على وقع الرصاص، وتناحر الفرقاء، واشتباكات دموية في السودان، استقبلت الأمة الإسلامية عيد الفطر لسنة 1444 هجرية 2023 ميادياً.
فعلى مدار عقود، قَلَّ أن يستقبل المسلمون عيداً لا تخلو فيه الأمة من مصاب ألمّ بها، أو جرح يزيد من آلامها.
قد أتي عيد الفطر لهذا العام وجرح جديد في السودان قد أصاب جسد الأمة المثخن بالجراح، وآلام الأمة ممتدة، من فلسطين والعراق وسوريا، ومن اليمن إلى ليبيا وتونس والسودان، وغيرها من البلدان.
في هذا العيد، اجتمع على المسلمين عبودية الفرح بالعيد وإدراك رمضان، وتوفيق الله لإتمام الصيام والقيام، والحزن لمصاب جديد قد أصاب شعب السودان، يضاف إلى مصاب المسلمين في المنطقة العربية وغيرها من مناطق العالم.
العيد في السودان.. واقع الرصاص ودوي المدافع
ففي صبيحة يوم عيد الفطر، كان صوت إطلاق النيران يدوي في كثير من أحياء العاصمة السودانية، الخرطوم، وعجز ساكنوها عن إقامة صلاة العيد؛ لوقوع تلك الأحياء في دائرة الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع.
مع تكبيرات العيد كانت أصوات الرصاص وانفجارات القنابل تُسمع في أرجاء مختلفة في العاصمة السودانية، في استمرار للمشهد العبثي الذي بدأ في رمضان قبل العيد بستة أيام.
تحت قصف المدافع ودويها، وهدير الطائرات وأزيزها، وعلى وقع زخات الرصاص، أكمل الشعب السوداني ما تبقى من ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان، منذ اندلاع الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في الرابع والعشرين من رمضان، الموافق الخامس عشر من إبريل/نيسان 2023.
على مدار ما تبقى من أيام شهر رمضان المبارك لم يكن صوت المدافع لإعلان موعد الإفطار عند أذان المغرب، أو التنبيه لموعد الإمساك عند أذان الفجر، ولكنه كان إعلاناً عن حرب الجميع ضد الجميع، حرب السودان ضد السودان!
العيد في السودان "شُطر رأس ولدي نصفين"
خافوا الله فينا، الكراسي ما هي كل شيء. ما ذنب هذا الطفل المسكين الذي مات غدراً؟ كانت تلك رسالة للبرهان وحميدتي من أب مكلوم فقد ولده الصغير، ربما تختصر المشهد العبثي في السودان، فقد شقت شظية طائشة من قنبلة رأس فلذة كبده ابن السبع سنوات إلى نصفين، والذي كان بصحبته في الطريق لشراء بعض المستلزمات، ليحمل الأب "مخ" ولده بين يديه، ويشكو إلى الله مصابه الجلل في وأد نفس بريئة، لا تدري بأي ذنب قتلت!
فمن يتحمل دم هذا الصغير وغيره من مئات السودانيين الذين قضوا نحبهم برصاصات وشظايا طائشة، وغيرهم من آلاف الجرحى في تلك الأيام المعدودات؟ فالاشتباكات تدور في أحياء سكنية تتمرس فيها قوات الدعم السريع، مما يجعل المواطنين السودانيين في مرمى رصاصات المتقاتلين وقذائفهم، التي لا تفرق بين عسكري ومدني، في صراع جنرالات، لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
على قارعة الطريق.. مشهد بألف كلمة
سودانيون على قارعة الطريق في أحد أحياء العاصمة الخرطوم، لم ترهبهم الاشتباكات العنيفة، يفترشون الأرض، وقد وضعوا طعام الإفطار كعادة السودانيين في شهر رمضان، قبل أذان المغرب، يدعون إليه كل مار بالطريق، بينما طلقات الرصاص وأصوات المدافع تدوي حولهم وهم ينظرون إليها من بعيد.
فرغم شح المواد الغذائية والمياه وسوء الأوضاع المعيشية، حرص أبناء هذا الشعب الطيب على إفطار الصائمين العابرين، طلباً للأجر والمثوبة من الله، وتمسكاً بعادة من عادات الشعب السوداني في رمضان.
واقع الحال في السودان ينبئ بتواضع مستوى البنية التحتية في بلد يعاني أزمات طاحنة في الغذاء والماء والكهرباء، وغيرها، وقد جاء الصراع الحالي ليزيد الطين بلة.
بعيداً عن الدهشة من مشهد سفرة الإفطار على قارعة الطريق رغم الرصاص والقذائف، فإن هذا المشهد يحمل رسالة إلى فرقاء السودان المتقاتلين، كأنما تقول: لستم منا ولسنا منكم يا من تتقاتلون، ومن يدعي منكم وصلاً بنا فنحن لا نقر له بذاك!
الجميع خاسرون
ما يحدث في السودان حرب يقتل فيها سودانيون بعضهم بعضاً، وتراق فيها دماء معصومة، وتوأد أنفس بريئة لا تدري بأي ذنب قتلت.
الصراع في السودان يكتوي بلهيبه شعب مسالم مغلوب على أمره، وكأنه لا يكفي ما يعانيه من تراجع وفقر وأزمات.
إن تناحر فرقاء السودان لا محالة يورد المهالك، ويعصف بملايين لا ذنب لهم في صراع فجرته شهوة سلطة، ورغبة سطوة، وألهبت سعيره قوى إقليمية ودولية لا ترقُبُ في السودان وأهله إلاً ولا ذمة.
الحرب الدائرة بين الفرقاء في السودان حربٌ لا منتصر فيها؛ ولكنها حرب الجميع فيها لا بد خاسرون، وإن كان هناك من منتصر فإنهم أعداء الأمة المتربصون بأقطارها وشعوبها.
ختاماً.. لست أدري أين موقع المتحاربين في السودان الآن من حديث النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار"؟
لا أعلم أين يقف الجميع في الأمة من قوله تعالى: "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ".
لقد جاء العيد والفرقاء في السودان يتناحرون، وواقع الحال ليس ببعيد عن واقع الأمة وما تعيشه كثير من أقطارها، ورحم الله الشاعر والدبلوماسي السوري، عمر بهاء الدين الأميري، فقد لخصت أبيات له واقعاً مريراً تعيشه الأمة منذ عقود، يقول فيها:
يقولونَ لي: عيدٌ سعيدٌ، وإنَّهُ… ليومُ حسابٍ لو نحسُّ ونشعرُ
أعيدٌ سعيدٌ!! يا لها من سعادةٍ… وأوطانُنا فيها الشقاءُ يزمجرُ
حفظ الله السودان وشعبه، وهدى الله فرقاء الأمة إلى الحق بإذنه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.