بينما أقود على طريق هادئ، مرت عبر راديو السيارة أغنية كنت قد سمعتها سابقاً، ودققت اليوم لأول مرة في كلماتها؛ أغنية لـ "عبادي الجوهر" تقول في مطلعها: "زمان أول يا ليته يعود.. زمان أول مهو بالحين.. تغير كل شي وراح".
كلمات وجدتها أشبه بالعبارات المتكررة للجدات والأجداد حولنا على اختلاف ثقافاتهم وألسنتهم، وكأنها إجماع ضمني على أن الزمن الأول أيّاً كان، يستحق الحسرة الأبدية. حتى عبارة "كل شيء" التي رددها "الجوهر" باستسلام تجسد نظرة الكثيرين منا للماضي عموماً، كيف ننظر بعين طوباوية لأزمنة مضت ظناً أنها كانت مفعمة بالرضا وطيب العيش، النظرة التي قد تصل حد التعلق بكل ما هو قديم وكلاسيكي يأخذنا ولو مجازاً لتلك الأيام.
كم مرة أخبرك أحدهم بأنه يحب أفلام الأبيض والأسود؛ لأنه يشعر براحة مختلفة عند مشاهدتها؟ أو أنه يتمنى العيش في فترة الخمسينات والستينات لمعاصرة فخامة الـ"اوت كوتور" في الأزياء والاستمتاع بالسيارات الكلاسيكية؟ كم مرة سمعت أحداً يتغنى بهيبة العصر الفيكتوري أو عزة العهد الأموي، أو إشراقة عصر النهضة أو غيرها من العصور التي تم إبرازها على أنها الأكثر رفعةً؟
كم مرة ردد أحدهم أمامك أن عظمة الطرب قد تلاشت بعد عبد الوهاب وأم كلثوم وأن كل الجديد في هبوط أو تقليد مبتذل؟ أو آمن أن قصص الحب كانت أصدق وأرق بين المكاتيب الورقية وأثناء انتظار العشاق لنظرة تحت الشرفات العالية؟
مغالطة العصر الذهبي
بناءً على ما سبق أو ماثله في الطرح، هل شعرت يوماً بلا أسباب واضحة بأنك قد ولدت متأخراً، وأنك لا تنتمي لهذا الزمان؟
لا أريد أن أفسد نقاء الشعور، ولكنها للأسف الـ "Golden age fallacy" مغالطة العصر الذهبي، وهي حالة النوستالجيا للزمن القديم، وما يحمل من أصالة وحنين لما لم يكن موجوداً بالضرورة بالشمولية التي يتصورها الحالم.
بتعريف أدق هو الافتراض الخاطئ بأن الزمن الماضي كان أفضل عموماً من الوقت الحالي أو الفترة التي يعيشها الشخص، حيث تختلف عن التعلق بالذكريات تحديداً، أو بالأوقات السالفة التي عاصرها الشخص، فحنين الشخص لماضيه أمر طبيعي بل مفيد في سياقه المعتدل، خصوصاً مع مرور الإنسان بمراحل أو ظروف انتقالية في حياته "الشيخوخة، التقاعد، الهجرة، وفاة أحد المقربين.. إلخ".
فقد يصبح استذكار الفرد لهويته وأمانه النفسي عموماً في فترة ما عاملاً مساعداً في منحه الشعور بالاستقرار، وحيلة نفسية مؤقتة لاجتياز الأوقات العصيبة، ومما لا شك فيه أن تكوين أرشيف معنوي من الذكريات والمشاعر، والأمكنة، والروائح المرتبطة بالأحداث هو ما يجعل من الحياة حياةً أساساً.
لكن المسألة هنا معنيّة بالتعلق أو الانبهار المفرط بالفترات الزمنية التي لم يعايشها الشخص، والتي يعبر عنها غالباً بعبارات مثل "الزمن الجميل" أو "العصر الذهبي" ليصبح هذا التعلق شكلاً من أشكال التبرير، تقفز إليه المخيلة الرومانسية التي يعتقد صاحبها أنه لم يعد قادراً على الاندماج في الحاضر عموماً، أو في محيطه الشخصي تحديداً، متجاهلاً أن ما كان جميلاً ومثالياً حقاً في زمن ما قد قابله بالضرورة وجه أو وجوه أخرى سيئة من مناحي الحياة خلال الفترة ذاتها.
شخصياً، أعد ذاتي من ضحايا دوامة النوستالجيا هذه، ونعم لدي خيبة أمل من بعض أوجه الواقع الحالي، وروادتني كغيري وساوس فيما لو كنت سأشهد حياة أكثر تقديراً للبساطة والتقليلية في الحاجات الفردية ونمط العيش لو لم أكن من جيل الألفية. وأجد في نفسي ميلاً دائماً للإبقاء على بعض العصيّ السحرية التي تذيب جليد الواقع، وتفتح لنا أبواب الحلم والخيال والدهشة، وتخفف عنا وطأة المنطق أحياناً.
لكنني أحرص في الكفة المقابلة على تذكير ذاتي بين الحين والآخر بأنها وسيلة تسلية، ومواساة بأن الأسوأ قد لا يكون ما أعايشه اليوم، كنوع من الدفاع النفسي الذي يرد لي الشعور بالامتنان ولو قليلاً لكوني ابنة هذا الزمن لا ما بعده وما بعد بعده.
