يأخذنا فيلم "الأرجنتين Argentina 1985" إلى مجريات محاكمة مفصليّة ومصيريّة في تاريخ الأرجنتين ومسارها نحو إزاحة الديكتاتوريّة وإرساء الديمقراطيّة، وقف فيها أعضاء المجلس العسكريّ أمام قضاء مدنيّ في سابقة لم تتكرّر، وتمّت محاكمتهم وإدانتهم لما اقترفوا من جرائم اختطاف وتعذيب وقتل.
فيلم "Argentina 1985" تحفةٌ سينمائيّة تحكي مرحلة مفصليّة من تاريخ الأرجنتين
أخوض في الجانب الفنّي أوّلاً، وإن كان لي أن أختصر وصف صنعة الفيلم في بضع كلمات، فإنّه تصوّرٌ ذكيّ بليغ ناجز، وأفصّل قليلاً بخصوص النصّ الذي رغم ثقل الموضوع وقتامة الخلفيّة، فإنه ابتعد عن مستنقع البكائيّات والإغراق في الميلودراميّات، وركّز بصنعة دراميّة على إبلاغ الهدف الأساس لتلك المحاكمة والمرحلة وما أسست له من ثقافة محاسبة وإعلاء قانون، مهما كانت الضغوط ونفوذ الظالمين، وبالتالي قطع مع العنف والقهر وسيلةً للاستبداد بالحكم. من هنا كان الخط الرئيسيّ للمدّعي العام 'خوليو ستراسّيرا' ومحيطيه العائليّ والمهنيّ، وما كابد(وا) من ضغوط وتداعياتها أثناء مجريات المحاكمة في سبيل بلوغ هذا الهدف السامي.
قد صوّر المخرج "سانتياغو ميتري" الوضع وفحوى الفيلم بذكاء في مشهد داخل دورة المياه؛ حيث "ستراسيرا" في المرحاض فيما يدخل مساعده "لويس أوكامبو" متسائلاً بتوتّر عن موقف السلطة في ذلك الوقت، وبعد تجاوز حرج وجوده في المرحاض، يجيبه بأنّ السلطة تطلب منه التعامل بحذر مع القضيّة، وإذ يستفهم "أوكامبو" عن معنى ذلك تأتي الإجابة الرامزة: "مثلاً، للتوّ مسحت مؤخّرتي بحذر"، ثم يُعمل جهاز الشطف ويخرج.
فالمجلس العسكريّ المجرم ممثّل هنا في الفضلات، والمحاسبة في عمليّة المسح المذكورة والشطف، وهي أيضاً الإشارة لمضيّ "ستراسيرا" قُدُماً في المحاسبة ضمن ضابط الحذر، وما سيكون في باقي الأحداث، ويمكن اعتبار حصول عمليّة المسح والشطف خلف باب المرحاض إحالةً على ضابط الحذر الذي يجعل الأمر ينحسر في القيادات العسكريّة العليا وبعض أذنابها.
لعلّ المخرج استوحى المشهد من الحركة الشهيرة لـ"ستراسيرا" أثناء المحاكمة، عندما نظر إلى القيادات العسكريّة المتّهمة، وأشار بسدّ أنفه والتقزّز من نتانتهم.
لقد جانب المخرج "سانتياغو ميتري" التكلّف في أيّ من العناصر وضبط الإيقاع لكلّ مرحلة بما تستحقّ مبدعاً في الفتومونتاج والقطع الزمنيّ للتكثيف، بما كفل للأطر وأحداث والشخصيّات أن تأخذ زخمها دون أن يتطلّب ذلك مساحة زمنيّة زائدة كانت لتخلّ بالبناء، وأحسن اختيار الأغاني والموسيقى للتنقل من مزاج فترة ومرحلة إلى أخرى.
كما أبدع "سانتياغو ميتري" في مشهد المرافعة الختاميّة بجلّ تفاصيله، فجعل المتفرّج خلال زهاء 9 دقائق يعيشها مع كلّ أطرافها متأثّراً بتفاعلاتهم، وبلحظات الصمت المبوّبة والموسيقى التي تأخذ محلّها في الوقت المناسب، وظّف كلّ الأدوات ليدمج المشاهد مع اللحظة والحدث، متدرجاً إلى ذروته متفاعلاً مع وقعه.
بين العدالة الناجزة في الأرجنتين، وضياع فرصة المحاسبة في تونس
كذا تطرّقتُ إلى الجانب الفنّي لفيلم "الأرجنتين Argentina 1985″؛ لأنه أحد الأعمال المهمة والضخمة، ومنه وخلاله لم يسعني إلّا أن أتذكّر.. هُم ونحن.. كيف تمّت المحاسبة، وإن مرحلياً عندهم، وكيف أهدرت عندنا. ما كان نتاج المحاسبة عندهم، وما كانت عاقبة التفريط فيها عندنا، فمع كلّ تفصيل ومرحلة من الفيلم تذكّرتُ ما مرّت به تونس في ملفّ العدالة الانتقاليّة الموءودة.
لقد كانوا أكثر إدراكاً لعامل الزمن، فسارعوا بعد الإطاحة بالعسكر إلى مسعى محاكمتهم ومحاسبتهم لإرساء نظام على أسس صحيحة تعلي القانون وتكرّس ثقافة المحاسبة، بدأت الإجراءات بعد عام فقط من تولّي الرئيس الجديد، ووُضِع حدّ زمني قياسيّ لتجميع ملفّات القضايا والشهود والانطلاق في إجراءات التقاضي، وخصوصاً عُهد بكلّ ذلك إلى القضاء، إلى المدّعي العام 'خوليو ستراسيرا' والفريق الذي كوّن، وقد خاضوا غمار قضيّة مفصليّة في 17 أسبوعاً فقط.
