الرئيس الأمريكي جو بايدن خاطب نظيره الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بمناسبة إجراء أول قمة افتراضية مباشرة بينهما في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2021 قائلاً: "إنه على الدولتين مسؤولية ضمان أن المنافسة لن تضل طريقها لتتحول إلى صراع مفتوح".
عبارة مخيفة حقيقة وهي مكاشفة وتنبيه مباشر رغم محاولة كل طرف أن يخفي ما يرتبه.
إنهما يكشفان عن الصراع والتنافس دون إخفائه، ويحاولان أن يضعا له إطاراً بأبعاده الزمانية والمكانية والموضوعاتية وحتى الأطراف، وبذلك عندئذ تتشكل الحرب الباردة بين القوى العظمى؛ أمريكا والصين.
بهذا الخطاب في تقديري قد حاول الزعيمان التأسيس لمرحلة البحث عن المنطقة الرمادية المشتركة بين دولتيهما لطرح مقاربات وتفاهمات لحلحلة الأوضاع.
لكن يبدو أنها كانت لحظات حميمية عابرة لا تستند إلى إرادات ونوايا صادقة، اصطدمت بواقع مفعم بأحلاف وقوى دولية طامحة للنفوذ ومشبع بإكراهات ومتناقضات تدفع بطرفي المحادثة إلى ألا يتنازلا إلى الحد الذي يجعل مناطق النفوذ والطاقة والأمن العالمي تتراجع إلى أحدهما أو إلى غيرهما؛ لأنها مسألة وجود لكليهما، إنها كانت لحظات جيدة؛ لكن في الوقت الضائع، كادت تثمر نتائج طيبة لو كانت في زمن آخر.
الصين أمريكا تباين رؤى
نحن في زمن تضبط فيه موازين القوى العالمية، ويتجه فيه النظام الدولي إلى التغيير، والتي تبرز إرهاصاته الأولى من خلال تنافس تلك القوى التي تنسج عالماً متعدد الأقطاب، مبنياً على تعدد الأسس والمنطلقات تصل أحياناً إلى التناقض التي تتصادم فيه الإمبراطوريات التاريخية المتعاقبة، في توقيت العالم المفتوح الذي استعاد كل الحضارات للتنافس من جديد فيه.
فهذا التباين في الرؤى بين أمريكا والصين باعتقادي مستلهم من الأسس والمنطلقات الفكرية والأيديولوجية والتاريخية والأبعاد الزمانية المشكلة للحضارتين، فهما متناقضتان بعمق زمن مولد "كنفوشيوس"، ودور "العم سام"، ومختلفتان منذ رمزية "تشين الصين" والعالم الجديد ومختلفتان منذ أن قام طريق الحرير القديم المستجد، ورحلة المكتشف "كريستوفر كولومبوس" لأمريكا.
إنهما مختلفان منذ وقت تشييد سور الصين القديم ولحظة وضع تمثال الحرية المعاصر، من هذا التباين الزماني، والفكري لن تجد للقيم تشاركاً، ولا للعادات ولا للأيديولوجية تقاطعاً، إنه صراع الحضارات وتصادمها، ولن تكون للصين مقبولية بالرجوع إلى حيث يأمرها الرجل الأبيض في أمريكا، والذي لن يسمح بدوره بأن يتراجع عن قيادة العالم .
المتأمل في الوضع العام، والراصد لكل الخطابات والمدقق فيها سيجدها تجمع على الدفاع عن مقومات تلك الحضارات واستعادة نفوذها بذات الجغرافيا والسياسة، والاستراتيجية الجيوسياسية، مع تغيير بعض الملامح والتكتيكات؛ لكن يبقى الأساس والهدف واحداً.
فالعالم متفق بشكل ضمني من خلال قيادة القوى الدولية على أن يجمعوا لحظات من تاريخ الحضارات لإعادة رسم واقع جديد مغاير لما سبق بأدوات الحاضر وبنزعة تاريخية أيديولوجية قديمة، وكأن كل واحد منهم يحاول من جانبه أن يصحح التاريخ ويرقب صراع النبوءات التي يبدو أنها طفت على السطح وشكلت موضوعاً دسماً للنقاش والجدال.
لكنها ترجمة لتفاعل عال بين القوة الخشنة والناعمة، وبين التحفيز والاندفاع، وبين الأديان فيما بينها وبين الدين والإلحاد وبين العولمة وضدها، وبين أحادية القطب والتعددية القطبية، وبذلك محصلة الصراع هو تنافس متعدد الحضارات متعدد القوى يمس بالتغيير وبشكل جوهري للنظام العالمي.
