الانتخابات التركية.. هل سيتخلّى كليجدار أوغلو عن استقلال أنقرة؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/04/23 الساعة 08:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/04/23 الساعة 10:22 بتوقيت غرينتش
زعيم المعارضة كليجدار أوغلو سينافس الرئيس أردوغان على منصب الرئاسة التركية/ عربي بوست

خيّم الغموض على مصير رئيس تركيا في الساعات الأولى من يوم 16 يوليو/تموز. إذ شنت بعض أقسام القوات المسلحة انقلاباً عنيفاً، وقصفت الطائرات المقاتلة مبنى البرلمان، وشهد محيط المقر الرئيسي للاستخبارات التركية تبادلاً لإطلاق النار، لكن مصير رجب طيب أردوغان ظل مجهولاً بعد رصده لآخر مرة داخل فيلا العطلات الخاصة به.

وسهر مذيعو التلفزيون السعودي والإماراتي والمصري طوال الليلة في ابتهاج لمتابعة الوضع لحظةً بلحظة، زاعمين أن خصمهم الذي دعم الربيع العربي قد مات أو فرّ من البلاد.

والتزم وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بقواعد اللعبة المتبعة إبان الإطاحة بأول رئيس ديمقراطي منتخب في مصر، محمد مرسي، خلال انقلابٍ عسكري. حيث رفض كيري وصف الأحداث الجارية في تركيا بأنها انقلاب، وأعرب عن أمله في "الاستقرار والسلام والاستمرارية"، وذلك في إشارة ضمنية لقادة الانقلاب العسكري على أن بإمكانهم فعل ما يحلو لهم.

ونشرت صحيفة The Guardian البريطانية مقالتها الافتتاحية، المتنكرة في صورة تحليل إخباري، حول نهاية الرجل الذي وصفته بالحاكم الإسلاموي المستبد. ثم أكّدت أن أردوغان هو الذي جلب على نفسه هذه النهاية، وحملت المقالة عنوان: "كيف أشعل رجب طيب أردوغان التوترات في تركيا".

ولا حاجة للقول إن العنوان تعرّض للتنقيح السريع بمجرد خروج أردوغان من قبره الذي حُفِرَ قبل أوانه، ليعقد مؤتمراً صحفياً في مطار إسطنبول، بعد أن لعبت طائرته مطاردة القط والفأر مع المقاتلات الحربية في السماء طوال الليل.

ومن المحتمل أن يفقد أردوغان السلطة العام الجاري، في يوم 14 مايو/أيار، أو بعدها بأسبوعين على الأرجح، خلال جولة التصويت الثانية، لكن بطريقة دستورية هذه المرة، إذ ستكون الانتخابات المقبلة أصعب انتخابات يخوضها منذ 22 عاماً. وتجدر الإشارة إلى أنها ستكون انتخابات حقيقية، بعكس الممارسات الصورية التي تُعقد في دول الشرق الأوسط.

وقد تغيّرت الكثير من الأمور في البلاد منذ ذلك الحين. وإذا سقط أردوغان، فسوف يكون ذلك نتيجةً لمشكلات مثل التضخم وتكاليف المعيشة. وعندها سنكون أمام تجسيدٍ آخر لشعار حملة بيل كلينتون المأثور: "إنه الاقتصاد يا غبي". وعند سؤال الأتراك عما إذا كانوا يريدون التغيير أم الاستقرار في عام 2018، صوّت غالبيتهم لصالح الاستقرار، لكن الغالبية قد تصوّت لصالح الخيار الآخر اليوم.

ليس هناك متفرج محايد

لا يقف العالم الغربي اليوم موقف المتفرج المحايد، كما حدث في 2016، إذ يُمكن وصف تعاملات أردوغان مع زعماء الغرب بأنها كانت متقدةً على أقل تقدير.

حيث وصفه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأنه لاعب شطرنج من الطراز العالمي، بينما قال جو بايدن إن الزعيم التركي يجب أن يدفع الثمن، إذ صرّح بايدن قبل تولّيه الرئاسة قائلاً: "أعتقد أن ما يجب علينا فعله هو اتخاذ نهجٍ مختلف للغاية في التعامل معه الآن، حتى نوضح له أننا ندعم قيادة المعارضة".

فيما وصفه نائب رئيس البوندستاغ الألماني وولفغانغ كوبيكي بـ"جرذ المجاري". أما أردوغان نفسه فقد صرّح بأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحتاج إلى "شكل من أشكال العلاج النفسي"، وذلك بسبب طريقة معاملته للمسلمين.

