هناك حنين دائم للماضي يجعله أجمل، عندما نتذكر ماضينا نَحِنُ إليه، نشعر أن الحياة كانت أكثر لطفاً والمجتمع أكثر تماسكاً، والموجودات أكثر جمالاً، فهل هذا حق؟
دائماً ما أتساءل هذا التساؤل عندما أتذكر طفولتي، هل الماضي كان أجمل حقاً أم نحن من كنا أكثر هدوءاً، كان البال رائقاً، لا نحمل هموماً حقيقية -وإن ظننا ذلك وقتها- لذا فعندما نتذكر الماضي في الأغلب نَحِنُ لأنفسنا القديمة وليس للزمن القديم.
رغم ذلك فإن النوستالجيا ظاهرة حقيقة تجتاحنا هذه الأيام، والنوستالجيا هي الحنين إلى الماضي، وهي ظاهرة موجودة دائماً ولكنها تظهر بشكل أكثر وضوحاً كلما صعُبت الحياة، فأصبح الماضي في نفوس من عاصروه أجمل.
العيد زمان جزء من ماضينا وحاضرنا، فلقد عشنا أعياداً ونعيش الآن أعياداً جديدة تجعلنا نستطيع المقارنة بين الماضي والحاضر.
ماما وبابا وكعك العيد زمان
كعك العيد هذه الحلوى التي اكتسبت حروف اسمها فرحة ذاتية تشع منها وتنعكس على النفس، أرفع سماعة الهاتف لأتصل بفرع لسلسلة محلات حلويات شهيرة، بينما في يدي قائمة منتجاتهم المنشورة عبر موقعهم على الإنترنت لأختار منها، أُملي البائع على الطرف الآخر طلباتي من كعك العيد وحلوى مصاحبة له في العيد، بعد قليل يصل "الديليفري" يحمل العُلب المغلقة المغلّفة التي تحوي كعك العيد أضعها جانباً حتى يوم العيد، نعم هذا كل شيء يتعلق بالكعك الآن.
تبتسم والدتي بشجن وهي تراني أفعل ذلك وأتكلم عن الانتهاء من بند كعك العيد في تجهيزات العيد 2023، فأنظر لها لأبتسم أنا الأخرى ونتذكر سوياً، كيف كان يُعَد كعك العيد زمان في بيتنا القديم بيت الأسرة سابقاً.
أكثر ما يثير داخلي الشجن ويستحث ذاكرتي هو الرائحة، رائحة الخبيز والتي تساوي رائحة الفرحة
كل شيء كان له إعدادات مسبقة، شراء الخزين من المواد الأولية؛ الدقيق والسكر والزُبد والسمن والبيض.. إلخ، كانت هذه وظيفة والدي -رحمه الله- يعود مُحملاً بأكياس المنتجات التي نبتهج بمجرد رؤيتها، فمعنى وصولها في هذه اللحظة بهذه الكميات أن أوان كعك العيد قد آن.
لتبدأ والدتي سيمفونية عزف سعيدة تمتزج فيها كافة الحواس، فمَسرة العين في اختيار الأشكال المبهجة لتقطيع "البسكويت والبيتي فور"، والتي نتنافس أنا وأخي في اختيار أشكالها واختيار تزينها كذلك، وبين الأنف التي تستنشق رائحة الخبيز التي تتوالى، فرائحة الكعك تختلف عن رائحة البسكويت عن رائحة الغربية الحبيبة، وكل رائحة تَعد حاسة التذوق بوقت شهي حقاً وطعم لذيذ لا ينسى.
ملمس الحلوى التي تتفاخر والدتي بها فكيف أنتجت "غُريبة" شديدة النعومة، و "كعك عيد" ذا ملمس مخملي، ثم أصوات الصاجات وهي تدخل الفرن وتخرج ووالدتي تغسلها، ثم أصوات "تكة" العُلب محكمة الغلق التي تعني أن مرحلة التذوق قد انتهت وأوان تخزين الكعك حتى قدوم العيد قد حل وعلينا الامتثال.
لكن هذا الحجر لا يكون أبداً بشكل جَدي، فكل يوم بعد الإفطار نستعطف والدتنا بإعطائنا قطعاً قليلة من الكنز المخبأ في العُلب المُحكمة، وهي لا تستطيع أن تخذلنا فتفتح العُلب يومياً لنستمتع بالمذاق الجميل حتى قدوم العيد حين تفتح والدتي كافة العُلب ليخرج الكنز للوجود بلا قيود، وكأنها نقطت جملة "افتح يا سمسم" لتفتح مغارة "علي بابا" الخاصة بالحلوى.
العيدية ولعبة العيد زمان
لا يمكن أن أنسى لحظات الترقب الخاصة بالعيدية، ففي ذلك الزمن كانت زيارات العيد كثيرة، لا هواتف محمولة يمكن أن نهنئ بعضنا البعض بها ولا "واتس آب" أو "فيسبوك" نرسل عبره نفس الرسالة للكل وكأنه خط تعليب للرسائل، بل كانت التهاني شخصية جداً وحقيقية للغاية.
