قد أتى عليّ حين من الدهر كان مستقبلي فيه على المحك، لولا لطف الله بي وبأسرتي. كنت وقتها طالباً في الجامعة، حين أُصيب والدي بمرض عُضال أقعده عن العمل لفترة ليست بالقصيرة، ولولا أنه كان موظفاً في شركة خاصة براتب ثابت ومؤمناً عليه من قبل الشركة التي كان يعمل لديها، لأصبحنا بلا مصدر رزق ولعجزنا عن تكبد تكاليف العلاج الباهظة الذي كان يتلقاه.
لأني كنتُ مرافقاً له في رحلته العلاجية المليئة بالبيروقراطية، تعرفت على المستشفيات الحكومية وعيادات التأمين الصحي ومعامل التحاليل وغيرها من الأماكن التي لم أرتَدها حينها قبل ذلك، وكانت هذه هي بداية معرفتي بهم على أرض الواقع، بعد أن عاشا والداي عمرهما وهما يلوذان بالمستشفيات الخاصة والعيادات الخاصة عندما أصاب أنا أو أي من أختَي بأي مكروه يستلزم إجراء كشف عند طبيب.
لن أخدعك وأقول لك بأن ما رأيته حطم الصورة المثالية المطبوعة في خيالي عن المستشفيات الحكومية وعيادات التأمين الصحي باعتبار أن موظفيها بكل تأكيد على دراية كافية بأن المريض ليس ناقصهم "وفيه اللي مكفيه"، لأني كنت على علم مسبق بالمهازل التي تحدث في مثل هذه الأماكن من خلال الحكايات التي كانت تنقل لي.
لكن لأني كنت في هذه المرة في موقف الواقف في الطابور المُمسك بالأشعة والتحاليل المنتظر حلول دور والده، وليس في موقف المستمع المتفرج، كانت هناك تساؤلات كثيرة تدور في ذهني حينذاك وكان أهمها تساؤل يقول:
إن كان أبي الذي أُصيب بمثل هذا المرض الذي أقعده عن العمل وهو الجبل الذي لا يمكن أن يهزه ريح دون أن ينعى هم الرزق لأنه يتقاضى راتباً ثابتاً – أينعم تأثر بالسلب بالإجازة المرضية التي أخذها ولكنه لم ينقطع- كما أنه لم ينعَ هم العلاج لأنه كان مؤمناً عليه من قبل الشركة التي كان يعمل بها. ماذا إذاً عن أحوال العمال الأرزقية الذين – على باب الله – لا يعملون في وظيفة ثابتة وغير مؤمن عليهم من أي جهة؟ ماذا إذاً عن أحوالهم وأحوال من يعولونهم؟
حين طرحت هذا السؤال على صديق لي رد عليّ وقتها بدون أدنى تفكير قائلاً: "دول بيستنوا في البيت لحد ما أجلهم ييجي.. أما عن عيالهم فبيتلطموا في الحياة وكل واحد ونصيبه".
أعرف أني لا أحتاج أن أقول لك إن إجابة صديقي هذه لا يوجد فيها أي نوع من المبالغة، لأنك دون أدنى شك رأيت هذا عن كثب، وإن لم يكن رأيت فبكل تأكيد سمعت عن هذا، فبالتالي فأنت مدرك جيداً بأن هذا الذي يحدث بالفعل على أرض الواقع، وأن هكذا يموت الفقراء.
كيف يموت الفقراء؟
في مقاله المنشور في نوفمبر/تشرين الثاني 1946م بصحيفة الآن بعنوان "كيف يموت الفقراء؟" يحكي الكاتب الإنجليزي "جورج أورويل" عن تجربة إقامته في مستشفى كوشين بباريس عام 1929م، التي كانت البيروقراطية مسيطرة عليها هي الأخرى، فقبل أن يسمحوا لأورويل بالدخول، أخذوا في توجيه الأسئلة له لمدة 20 دقيقة وهو في حالة يرثى لها؛ لدرجة أنه في نهاية المقابلة واجه بعض الصعوبة في الوقوف على قدميه.