والأسوأ من ذلك في نظر قادة الغرب هو أن أردوغان قد علّق انضمام السويد إلى حلف الناتو، بينما سمح لفنلندا بالانضمام، كما ارتكب خطأً لا يُغتفر في رأيهم، عندما حافظ على العلاقات الجيدة التي تربطه بروسيا وأوكرانيا، بينما تنتشر قواته في كافة أرجاء الشرق الأوسط وإفريقيا، بدايةً بليبيا والعراق، ووصولاً إلى قطر والصومال.

وجاءت نقطة الاشتعال الأخيرة في محافظة السليمانية بالعراق، حيث وجّه المسؤولون الغربيون أصابع الاتهام إلى تركيا، بزعم أنها شنّت هجوماً بالطائرات المسيّرة على قافلةٍ لاستهداف القائد الكردي السوري مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية التي تقول أنقرة إنها تابعة لحزب العمال الكردستاني. ولقي ثلاثة حراس شخصيين أمريكيين في القافلة مصرعهم، بينما نفت تركيا تلك المزاعم.

ولا شك أن خروج أردوغان من السلطة سيُستقبل بأصوات فتح زجاجات الشمبانيا احتفالاً بطول الطريق من برلين إلى واشنطن. ولا خلاف على ذلك، لكن هل سيكون اختفاء أردوغان من الساحة المحلية أمراً جيداً بالنسبة لتركيا، أو للشرق الأوسط ككل؟

للإجابة عن هذا السؤال التقيت بعدة مسؤولين من الحكومة والمعارضة، وقد عمل بعضهم كسفراء في السابق.

يُذكر أن المرشح الرئاسي المشترك للمعارضة، كمال كليجدار أوغلو، قد أدلى بسلسلةٍ من التصريحات ليتصدّر عناوين الصحف. إذ وعد بالسفر إلى أوروبا دون تأشيرة في غضون ثلاثة أشهر من توليه المنصب، وهدّد اليونان بالتدخل المسلح، كما حرص على زيارة واشنطن، والمملكة المتحدة، وألمانيا.

الاتجاه واضح

إذا دققنا قليلاً فسنجد أن الوفاء بوعود كليجدار أوغلو يتطلّب مؤهلات كبيرة، وعند الضغط على مسؤول معارضة تركي بارز، اعترف الرجل بأن وعد كليجدار أوغلو بمنح الأتراك إمكانية السفر لدول الشنغن دون تأشيرة- في غضون ثلاثة أشهر- كان وعداً "شديد التفاؤل". وحتى لو نجحت الحكومة التركية الجديدة في استيفاء كافة معايير الاتحاد الأوروبي ستظل هناك مشكلة صغيرة تتعلق بقبرص.

وقد يُخيّم الشك على التفاصيل، لكن الاتجاه العام واضح، إذ تحدّث السفير المتقاعد وكبير مستشاري كليجدار أوغلو للشؤون الخارجية، أونال سيفيكوز، إلى موقع Middle East Eye البريطاني قائلاً إن الحكومة الجديدة ستحرص على تطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي، والاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو.

وأردف سيفيكوز أن السياسة الخارجية الجديدة ستعتمد على "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للجيران، واتباع سياسة خارجية محايدة، والالتزام بالمعايير الدولية". كما انتقد استخدام أردوغان للقوة الصلبة في ليبيا، واعداً بأن تُصبح تركيا "وسيطاً نزيهاً" في ليبيا بالحديث إلى كافة الأطراف، لكن الإدلاء بمثل هذه الوعود يظل أسهل من تحقيقها على أرض الواقع.

وفي سوريا، وعدت المعارضة بإنجاز ثلاثة أشياء في وقتٍ واحد: إعادة كافة اللاجئين السوريين البالغ عددهم 3.7 مليون شخص إلى وطنهم، والتعامل مع الرئيس بشار الأسد، وتصحيح سياسة الانحياز إلى أحد الجانبين في الحرب الأهلية.

فما الذي سيحدث لمعارضي الأسد الذين تحميهم القوات التركية في إدلب؟ طرحت هذا السؤال على مسؤول في المعارضة، ليجيبني بوجهٍ مُتجهِّم: "هذا سؤال جيد".

واعترف مسؤول المعارضة بأن الحكومة ستستغرق وقتاً طويلاً من أجل كسب ثقة دمشق، وفك ارتباطها في إدلب. حيث قال: "سيتعين علينا إعادة التفاعل مع السكان المحليين في إدلب، وإعادتهم إلى أحضان المجتمع، لكننا لا نستطيع فعل ذلك بمفردنا".