بالمقابل انتظرنا في تونس زهاء 4 سنوات لإنشاء أوّل هيكل يُعنى بالعدالة الانتقاليّة (هيئة الحقيقة والكرامة)، ولم يكن من القضاء. انتظرنا إلى أن عاودت المنظومة القديمة ترتيب أوراقها وصفوفها والتكشير عن أنيابها، وجانبنا إجراءات التقاضي إلى عملٍ استقصائيّ مطوّل، استمرّ سنوات كانت خلالها المنظومة القديمة التي قد استعادت مكانتها، فيما لم تفضي الهيئة إلى أكثر من جلسات وحضور إعلاميّ وتقرير كتابيّ لم يحوّل إلى ملفّ قضائيّ يأخذ مداه ومغزاه بين أروقة المحاكم.
لقد أبعد الأرجنتينيون المحاكمة عن مستنقع الإيديولوجيا بما جنّبهم محاولات الانحراف بها وإفقادها مغزاها. فأبقوها عند تحقيق العدالة وثنائيّة الضحيّة والمجرم أو الجلّاد. فيما عندنا كانت الثورة المضادّة قد أعادت تنظيم صفوفها وأشعلت الصراع الإيديولوجيّ بما جعله يطغى ويقوّض محاولة القوى المحسوبة على الثورة النأي بملفّ العدالة الانتقاليّة عن مستنقع الإيديولوجيا الموحل. فقد رُدّ أي تحرّك إلى الإيديولوجيا، وتمّ الضغط والتشويه من هذا الباب.
إنّ بي وجعاً شخصياً لأنني عجزتُ بسبب الظرف والإلزام عن إبلاغ صوت ضحايا الاستبداد، وإن بخطّ فرعيّ بسيط، لم أتمكّن من ذلك، رغم أنّني جعلته بعيداً عن الأيديولوجيا. رويتُ فقط علاقة الضحيّة بالجلّاد وتصوّر لحال الجلّاد في صورة عدم المحاسبة، لكنّ ذلك لم يجد طريقه إلى الشاشة، وقد بلغ العفن الإيديولوجيّ أشدّه في تلك الفترة.
فيلم Argentina 1985 والوعي السياسي
كان الساسة الأرجنتينيّون على وعي بمتطلّبات اللحظة التاريخيّة، فتحرّكوا وأنجزوا الجزء الأكبر من هدفهم في الوقت المناسب، وأقول الجزء الأكبر لأنّ المحاكمات لم تمتدّ طويلاً إلى باقي الرتب والجلّادين الذين جاوزوا خلال فترة جور العسكر نطاق "تنفيذ الأوامر" إلى إمعان مرضيّ في الإجرام.
تمّ ضرب الرأس، بمحاكمة القيادات العليا وبعض أذنابهم، وهو الأهمّ، وما بني عليه مستقبل الأرجنتين السياسيّ بأسس إعلاء القانون والمحاسبة والتداول الديمقراطيّ على السلطة، وتجنّباً للتعسّف على هذا الإنجاز بالنظر إلى تململ الجيش تم إصدار قانون ينهي محاكمات العسكريين سنة 1986، وقد بقي قائماً حتّى سنة 2003 تاريخ إلغائه واستئناف التتبّع القضائيّ في مرحلة جديدة.
بالمقابل لم يكن ساسة تونس المحسوبون على الثورة بنفس هذا الوعي، وقد أهدروا فرصة الإجابة عن أحد أهمّ المطالب التي طرحتها الثورة، أي –المحاسبة–، محاسبة المنظومة السابقة على شنيع جرائمها بحقّ التونسيين، فحال الإخفاق في هذا الملف دون التمكّن من إدانتها ومعاقبتها ورموزها، وكرّس ثقافة الإفلات من العقاب.
قد آل الأمر إلى النقيض بالترحّم، سياسيّاً وشعبياً، على رأسَي زمن الاستبداد الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وتبرير الخطايا، وغيره تحت مسمّيات واهية. مما تسبب في تغوّل الثورة المضادّة وانقلاب وإزاحة لهذه القوى عن الحكم يعود بالأساس لعجزها عن الإجابة على أسئلة الثورة، ومن بينها سؤال المحاسبة الذي أهملت.
نهايتان.. أو إرجاء الحسم
ينتهي فيلم "الأرجنتين Argentina 1985" محتفياً بحدث عظيم، عكس ما حدث عندنا في تونس كما رأينا في فيلم "غدوة" التونسيّ الذي تناول كذلك مسألة المحاسبة بعد الثورة، والذي ينتهي عند القبض على المحامي المطالب بالمحاسبة والعدالة، بعد أن ضاعتا بين ثنايا الحسابات السياسيّة الخاطئة، ويضع الأمل في جيل لاحق يأخذ مشعل السعي نحو هذا المطلب.
ينتهي الفيلم الأرجنتيني ببيان كتابيّ يقول: "منذ 1983 تعيش الأرجنتين في ديمقراطيّة لم تنقطع"، وهذا بالطبع نتاج النجاح في محاكمة ومحاسبة مجرمي المنظومة السابقة وإعلاء القانون. أمّا في تونس فرغم العثرات والأخطاء وفقر الإنجاز، فإنّ عجلة التغيير على بطئها وضعف أثرها لن تتوقّف، هي تسير بأخفّ الأضرار، وقد راكمت ما سيخوّل لها أن تنجز لاحقاً ما تمّ التفريط فيه خلال السنوات الأولى للثورة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.