مرَّ أورويل بعد ذلك بما سماه الروتين الإجباري لجميع القادمين الجدد، مثلما يحدث في السجون وإصلاحيات الأحداث، حيث تم تجريده من ملابسه، وإجلاسه لبعض الدقائق وهو يرتعش في مياه دافئة، ثم تم إعطاؤه قميص نوم من الكتان ولباساً قصيراً من الصوف الأزرق، وبعد ذلك اقتادوه إلى الجناح الذي من المفترض أنه سيقيم فيه والذي يبعد عن المبنى الذي مر فيه بمرحلة الروتين الإجباري بـ200 ياردة في الهواء الطلق بالرغم من أنه كان يعاني من التهاب رئوي.
يصف أورويل الغرفة التي أقام فيها بأنها كانت طويلة ومنخفضة، وسيئة الإضاءة، ومليئة بالأصوات الخافتة، ورائحتها كريهة، وكان بها ثلاثة صفوف من الأسِرّة تقترب من بعضها بعضاً بشكل أثار دهشته، ولكن ما أثارها أكثر وأكثر أنه مثلما كان هناك روتين إجباري عند دخوله المستشفى، فكان هناك علاج بمثابة روتين إجباري هو الآخر بواسطة طبيب وطالب يمران على كل المرضى بدون أي تعقيم للأدوات التي يتم استخدامها بأي شكل من الأشكال.
حين جاء الدور على أورويل تم التعامل معه بالشكل ذاته دون أن تتم الإستجابة ألبتة إلى شكواه، وهو ما وصفه بمرارة في مقاله قائلاً: "بعض الشكاوى الضعيفة التي قمت بها لم تحصل على استجابة كما لو كنت حيواناً. لقد تأثرت كثيراً بالطريقة اللامبالية التي أبداها الراجلان ليّ. لم أكن أبداً في الجناح العام في المستشفى من قبل. وكانت هذه تجربتي الأولى للأطباء الذين يتعاملون معك دون التحدث إليك أو بالمعنى الإنساني يقومون بالانتباه لك".
الفقراء ومرض جورد أورويل
يقول أورويل بأن هذه الليلة هي الليلة الوحيدة في حياته، التي لبث فيها في الفراش، ولم ينم فيها على الإطلاق ولو حتى دقيقة واحدة، فظل مستيقظاً حتى جاءت الممرضات في الخامسة من صباح اليوم التالي يوقظن المرضى ويأخذن درجات حراراتهم، دون أن يقدمن أي مساعدة لهم في تنظيف أنفسهم أو تنظيف المكان المحيط بهم
فكانت الأمور تسير كما يقول أورويل في مقاله "لو كنت بخير بما يكفي لغسلت نفسك، وإلا فإنك تعتمد على لطف بعض المرضى القادرين على المشي.. وكان المرضى عموماً هم الذين يحملون زجاجات السرير – الوعاء الكريه للتبول في الفراش الذي يطلق عليه اسم لا كاسرول".
بعد تناول المرضى الإفطار الذي يضاهي في رداءته حالة المستشفى، يمر طبيب كبير وقور، على حد وصف أورويل، مع طبيب داخلي ومجموعة من الطلاب يتابعونه في الجناح على المرضى دون أن يلتفت لأي منهم في ظل صرخات التوسل من بعض المرضى، اللهم إلا إذا كان يعاني أحد المرضى من بعض الأمراض التي يرغب الطلاب في اكتساب المعلومات عنها، فوقتها يحظى المريض بنوع خاص من الاهتمام.
ولأن أورويل كان مريضاً بالتهاب رئوي فكان وفقاً لوصفه "عينة جيدة للغاية للحشرجة القصبية"، فكان يصطف عشرات الطلاب للاستماع إلى صدره، في ظل اجتياح شعور غريب للغاية لجورج الذي رجح افتقار الطلاب إلى أي إدراك بأن المرضى كائنات بشرية ينبغي التعامل معهم على هذا الأساس، خاصة أنه كما ذكر أورويل في مقاله:
"عندما يتقدم أحد الطلاب الشباب ليأخذ دوره في معالجتك، سيكون في الواقع يرتجف جنباً إلى جنب مع شعوره بالحماسة، مثل صبي حصل أخيراً على قطعة من الآلات باهظة الثمن، ثم أذن تلو الأخرى تلتصق بظهرك، ثم تتوالى عليه نقرات الأصابع الخرقاء، ولكن بشكل مهني، ومع ذلك لا تحصل على كلمة واحدة، أو نظرة مباشرة في وجهك من أي واحد منهم".
يحكي أيضاً أورويل في مقاله عن المريض رقم "57" في جناحه المُصاب بتليف في الكبد، والذي كان الجميع يعرفه، لأنه كان هو موضوع محاضرة طبية في كثير من الأحيان.