بل في بدايات الثمانينات لم تكن كافة منازل العاصمة المصرية تحوي هواتف عادية، فكان الحل الأمثل كي تهنئ العائلة بالعيد أن تذهب إليهم لتزورهم، وأن يأتوا لك ليزوروك، وهكذا على مدار أيام العيد لم تكن تنقطع الزيارات ولا العديات كذلك.
يدخل الضيف المنزل فنعرف أن هناك عيدية قادمة في الأفق، إنها تتجهز الآن في جيب الضيف تستعد للخروج على شكل أوراق جديدة لامعة حادة مبهرة في حد ذاتها.
كنا كأطفال صغار نعرف من السنوات السابقة القليلة التي تلقينا العيدية بها، مقدار تقريبي لكل شخص، فقريبنا هذا يعطي عيدية كبيرة، بينما تلك عيديتها ليست بنفس القدر، وكنا كذلك نميز اللطف في العطاء، فلا يهم فقط مقدار العيدية بقدر ما يهم لطف مُعطيها، فقد لا نرحب كثيراً بعيدية "عمو" رغم كثرتها لأنه يعطيها كأداء واجب، ولكن نهلل لعيدية "طنط" التي تعطيها لنا بابتسامة واسعة وكلمات جميلة وتهاني احتفالية وجو مرح، وبالطبع فالعيدية التي تجمع بين الكثرة واللطف تكون استثنائية.
كانت العيدية الأفضل لدي من الأقارب هي عيدية خالتي، كانت تُقسم مبلغ العيدية على الأيام الثلاثة، وبعد الإفطار صباحاً تحملها في يدها كأنها مروحة أو أوراق لعب "كوتشينة" وتسير في منزل العائلة صائحة "العيدية مين عايز كوتشينة" يجري خلفها أطفال الأسرة، كل منهم يسحب ورقة في جو من المرح والبهجة لا يُنسى ولن يتكرر، كل يوم جديد يعد بعيدية جديدة ودقائق من المرح ونحن نتسابق ونتنافس من يحصل على ورقته أولاً.
اليوم اكتشفت أننا قد استبدلنا العيدية بلعبة العيد، نختار الهدايا والألعاب للصغار من قبل العيد، صحيح أننا نتفنن في تغليفها بشكل أنيق ونتفنن كذلك في تخبئتها ليفاجأوا بها يوم العيد، ولكن رغم ذلك ظللت أعتقد أن سعادة العيدية كانت أكبر، بهجتها وادخارها لشراء ما نختاره نحن بعد ذلك كان أجمل.
لذا فقد كسرت التقليد الحالي مع أطفال عائلتي لأقسم فرحة العيد إلى فرحتين؛ هدية جميلة مفاجأة، وعيدية صغيرة تحمل ذات البهجة القديمة ووعوداً بأوقات مستقبلية جميلة عند صرفها.
من الأول السندباد أم حديقة الحيوان؟
خروجات العيد، بعيداً عن الزيارات الليلة بين أفراد الأسرة فهناك "الفُسح"، لم يكن والدي يحب الخروج في زحام العيد وكان يحاول بكل السُبل إقناعنا بتأجيل "الفُسح" لما بعد العيد عندما يقل الزحام، وقد يفلح مرة، ولكننا غالباً ما نفوز مرات عديدة.
اللطيف أنك كطفل تعيش في القاهرة في الثمانينات، فإن خيارات "الفسح" لديك محدودة حقاً، وأغلبها ينحصر في الذهاب إلى حديقة الحيوان، أو أن يتحول اليوم إلى يوم مميز وتكون الرحلة لملاهي السندباد، البعض كان يزور حدائق الأورمان أو الأندلس أو المريلاند، ولكن لم تكن شعبيتهم كبيرة فهم مجرد حدائق لا تثير خيال الأطفال، وعندما افتُتحت الحديقة الدولية كانت فتحاً عظيماً في عالم "الفُسح".
لم يكن خيار الغذاء في الخارج متاحاً غالباً، فلم يكن هناك مطاعم للفاست فود معروفة في ذاك الحين سوى "ومبي" ولم يكن محبباً جداً لدى الكِبار، أو الذهاب لمطاعم الكباب والمشويات وهي لم تكن محببة لدى الصغار، وهكذا في ذلك العصر الذي أصبح قديماً كان "أكل ماما" هو المتاح.
اليوم كل شيء متاح، يمكنك أن تذهب لمدن ملاهٍ لن تتخيل ما بها، أن تتزحلق فوق الجليد ودرجة الحرارة في الخارج تصل لما يقرب الأربعين، أن تذهب لمتنزهات وجولات منوعة، أن تلعب ألعاب "ليزر وبولينج" وغيرها، بالطبع يمكنك أن تتناول الطعام في كل مكان تقريباً كافة المطابخ العالمية متاحة.
