منّ الله على المسلمين بتفضيل بعض الأوقات على غيرها، وبدعوتهم فيها للتقرّب منه والتزلّف إليه، تهذيباً لنفوسهم، وتطهيراً لقلوبهم؛ فيبقى العبد طاهرَ القلب نقيَّ النفس، فينال أعظم غاية؛ رضا الله والفوز بمحبته.
فكما جاء عن عبد الله بن عمرو، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان"، قالوا: صدوق اللسان، نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غلّ، ولا حسد". [أخرجه ابن ماجه، (2/1409)، وإسناده صحيح].
لهذه الغاية العظمى جعل الله في كل وقت فرصةَ زيادة تقرب من عباده إليه، فآخر الليل هو خير اليوم، ويوم الجمعة خير أيام الأسبوع، وفي السنة جعل شهر رمضان خير الشهور؛ فمن صامه إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، وفي العمر كله حج بيته، فمن حج فلم يرفث ولم يفسق عاد كيوم ولدته أمه.
في رمضان جعل خيره آخره، وجعل فيه خير الليالي على الإطلاق وهي ليلة القدر، التمسوها في الليالي الوترية في العشر الأواخر من رمضان، هذه الليلة الفريدة هي أفضل الليالي في العام كله على الإطلاق، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 1 – 3].
إنها ليلة الفُرقان والغفران والتوبة والرحمة والبركة والعِتق من النار، وليلة سلام للمؤمنين من كل خوف. إنها ليلة هي أعظم الليالي قدراً ومنزلة عند الخالق جل في علاه.
ليلة القدر التي أُنزل فيها القرآن من اللوح المحفوظ إلى مكان في سماء الأرض يسمى بيت العزة، ثم من بيت العزة صار ينزل به جبريل على سيدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه متفرقاً بالقياس للحوادث والمسببات، أول ما نزل منه كان في غد ليلة القدر خمس آيات من سورة العلق.
لا تحصى فضائل ليلة القدر بدءاً بنزول القرآن ووصولاً لما جاء فضل قيام تلك الليلة وما فيها من بركة ورحمة ومغفرة وأجر عظيم، وقد وزن ربنا تبارك وتعالى تلك الليلة بألف شهر في ثوابها وفضلها ومكانتها وعظيم وقعها في حياة المؤمنين.
إن من فضائل شهر رمضان وجوائزه العظام: تضمنه لـ"ليلة القدر"، وهي ليلة عظيمة القدر، ضاعف الله فيها أجر العمل الصالح لهذه الأمة أضعافاً كثيرة. فقد تنزل القرآن في هذه الليلة، بقوله سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) [الدخان: 3].
العشر الأواخر من رمضان؛ فضائله وأعماله
لـ"العشر الأواخر من رمضان" مزايا عظيمة بيّنها نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، فقد ذكر فضلها القرآن الكريم، والنبي صلى الله عليه وسلم بعدد من الأحاديث الشريفة، وكان له ﷺ أحوال عجيبة إذا دخلت العشر الأواخر، من العبادة والاعتكاف والقيام والدعاء والتضرع والالتجاء لله عز وجل. (لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، ابن رجب، 364).
ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ". و"شد مئزره" كناية عن اعتزال النساء، و"أَحْيَا لَيْلَهُ" معناه استغراقه بالسهر في العبادة صلاة وتلاوة.
فيستحب للمسلم أن يحقق في هذه العشر مفهوم العبودية لله عز وجل في حياته العامة والخاصة، وأن يركز على تزكية نفسه وإصلاح قلبه والتزود بالخيرات.
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخصّ العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر:
أولاً: إحياء الليل؛ وقد مر في الحديث السابق: كان إذا دخل العشر الأخير شد مئزره وأحيا ليله.
ثانياً: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يوقظ أهله للصّلاة في ليالي العشر دون غيرها من الليالي. وفي حديث أبي ذرّ أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قام بهم ليلة ثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، ذكر أنّه دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين خاصّة.