ففي كل مرة يتم نقل المريض رقم (57) على عربة وسط الجناح لكي يشرح أمام مجموعة من الطلاب المتدربين عليه، دون أن يبتسم الطبيب إليه أو يقوم بإيماءة أو أي نوع من التقدير له، فكان يقوم بالتعامل معه وكأنه قطعة خزف صينية، فيقلب جسده البالي الذي أخذ منه المرض مأخذه جيئة وذهاباً، كسيدة – طبقاً لتعبير أورويل- تحمل مرقاق الخبز، بينما هو محدقاً بعينيه في اللاشيء، وظل هكذا في خانة الاستعراض الدائم في المحاضرات حتى وافته المنية.
حين نما إلى علم العاملين في المستشفى من أطباء وممرضات نبأ وفاته، لم يكترث أي منهم بخبر وفاته، ومضى كل منهم إلى أعماله، وذلك لأنه كما قال أورويل في مقاله "هذا البائس الفقير والذي نفق مثل الشمعة التي خبت نورها لم يكن شخصية مهمة بالقدر الكافي ليشاهده أحد وهو على فراش الموت، كان مجرد رقم ثم أصبح "مادة" لمشارط الأطباء الطلبة".
حين استعاد جورج أورويل ملابسه وبالكاد استطاع أن يقف على قدميه من جديد، هرب من المستشفى قبل أن ينتهي الوقت المحدد لعلاجه، وبدون أن يسمح له حتى بالخروج، راصداً الحالة العامة في المستشفى الذي فرّ منه بعبارة جامعة مانعة تقول "فهناك الناس يموتون مثل الحيوانات ولا يكون بجانبهم أحد ولا أحد يهتم، حتى الموت لا يلاحظونه إلا في الصباح – وهذا ما حدث أكثر من مرة".
المستشفيات الحكومية وعيادات التأمين الصحي
لن أبالغ وأقول لك بأن الحالة العامة التي لمستها في المستشفيات الحكومية وعيادات التأمين الصحي على نفس درجة السوء التي رصدها جورج أورويل في مقاله؛ لأن بكل تأكيد عامل الزمن لعب دوره، ولكن تذكرت بشكل لا إرادي ما ذكره في مقالته حين رأيت شيخاً ممسكاً بقسطرته في يده، واقفاً أمامي في الطابور أثناء انتظار دور والدي، وحين حلَّ دوره فوجئت بالموظف ينهره ويعنفه بشدة؛ لأنه نسي أن يأتي بورقة من الأوراق المطلوبة منه، فلم يصمد الشيخ كثيراً أمام تهديده له بأنه لن ينهي إجراءاته إذا لم يحضر هذه الورقة فانخرط في نوبة طويلة من البكاء العنيف.
ومثلما تذكرت ما ذكره أورويل في مقالته حين كنت مرافقاً لأبي في جولته العلاجية، تذكرته أيضاً حين اضطرتني ظروف عملي كمحامٍ إلى ارتياد أحد فروع التأمين الصحي، ورأيت بعيني كيف يتعامل البعض هناك مع طالبي خدماته المقررة لهم في الدستور باعتبارهم شحاذين يستجدون منهم صدقة.
ربما كان القدر رحيماً بي وبوالدي، لأننا حظينا حينها بمعاملة لا بأس بها من قبل أغلبية الموظفين الذين تعاملنا معهم، بالرغم من تعنت البعض الآخر وتعاملهم معنا بدون أدنى تقدير للظرف الصعب الذي كنا نمر به، بل إننا التقينا بأطباء بالفعل كانوا في منتهى اللطف ما زلت ممتناً لهم حتى الآن.لذلك فإني أؤمن بأن في هذه المنظومة مثلما يوجد مَن هم يتمتعون بقدر كبير من الإنسانية في التعامل مع آلام الناس مثل أصدقاء ليّ قليلي الحيلة لم تعرف القسوة طريقاً إلى قلوبهم برغم القسوة التي يتعرضون إليها، فإن هناك مَن هم لا يصلحون أن يكونوا ضمن أفرادها، وأن استمرار وجودهم وانتشارهم في مستشفياتها وعياداتها، سيجعل من الداخل فيهم مفقوداً والخارج منهم مولوداً، كما قال عمنا أحمد فؤاد نجم عليه رحمة الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.