ففي "فود كورت" واحد يمكن أن ينوع أفراد العائلة طعامهم، فذاك سيتناول طعاماً صينياً، وتلك طعاماً لبنانياً، بينما تحب هذه بهارات الطعام الهندي، والأطفال الصغار سيفضلون المطاعم التي تقدم هدية ألعاب مع الوجبات، وهكذا عالم كامل منوع ومختلف وغير ممل من الخيارات.
ربما يدفعنا الحنين للإعجاب بالماضي، ولكن من غير المنصف أن نعتبر التنوع والاطلاع على أطعمة وثقافات الآخرين شيئاً سيئاً، لو أردت رأيي فأنا أفضل العيد الآن في هذه الجزئية.
مسرحية ريا وسكينة والمتزوجون والفيلم الهندي
دعني أعترف لك اعترافا صغيراً، أنا لا أحب الأفلام الهندي، لذا كنت أكره للغاية أن تتحول فترة السهرة المتأخرة في التلفزيون لعرض فيلم هندي.
فلم يكن متاحاً لنا كصغار السهر إلا في المناسبات كالعيد، ولم يكن التلفاز ذاته يستمر في عرض البرامج بعد منتصف الليل إلا في العيد، لذا كان هذا هدراً للموارد بالنسبة لي، أن أكون متيقظة والتلفاز مفتوح ويعرض برامج، ويكون هذا العرض "فيلم هندي" كم كان ذلك شديد الإحباط لي.
بالنسبة للآخرين من أصدقائي ترتبط الأفلام الهندية لديهم بفرحة العيد، فلا يمكن الشعور ببهجته إلا بعد مشاهدتها، وكان عرض الفيلم الهندي هو أفضل أحداث اليوم.
بالطبع إن كنت من جيل التسعينات والألفية فأنت لا تفهم في الغالب لمَ الإحباط أو السعادة من عرض فيلم واحد؟ والواقع أن فكرة الفيلم في حد ذاتها في هذا الزمن كانت فكرة عزيزة؛ حيث يعرض فيلمان على الأكثر في الأسبوع، فنحن جيل التلفاز قبل القنوات الفضائية وبالتأكيد قبل المنصات.
لذا خيارات المشاهدة لدينا تنحصر في ما تعرضه القنوات الثلاث فقط، وكان العيد بهجة خالصة في ذلك العصر، حيث يعرض يومياً فيلم، ومسرحية، الواقع أنه بعد عدة سنوات ستمل قليلاً من تكرار نفس المسرحيات، ما بين "ريا وسكينة" و"المتزوجون"، ولكنك لا تعترض هذا أفضل المتاح، وعندما بدأ عرض "العيال كبرت" كان يوم عيد فوق العيد الحقيقي.
بالطبع أنا أفضل كثيراً أن أختار أيضاً، أن أتصفح الجديد في المنصات المختلفة، أن نختار كأسرة فيلم جديد نشاهده معاً، أن نوقف المشاهدة لنعِد المزيد من الفشار، أو لنقوم للصلاة أو لتلبية جرس الباب، فلا يضيع علينا نصف الفيلم لنفعل أياً من هذا.
الحقيقة أنه عندما تذكرت العيد في الماضي شعرت بالحنين ولكن دعني أعترف اعترافاً آخر ليس حنيناً لكل شيء.
هو حنين لـ"أنا" القديمة المنطلقة السعيدة، "أنا" التي يتحمل غيرها مسؤوليتها ولا تعرف من الهموم سوى حيرة اختيار نكهة الآيس الكريم، أو الغيظ من تضييع عدة ساعات في فيلم هندي، هذه الـ"أنا" كانت أسعد بالتأكيد.
لكن ليس كل جديد الآن في العيد سيئاً وليس كل قديم رائعاً، اليوم الخيارات المتعددة تتيح لنا عالماً آخر ننفتح عليه، وكأننا كنا نعيش في غرفة مغلقة النوافذ والأبواب ففُتحت لنرى الشمس. لمة العائلة في الغرفة جميلة، ولكن نور الشمس كذلك مبدع.
لست من هواة البكاء على الأطلال، فأمس واليوم وغداً ستظل هناك أمور جميلة تسعدنا
أفضل أن أتذكر العيد زمان وأبتسم في شجن وأنا أحكي للأطفال عن "عيدية الكوتشينة" و"ومبي" و"السندباد" فتتسع عيونهم دهشة وعدم تصديق، ولكن أيضاً أن أمد يدي للريموت كونترول لأختار فيلم العيد أو أتناول قطعة كعك بـ"الريد فيلفيت"، أو أتزحلق فوق الجليد رغم حرارة الجو الخارجي.
للأمس بهجة ولليوم بهجة أخرى، المهم أن نحظى بعيد سعيد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.