هذا يدلّ على أنّه يتأكد إيقاظهم في آكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر، وخرّج الطبراني من حديث علي "أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان، وكلّ صغير وكبير يطيق الصلاة". كتاب "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، ابن رجب، 366".
ثالثاً: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يشدّ المئزر. واختلفوا في تفسيره؛ فمنهم من قال:
هو كناية عن شدّة جدّه واجتهاده في العبادة، كما يقال: فلان يشدّ وسطه ويسعى في كذا. وهذا فيه نظر؛ فإنّها قالت: "جدّ وشدّ المئزر"، فعطفت "شدّ المئزر" على جدّه، والصحيح أنّ المراد اعتزاله للنساء، وبذلك فسّره السّلف والأئمة المتقدّمون؛ منهم سفيان الثوري.
وقد ورد ذلك صريحاً من حديث عائشة وأنس، وورد تفسيره بأنّه لم يأوِ إلى فراشه حتّى ينسلخ رمضان. "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، ابن رجب، 368".
رابعاً: اغتساله بين العشاءين، وجاء في حديث عائشة: "…واغتسل بين الأذانين". والمراد: أذان المغرب والعشاء.
روي من حديث علي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يغتسل بين العشاءين كلّ ليلة، يعني من العشر الأواخر. وفي إسناده ضعف. وروي عن حذيفة أنّه قام مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة من رمضان، فاغتسل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وستره حذيفة، وبقيت فضلة فاغتسل بها حذيفة وستره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. خرّجه ابن أبي عاصم.
وفي رواية أخرى عن حذيفة، قال: قام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة من رمضان في حجرة من جريد النّخل، فصبّ عليه دلواً من ماء.
خامساً: الاعتكاف: ففي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها، "أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتّى توفّاه الله". وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتكف في كلّ رمضان عشرة أيام. فلمّا كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين".
وإنما كان يعتكف النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه العشر التي يطلب فيها ليلة القدر، قطعاً لأشغاله، وتفريغاً لباله، وتخلّياً لمناجاة ربّه وذكره ودعائه. وكان يحتجر حصيراً يتخلى فيها عن الناس، فلا يخالطهم، ولا يشتغل بهم. (لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، ابن رجب، 370).
ليلة القدر وسر التسمية
قال ابن الجوزي: وفي تسميتها بليلة القدر خمسة أقوال: أحدها: أنها ليلة عظيمة. يقال: لفلان قدر. قال الزهري: ويشهد له: (وما قدروا الله حق قدره). [سورة الزمر: 67]، والثاني: أنه الضيق. أي هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون. قال الخليل بن أحمد، ويشهد له: (ومن قدر عليه رزقه) [الطلاق: 7].
والثالث: أن القدر الحكم، كأن الأشياء تقدر فيها، قال ابن قتيبة، والرابع: أن من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر. قاله أبو بكر الوراق. والخامس: لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، وينزل فيها رحمة ذات قدر، وملائكة ذوو قدر، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله. "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، ابن رجب، 400".
قال ابن عثيمين رحمه الله: وصفها الله سبحانه بأنها مباركة؛ لكثرة خيرها وبركتها وفضلها، ومن بركتها أن القرآن أنزل فيها، وهذه الليلة هي في شهر رمضان المبارك ليست في غيره من الأشهر، قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة: 185]، ثم قال تعالى لشأن ليلة القدر التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها: (وما أدراك ما ليلة القدر)؛ فهذا على سبيل التعظيم لها، والتشويق إلى خبرها.
ثم قال: (ليلة القدر خير من ألف شهر)؛ فقيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر من هذا الزمان، وهي أفضل من عبادة كل تلك المدة. وعند قوله تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)؛ هذا يدل على كثرة الرحمة والبركة فيها، فإن الملائكة ينزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له. والمقصود بالروح هنا جبريل عليه السلام.