فماذا عن الشأن الأوكراني؟ إذ تعرّض كليجدار أوغلو لمعارضة من حزبه، حزب الشعب الجمهوري، بعد فترةٍ وجيزة من تصريحه بأن تركيا "يجب أن تقف إلى جانب أوكرانيا في الحرب الروسية-الأوكرانية"، حيث أكّد أوزجور أوزيل، نائب رئيس الكتلة البرلمانية للحزب، على صحة السياسة الحالية التي تتبعها تركيا. وقال: "لا تستطيع تركيا التضحية بأوكرانيا أو روسيا".

وتأكّد ذلك على لسان مسؤولَيْن في المعارضة، حيث أقرَّا بأن تركيا يجب أن تواصل نهجها المتوازن الحالي بالسعي لاتخاذ موقف الوسيط، لكنهما أوضحا كذلك أن أنقرة يجب ألا تنضم لعقوبات الاتحاد الأوروبي.

الانسحاب الإقليمي

حتى لو طرحنا افتراضاً كبيراً يقول إن الأحزاب السياسية اليائسة والمتحاربة سابقاً، التي تُشكّل طاولة الستة التركية، ستصمد في الحكومة معاً- وهي فرضية كبيرة- فسنجد أن السياسة الوحيدة التي تجمعهم هي الرغبة العامة في الانسحاب من المنطقة، ومد أيديهم إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والناتو.

وقد استخدمت مصطلح مد الأيدي هنا لأن وسائل تحقيق ذلك ليست واضحة، إذ تحتاج تركيا إلى المعارف الغربية اللازمة لتحويل شركةٍ ناشئة إلى عملٍ تجاري يستطيع الوقوف على قدميه، حيث تواجه الشركات الناشئة صعوبةً في التحول إلى أعمال تجارية داخل تركيا، لأن المالك يتعيّن عليه تولّي كافة المسؤوليات بدايةً بالضرائب ووصولاً إلى الجمارك والتدفق النقدي، ما يعني أن خريجي الجامعات الموهوبين يواجهون صعوبةً في تحويل أفكارهم إلى شركات ناجحة، والعثور على مستثمرين مستعدين لدعمهم. بينما يجري ضخ غالبية الاستثمارات في مجال البناء الذي يكفل الأرباح السريعة والمضمونة للمستثمر، فضلاً عن سهولة رشوة المسؤولين.

وتذهب نحو نصف الصادرات التركية إلى دول الاتحاد الأوروبي، ولهذا لا خلاف على منطقية تخفيف حدة العلاقة مع أوروبا، لكن عضوية الاتحاد الأوروبي لا تزال بعيدة المنال، حيث انضمت سبع دول أخرى على الأقل إلى قائمة انتظار العضوية، وذلك منذ أن صارت تركيا مرشحةً لها قبل زهاء العقدين. وأشك في أن كليجدار أوغلو سيتمكن من تسريع العملية أكثر مما فعل أردوغان، خلال الأيام التي سبقت تخلّيه عن هويته الليبرالية المؤيدة لأوروبا.

وبوضع كافة الأمور في نصابها، ستتضح لنا الحاجة إلى استرضاء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والناتو، لكن وسائل تحقيق ذلك دون التضحية بمصالح تركيا الحيوية ليست واضحةً بالقدر ذاته.

وستواصل روسيا بناء محطة أكويو النووية في تركيا، بغض النظر عن الحكومة الموجودة في السلطة، ومن ناحيةٍ أخرى سيؤدي وعد المعارضة بطرد قطر من مصنع الدبابات- الذي موّلت 49% من تكلفته- إلى تخويف المستثمرين الأجانب الآخرين، الذين تحتاجهم تركيا بشدة.

لكن منطقة الشرق الأوسط هي التي ستشعر أكثر من غيرها بأثر تغيير النظام في أنقرة، ولا أتحدث هنا عن المنفيين الذين استضافتهم تركيا من مصر، وسوريا، وفلسطين فقط.

بل أشير هنا إلى علاقة تركيا برؤساء الدول أنفسهم، الذين حاولوا إبعاد أردوغان عن الساحة الدولية قبل سبع سنوات.