الصين أمريكا في فكر فوكوياما
إن السيد "فوكوياما" صاحب فكرة "نهاية التاريخ" قد طرح منذ وقت قصير رؤية نقدية جديدة تتعلق بالسياسة الأمريكية، تحمل عنوان "نهاية الهيمنة الأمريكية"، هي نهاية اخرى يضعها، لكنها بمفهوم مختلف، فيبرر للنزعة الليبرالية التي يعتنقها، حيث ساق الأزمات الداخلية الأمريكية، وحالة الاستقطاب المحلي، وتأثيره على السياسة الخارجية التي يجدها الأساس في تراجع النفوذ الأمريكي في العالم.
كما أنه طرح سؤالين مركزيين كردة فعل في حينها عن أسباب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان التي كشف عنها الرئيس "جو بايدن"، وهما: ماذا لو تدخلت الصين عسكرياً في كوريا وغزت روسيا أوكرانيا هل سيضحي الرئيس بأبناء أمريكا؟
سؤال حقيقة نجده اليوم يطرح نفسه من خلال واقع الصراع الدولي، فهو ترجمة لعمق الشرخ والانقسام بالداخل الأمريكي، والاضطراب الحضاري الذي كشف عن بدايته المفكر الياباني الأصل المدافع عن الليبرالية والمجابه للتعددية القطبية.
إذاً هي مقدمة باعتقادي إما للتهاوي وسقوط دفات الإمبراطورية الامريكية تباعاً، أو أنها محطة لإعادة الترميم والتعافي، لكن ليس بالمنظور السابق الذي حتماً ستتخلص أمريكا من الأعباء والأسقام التي دفعتها إلى هذا الضعف، وهنا ستظهر ردود فعل عنيفة داخلياً ودولياً لا يمكن تصور مآلاتها وضبط ارتداداتها.
فجوهر التغيير الحاصل على مستوى الواقع الدولي نابع من إيمان كل طرف منخرط في صراع المحاور، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بتغيير موازين القوى وإعادة تشكيل قواعد جديدة للمجتمع الدولي.
إن أساس التغيير يتشكل ذاتياً، يبعث في جسم كل طرف المناعة الكافية والمحصنة له من أي اختراق لليأس والانبطاح والتبعية، وما طول الحرب الأوكرانية إلا مظهر من مظاهر الإصرار الحضاري على التغيير، ولن يكون ذلك إلا بالعمل على امتلاك أسباب المقاومة وبناء التحالفات الجديدة التي تصنع منها القوة الكافية للمنافسة وحماية ذاتها، فهي عندئذ يحق لها أن ترجع إلى حضارتها وانتمائها التاريخي بكل عز، وتطرحها على الساحة الدولية والعالمية.
كمشروع بديل ومنافس لكل المشاريع الاخرى، هم هكذا المنافسون الجدد في الساحة الدولية من الصين وروسيا وتركيا والهند وإيران والغرب أيضاً هم كذلك من يحاولون البقاء على مسرح القوى المنافسة، لكن أين البقية؟
البعض من البقية تحاول استدراك أخطائها الماضية بتصالحات إقليمية وانحيازها لمحاور تؤمن ملكها أو حكمها، وتعمل على ألا تكون حلبة الصراع وساحة التنافس الحضاري، وأدواته الذي إن اشتد ستغيب معه كل قيم الحضارة وتندثر معها الهوية وحتى الحكم والإمارة.
من خلال هذا المنظور يمكن أن يتشكل اعتقاد بأن زمن أمريكا كقوة عالمية وحيدة قد بدأ في التراجع، لكن ذلك لن يكون بدون ثمن في العالم للأسف، ولن يتم في لحظة واحدة من الزمن، وإن تهاوي الحضارة الأمريكية، وتراجعها تأخذه سنن سقوط الحضارات السابقة، كالتي رصدها عالم الاجتماع العربي "ابن خلدون"، والمفكر والفقيه السياسي الاقتصادي الألماني "ماكس فيبر" وغيرهما، اللذان يعتبران أن لحظة السقوط تبدأ حينما يشعر الملك أو الأمير، أو الرئيس بها، ويحاول إخفاء مخاوفه منها، وهو ما يجده البعض مبطناِ في خطابات الرئيس الأمريكي "بايدن"، وأيضاً سلوك البيت الأبيض الأمريكي في معالجته للعديد من القضايا ذات البعد الاستراتيجي.
