ديون مصر الخارجية في ابتلاع معظم موارد الدولة من النقد الأجنبي، ويجعل الحكومة المصرية محاصرة بين مدفوعات عديدة مطلوبة منها، ومن شأن إعادة جدولة الديون ومد آجال تسديدها لمدة ثلاثة سنوات على الأقل.
أن يعفي الاقتصاد من عبء تدبير مستحقات القروض وفوائدها. ويجعل الدولة تركز على شراء واردات السلع الأساسية من الغذاء والوقود ومستلزمات الإنتاج.
ما سبق يمنح مصر فرصة تعبئة مواردها وتوجيهها إلى تلبية الاحتياجات التنموية، ودعم العملة المصرية المتذبذبة، مع إعادة بناء الاحتياطي النقدي الأجنبي في خزائنها، وزيادة مخصصات الدعم والحماية الاجتماعية التي يستفيد منها الطبقات المهمشة والأكثر فقراً احتياجاً من غالبية الشعب المصري.
وسبق أن حصلت مصر على إعفاءات كبيرة من ديونها من جانب الولايات المتحدة ودول الخليج عام 1991، وكان قدرها 13.7 مليار دولار، وذلك على خلفية مشاركة مصر في حرب تحرير الكويت من الاجتياح العراقي الذي قام به صدام حسين.
لقد حدث ذلك في وقت كانت مصر تواجه فيه العديد من التحديات في فترة من أشد الأوضاع الاقتصادية سوءاً، بسبب تراكم الديون وزيادة أعباء خدمة الدين، وزيادة العجز في ميزان المدفوعات مع تقلص مواردها من النقد الأجنبي.
كما كانت مصر في مواجهة عصيبة مع شبح الإفلاس، ولم تكن مواردها في ذلك الحين كافية لسداد أقساط الديون والوفاء بالواردات خلال عام 1991. وكان الخبراء يعتقدون أن الاقتصاد بحاجة إلى معجزة حتى يخرج من هذه الأزمة، وأتت المعجزة بعدها مع إعفاء مصر من معظم الديّن الخارجي.
عواقب انضمام مصر إلى الدول المتعثرة عن السداد
على الجانب الآخر، فإن هناك عواقب خاصة باتخاذ مثل هذه الخطوة الجريئة والصادمة، والتي تحتاج إلى دراسة وإعداد خارطة بتوجه الدولة المستقبلي، لأن مع إعلان الدولة تعثرها عن سداد التزاماتها من الديون، مع المطالبة بإعادة جدولة الديون ومد آجال تسديدها لمدة ثلاث سنوات.
من شأن ذلك أن يجعل الجميع يتوقف عن إقراض الدولة، ويدفع مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية إلى تخفيض تقييم الاقتصاد المصري. ويساهم التصنيف المنخفض بدوره في إحجام الدول والمؤسسات عن إقراض الحكومة المصرية، ويرفع من تكلفة الاقتراض ويجبر الدولة على زيادة الفائدة إلى نسبة مرتفعة لمنح الدائن أرباحاً تعوض مخاطرة الاستثمار في بلد متعثر الديون.
من الممكن أن تجعل خطوة انضمام مصر لنادي المتعثرين في تسديد الديون أن يفقد الجميع الثقة في الاقتصاد المصري، ولن تستطيع الدولة بعد ذلك جذب استثمارات أجنبية، مع احتمالية تخارج رؤوس الأموال من الأسواق المصرية.
لكن على اعتبار أن الدولة تقترض في الوقت الحالي بفائدة مرتفعة غير موجودة في أي دولة أخرى في العالم، وتقترض لسداد ديون قديمة، فقد يكون التخلص من عبء الدين الخارجي بشكل مؤقت، حلاً مثل الدواء المُر لإنهاء الحلقة المفرغة التي لا تنتهي وللقضاء على الداء الذي يجعل الاقتصاد يدور في فلك المديونية فقط.
في النهاية سيظهر إذا ما كان حاجة الحكومة المصرية للاقتراض أقوى أم حاجتها للتخلص من عبء الديون، ولو بشكل مؤقت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.