وصاغ أحد مسؤولي الشرق الأوسط الوضع على النحو التالي: "تعلّمنا في العلوم السياسية أن السياسة الخارجية تصيغها الوحدات الكبيرة- مثل اللوبي الصناعي العسكري وجاليات الشتات- ثم تصقلها الوحدات الأصغر مثل مراكز الأبحاث والوزارات، حتى يتم التعبير عنها بواسطة المستشارين لينفذها الرؤساء. أما في الشرق الأوسط فسنجد أن الهرم مقلوب، حيث تبدأ السياسة الخارجية وتنتهي عند الرجل الموجود على رأس الهرم، وإذا كانت لديك علاقة شخصية معه، حتى لو خضتما حرباً ضد بعضكما، فسيكون استئناف تلك العلاقة مجرد مسألة وقت".

خيارات براغماتية

تحمل الكلمات الأخيرة حكمةً في طياتها، إذ حصلت تركيا اليوم على استثمارات بمليارات الدولارات من السعودية والإمارات، بعد أن موّلتا محاولة الانقلاب جزئياً.

ويرجع السبب جزئياً إلى إدراك رئيس الإمارات، محمد بن زايد، أن الأموال التي كان ينفقها لدعم الحكام المستبدين في شمال إفريقيا لم تؤتِ ثمارها، ولهذا عكس مساره.

لكن السبب يرتبط أيضاً بالخيارات البراغماتية التي اتخذتها تركيا، والتي جاءت في بعض الأحيان على حساب التخلي عن القضايا نفسها التي دافع عنها أردوغان، مثل تقديم قتلة الصحفي السعودي جمال خاشقجي للعدالة.

وتحظى تركيا بمعاملة الحليف التكتيكي في موسكو والخليج تحديداً، لأنها حاربت الجنود الروس في سوريا، واستخدمت طائراتها المسيرة ضد قوات مجموعة فاغنر في ليبيا، وتصدّت للثورة المضادة التي موّلتها الرياض وأبوظبي.

ولم يبدل أي طرف قناعاته في هذه المعادلة، حيث قال لي مسؤول آخر: "إذا كان بإمكان محمد بن سلمان أن يقتل خاشقجي آخر ويُفلت بفعلته، فسوف يفعل ذلك". لكن حقيقة اعتبار تركيا اليوم كطرفٍ يمكنه نشر قواته في المنطقة لحماية حلفائه هي حقيقة مهمة.

ولا تقتصر مواطن القلق على الاتجاه الذي ستسلكه تركيا في حال وصول المعارضة إلى السلطة، بل يرتبط الأمر بالتوقيت أيضاً. إذ يُقال عادةً إن روسيا خرجت من الاتحاد السوفييتي في أسوأ توقيت ممكن، عندما كانت نظريات الليبرالية الجديدة عن الأسواق المتحررة، وتراجع سلطة الدولة في أوجها.

وقد طرقت روسيا باب الغرب في وقتٍ اقتنعت خلاله الولايات المتحدة بصواب فكرة تدمير الدول، من أجل إعادة بنائها في صورة نسخٍ غربية. وربما كانت النتيجة ستختلف لو كان الاتحاد السوفييتي قد انهار قبلها بعقدين فقط، عندما كانت الديمقراطية الليبرالية على الطراز الاسكندنافي لا تزال رائجة، أو هكذا تقول النظرية.

وعلى نحوٍ مماثل، قد تكون تركيا على وشك تسليم دعائم استقلالها في الوقت الذي تستعد خلاله الولايات المتحدة والناتو لمواجهة عسكرية كاملة مع الصين. ولا يخفى حجم هذا الخطر على حلفاء الولايات المتحدة في الخليج، الذين يسعون لتنويع تجارتهم وتقليل اعتمادهم على الدولار وتحسين العلاقات مع الصين.

إذ نُسِبَ الفضل إلى الصين في الانفراجة التي شهدتها العلاقات بين السعودية وإيران. كما تعرض الآن الوساطة بين الفلسطينيين وإسرائيل.

ووسط هذه البيئة تحديداً، من الضروري أن تضم منطقة الشرق الأوسط بين صفوفها بعض الدول القوية والمستعدة لممارسة استقلالها. وهذا هو ما حققه أردوغان رغم كل زلاته وأخطائه الواضحة. ولهذا فإن خسارة ذلك اليوم لن تكون كارثة على تركيا فحسب، بل على المنطقة ككل.

– هذا الموضوع مُترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ديفيد هيرست
كاتب صحفي بريطاني
ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع Middle East Eye البريطاني، وكبير الكتاب في الجارديان البريطانية سابقاً
تحميل المزيد