يأتي ما سبق ذكره من منطلق أن القليل من الوهم ضرورة جوهرية، وليست حالة أنقاد خلفها وأتحسر على "اللي كان"؛ لأن ما كان إما أن يشدني معه بقوة إلى الوراء ويتركي مغيبةً في زواياه، أو يدفعني مثقلة نحو الغد بما قد لا يصمد، وإن فعل فقد لا ينفع بالضرورة، وسيصقل فكرة أن حاضري ما هو إلا قطعة أثرية تتهيأ لمرحلة التعتيق كي تكتسب قيمتها وأصالتها فيما بعد.
يمكن أن يحدث هذا لأينا أو لجميعنا في فترات مختلفة لأسباب عدة، مثل التحليلات المتحيزة أو النظر بشكل غير موضوعي إلى الواقع الحالي، أو مجموعة من المغالطات الفكرية التي قد تسهم في تشكيل هذه المشاعر وتوريثها، والحديث عنها هنا ما هو إلا نتاج تحليل شخصي ومحاولة للربط ما بين هذه الظاهرة وبعض مسبباتها المحتملة، وليست قولاً قاطعاً في هذا الشأن.
أولها "التحيز الإدراكي الترسيخي"، وهو الاعتماد على جزئية واحدة من المعطيات أو على الانطباعات الأولية عن أمر ما وتأثيرها على نظرتنا ووعينا تجاهه. خاصة إن كانت محمولة على ذكريات الأجيال المعاصرة لتلك الأزمان، وقد يكون هذا أيضاً بدوره عائداً لانحياز فكري آخر:
"مبدأ بوليانا" وهو ميلنا كبشر عموماً لاستحضار الذكريات الجيدة أو المفرطة في إيجابيتها أكثر من تلك المزعجة، وبالتالي تشكيل رؤانا الشخصية وفقاً لها، كنتيجة للتفكير الانتقائي.
من الأسباب الأخرى التي قد تتداخل إلى حد كبير مع النقطة السابقة هي "مغالطة الاحتكام إلى القِدَم" التي تجعل من عمر الفكرة معياراً لقيمتها، ولجودتها أو أحياناً لصوابها.
عند هذه الظاهرة بالتحديد يعظم الخوف من التغيير وهو عامل آخر قد ينطبق أكثر على معاصري الفترة التي يحنون لها، فيغرسون ذات المشاعر في نفوس محدثيهم من الأجيال الأصغر سناً، فيدفع هذا التفكير الأفراد إلى الاحتفاظ بصور إيجابية فقط للماضي وللماضي وحده، بحيث يبدو التغيير مخيفاً ومرهقاً، فيكون الملاذ الآمن هو القديم والمألوف.
أثر العقل الجمعي
أنا "مغالطة التوسل بالحداثة" حيث يفترض فيها الشخص أن كل ما هو حديث وعصري، أو حتى مستقبلي سيكون أكثر نفعاً أو ملاءمة، وقد تلعب الرغبات الفردية المتشكلة من الظروف أيضاً دوراً في تعزيز هذه الظاهرة منها:
- رغبة الشخص في التفرد، فالاهتمام الزائد بتفاصيل الزمن الأجمل بنظره يمكن أن يولد لديه شعوراً بالمغايرة والتميز عن الآخرين في الاهتمامات والأولويات.
- الرغبة في التحسين الذاتي، وقد تنبع من تتالي التجارب المحبطة للفرد في حاضره والتي تشعره بأن الزمن الماضي كان ليكون أكثر أماناً وسهولة.
بما أن العقل الجمعي المتشكل من العادات والأنماط المتناقلة يصبح مع الوقت العامل الأهم في تثبيت الأفكار والمشاعر لدى الأفراد، فإن التماثل العقلي والعاطفي بين الأفراد باختلاف القطاعات الجغرافية مستمد في المقابل من الضغط الذي يمارسه الضمير الجمعي على كل منهم، وبالتالي تعزيز التبرؤ من الواقع الحالي، والتوجس من المستقبل.
أكاد أجزم أخيراً أني لو تركت هذا النص ذاته بين يدي جدي، أو أبي، أو حتى حفيدي المُتخيَّل سيتفق جميعهم على الفكرة ذاتها: "الماضي جميل جداً في الحاضر!".
وفي دعوة لنبش جماليات اليوم، أترك عبارةً تحمل أمنية من نوع آخر، على لسان آندي بيرنارد، أحد أبطال المسلسل الشهير "ذي أوفيس" وهي:
"أتمنى لو كانت هنالك طريقة تستطيع من خلالها معرفة أنك تعيش في الزمن الجميل، قبل أن تكون قد غادرته"
لأن المسألة فضفاضة جداً، ربما يأتي من ينظر في المستقبل البعيد إلى عمليات قصقصة الخصر وتعريض الفك الشائعة بين المشاهير، ويستشعر مدى طبيعية وجمال هذه النزعات، ويشاهد فيديوهات "التيك توك" كمقاطع عتيقة يلتمس فيها خفةً وطمأنينة، ويستمع إلى أغاني المهرجانات ويجد فيها إلهاماً وعبقرية، ويتحسر لحسابات المؤثرين حين كان الكل سعيداً ثرياً، وناجحاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.