ما أقدمت عليه السلطات الأمنية في الأيام السالفة، بإيقاف الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة، بإيعاز من السلطات العليا للبلاد، ومتابعته، مع إغلاق مقار حزب النهضة، يُعدّ سابقة خطيرة، تهدد العمل السياسي، وتتنافى والسلوك الإسلامي، بتوقيف شخص في ليلة القدر عبّر عن رأي، دون حفظ المقامات، ومنافٍ لطبيعة التونسيين وأخلاقهم، التي تميزت دوماً بالكياسة والنأي عن الغلو. من شأن ما وقع أن يزيد من التوتر القائم، ويؤجج من الأزمة الاجتماعية والاقتصادية.
لا جدال ألا أحد أسمى من القانون فيما يرتكبه من فعل أو ما يصدر عنه من قول. ولكن حرية الرأي ليست جريمة، ولا يمكن لمجتمع حديث، أو يصبو للحداثة، أن يضرب صفحاً عن حرية الرأي؛ لأن المجتمعات بطبيعتها متنوعة، والحقيقة غير مطلقة، ويتم بلوغها من خلال الرأي والنقاش. وحرية الرأي والتعبير هي إلى ذلك، صمام أمان، وبوصلة تعصم من الزيغ.
"جريمة" السيد راشد الغنوشي أنه عبّر عن تعدد أطياف تونس وتنوعها، ومن دون هذا التنوع، لا يمكنها أن تستقيم. لا يمكنها أن تضرب صفحاً عن الإسلام السياسي لأنه جزء من تربتها، ولا اليسار، لأنه حقيقة، ولا لكل أطيافها. وكل تنميط، أو تكميم، من شأنه أن يدفع إلى الحرب الأهلية.
هذه هي "الجريمة" التي أوقف السيد راشد الغنوشي جراءها، ويُتابع بشأنها، لأنه يريد في نهاية المطاف، أن يجنب بلده الصدام.
لست تونسياً وأعي الحيز الذي لا يمكنني الخوض فيه، ولكنني لا أصطف مع اتجاه، وإنما أدافع عن مبدأ. ولست إسلامياً، أصدُر من واجب النُّصرة. حافزي هو احترام التنوع الثقافي والسياسي، والوعي من أن الإسلام السياسي جزء من المشهد السياسي والثقافي، ومن العبث تجاهله أو إنكاره. وقد أبانت التجربة في كثير من أرجاء العالم العربي أن محاولة إنكاره، أو التمادي في ذلك، هو ما أفضى إلى التوتر، بلْه إلى الصدام. وأثبت التجربة كذلك أن الإسلام السياسي قابل للانسكاب في القوالب الديمقراطية، باحترام الاتجاهات المختلفة، والاحتكام للشعب، وقبول مبدأ التداول على السلطة، والأهم من كل ذلك، نأيه عن العنف، وشجبه للتنطع في الدين، أو الحدية في السياسية. وفضلاً عن ذلك، تبين أن الإسلام السياسي وأصحابه متى أتيح لهم المشاركة قابلون للتطور.
هذا من حيث المبدأ. أما حزب النهضة، فيعبر تاريخه عن حقيقته، من خلال مرجعياته وسلوك أصحابه، وهو الأمر الذي جعله مرجعاً لكثير من تجارب الإسلام السياسي في العالم العربي التي نظرت للتجربة التونسية كنبراس يمكن أن يُهتدى به، في الأخذ بقواعد الديمقراطية مع الإيمان بالمرجعية الحضارية. وهي توليفة لم تُوفق إليها كثير من التجارب في العالم العربي، وُوفقت فيها تونس.
وأما السيد راشد الغنوشي فهو بالأساس رجل فكر، اغترف من مَعين مرجعيات فكرية متعددة، ووقف حتى على تلك التي لا تتطابق ومرجعياته، واستخلص منها عصارتها. كتب ونظّر وحاور. وحينما دُفع للمنفى، لم يُسجل عنه قول أو فعل يدعو للعنف، وصدامُ الحضارات محتدم حينها. وفي تجربته بالمنفى في بريطانيا، وقف على الديمقراطيين حقاً وصدقاً، وهو يعي ما الديمقراطية، ويُعبر عن دَيْنه للديمقراطيين.
تونس أكبر من حيز جغرافي. هي فكرة عبَرت الأحقاب التاريخية، وأسهمت بسهم وافر في التجربة الكونية، منذ الفينيقيين فالرومان، إلى الفترة الإسلامية، بمدّها وجزرها. وكانت في فترات الكبوة نبراساً ومناراً. أعطت عبر التاريخ، ولا تزال، رجالات في ميدان الفكر السياسة يُؤتم بهم إلى الآن.
ولا يمكن السكوت على الزيغ الذي تعرفه تونس؛ لأن تونس الفكرة ليست ملكاً لأحد، بل للبشرية جمعاء، ويتوجب حماية هذه الفكرة من الزيغ الذي تعرفه، والتنطع الذي تتعرض له. وأولى الناس بحماية هذه الفكرة، أبناء تونس البررة، ثم بلاد المغرب، فالعالم العربي، وأحرار العالم قاطبة. وكل سكوت أو تخاذل، هو تواطؤ، ومشاركة في الزيغ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.