(سلام هي حتى مطلع الفجر)؛ السلام في الآية أنه لا يحدث فيها داء، ولا يرسل فيها شيطان، وهي ليلة كل ما فيها أمن وبركة وعافية، فهي ليلة سلام للمؤمنين من كل مخوف، ولكثرة من يعتق فيها من النار ويسلم من عذاباتها.
في قوله: (حتى مطلع الفجر)؛ أي إن ليلة القدر تنتهي بطلوع الفجر لانتهاء عمل الليل به. فإذاً: ليلة القدر نقطة بداية في حياة المسلم لا نقطة عابرة، ويجب أن تكون نقطة تحول في حياته لا أن تكون مجرد حدث طقسي معين، ففضل هذه الليلة يعدل الكثير عند الباري تبارك وتعالى. كتاب "ليلة القدر خير من ألف شهر، مدار الوطن للنشر، 2006م".
فضائل ليلة القدر
سميت الليلة بهذا الاسم؛ لأن الله تعالى يُقدّر فيها الأرزاق والآجال، وحوادث العالم كلها، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والناجين والهالكين، والسعداء والأشقياء، والعزيز والذليل، وكل ما أراده الله تعالى في تلك السنة، ثم يدفع ذلك إلى الملائكة لتتمثله، كما قال تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ). وهو التقدير السنوي، والتقدير الخاص، أما التقدير العام فهو متقدم على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما صحت بقوله الأحاديث.
وبعد قراءة سورة القدر وشروحها وقيمة تلك الليلة في ميزان الله تبارك وتعالى، نخلص لإيراد الفضائل التي اختصت بها تلك الليلة العظيمة، وهي:
1. تنزل القرآن فيها، وهي المعجزة الخالدة للنبي صلى الله عليه وسلم.
2. ليلة كثيرة البركة والرحمة.
3. هذه الليلة تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث الليل والنهار.
4. إن العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر.
5. الملائكة تتنزل فيها، وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة والعتق من النار.
6. أنها سلام من الآفات والعقوبات.
7. من قامها غفر له ما تقدم من ذنبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". متفق عليه. كتاب "أحمد عبد المجيد مكي، وقفات تربوية مع دعاء ليلة القدر".
تحديد ليلة القدر
اختلف العلماء في تحديد ليلة القدر، وذلك على أكثر من أربعين قولاً ورأياً، ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وهذه الأقوال بعضها مرجوح، وبعضها شاذ، وبعضها باطل. وقد أكد جمهور العلماء أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، واختلفوا أي ليالي العشر أرجح على أقوال كثيرة، منها، قول الصحابة والتابعين في ليلة ثلاث وعشرين، وقول الشافعية بأنها في ليلة إحدى وعشرين وغيرهم عدّد ليالي أخرى في العشر الأخير.
لكن أسلم الأقوال هو أن ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، وأنها تنتقل في ليالي العشر، فمن قام ليالي العشر كلها وأحياها بالعبادة أصاب ليلة القدر يقيناً. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، هكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون في الوتر منها".
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح: "أرجح الأقوال أنها في الوتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل". ونظراً لاختلاف المطالع والبلدان في تحديد بداية الصوم، فإنها تطلب في الأشفاع من العشر الأواخر كما تطلب في الأوتار، لأن الليلة قد تكون وتراً في بلد، وتكون شفعاً في بلد آخر.
كذلك الوتر له اعتباران: اعتبار بما مضى، واعتبار بما بقي، فإذا كان الشهر تاماً فالأوتار باعتبار ما بقي هي ليالي الشفع. وعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين، يكون ذلك ليالي الأشفاع، وتكون ليلة اثنين وعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى، وهكذا فسّره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح.
إذا كان الشهر تسعاً وعشرين كان التاريخ بالباقي كالتاريخ بالماضي. وإذا كان الأمر هكذا، فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعها. مجلد "ابن تيمية: مجموع الفتاوى 25/286".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.