الأحادية القطبية
هذه مقدمة في تقديري لتفتيت الأحادية القطبية وسقوطها عبر جيل قادم أو أجيال أخرى، وستنهض على أعقابها أو بجانبها في المرحلة الأولى على الأقل بعض الحضارات، والصين مرشحة لذلك التي لها القدرة على منع السقوط الحر للحضارة الأمريكية حتى لا يختل توازن العالم.
من هنا باعتقادي يمكن أن نستشعر الخطر وبذات اللحظة نتحسس أمل التغيير على قاعدة كسر قاعدة الجمود التي فرضتها حالة الأحادية القطبية والهيمنة الغربية.
فالخطر نستشعره حينما يحيلنا التفكير إلى أن العديد من دولنا هي عبارة عن أوعية فارغة ومحافظ أموال ومخازن الطاقة للقوى الأجنبية، وسوق استهلاك لمنتجات غيرنا للأسف على اعتبار انتماء الأغلب من انظمتنا إلى المستعمر القديم أو الجديد، والتي بنيت أنظمتها حكمها على أسس ضعيفة.
فعقود التحرر والاستقلال من الاستعمار لم تتجه تلك الحكومات والأنظمة الحاكمة إلى بناء المؤسسات الديمقراطية ومفاهيم حديثة للهوية الوطنية، وقيم المواطنة حتى تعزز النسيج الاجتماعي الداخلي الذي هو صمام أمان ضد أي تنافس حضاري عالمي قد يهددها، وتكتسب من خلال مؤسساتها المكنة والسلطة التي تؤهلها لصناعة قوة وطنية أو إقليمي من مدخل بناء منتظم عربي أو إسلامي يؤمن وجودها ويضمن استمرارها.
لكن وللأسف الشديد، اتجهت نحو فرض الاستقرار الأمني بالقوة وبشكل مصطنع ضعيف زائف، واعتمدت بعض الأنظمة العربية على المحاصصة الحزبية والطائفية، ونهجت مسلك تحقيق السلم الاجتماعي كسبيل استقرار الحكم، ومن جانب آخر فالبعض من حكومات الدول استعملت مقدراتها الاقتصادية والمالية وطاقتها لإضعاف تحرر الشعوب وامتلاك حق مصيرها.
كما غذت الثورات المضادة وافتعلت الانقلابات ضد أي تجربة إصلاحية ديمقراطية في المنطقة، بل هناك من ضخت أموالاِ طائلة في حسابات بعض المراكز الاستشارية الدولية والإعلامية، للأسف لأجل شيطنة بعض الحركات السياسية التي تسعى للتغيير من خلال الديمقراطية، ودعت الدول الغربية أن تضعها على قوائم الإرهاب لديها ومن ثمة عززت الكره وعدم الثقة.
لكن ومن خلال ما أفرزته الحرب الروسية الأوكرانية من واقع جديد ومعطيات مغايرة تماماً، اقتنعت تلك الأنظمة بأن العالم تغير، ويجب أن تكون هناك رؤى استشرافية حول مستقبل العالم الذي يتحول من منظور استراتيجي، وأنه يجب عليها أن تعيد قراءة جديدة لموازين القوى، وترصد مواطن القوة والخلل في هذا التحول الذي له سمة الصراع الحضاري الذي سينعكس على أمن واستقرار الدول العربية.
من خلال ما تقدم أرى في تقديري أنه قد باتت قناعة راسخة عند البعض من المتابعين للشأن الدولي بأن النظام الدولي بات قاب قوسين أو أدنى من التغيير ومنه بروز أقطاب دولية جديدة، وهذا سيؤثر حتماً على العديد من المستويات في المجتمع الدولي وروابطه، ثم يرسم خارطة تحالفات جديدة على أرضيات حضارية مختلفة ومتناقضة أحياناً ستمتد باعتقادي إلى داخل مكونات الدولة القطرية ويمس بعناصرها الوطنية.
يختلف ذلك التغلغل حسب طبيعة المؤسسات وتكوين السلط والانسجام الهوياتي لشعوب تلك الدول، ثم ينتقل ذلك كنتيجة تنافس سياسي محلي أيضاً إلى الكيانات غير الرسمية، وبالقلب منها مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب، التي ستجد من تلك الحالة من التنافس الحضاري رافداً لفكرها ومنهجها، وينظر بعين التفاؤل والحذر إلى مستقبل الديمقراطية الذي يعتبر هو محل جدال بين حضارتين مختلفتين حول أسسها ومفاهيمها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.