لماذا لم تتحقق “الحداثة الغربية” في الشرق؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/04/13 الساعة 13:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/04/13 الساعة 14:18 بتوقيت غرينتش
muslim man praying

سؤالٌ يجول في خاطري منذ فترة، لماذا لم تتحقق الحداثة الغربية في بلاد الشرق؟ ما هي العوائق التي واجهتها والتي حالت دون تحقيقها؟ ولكن السؤال الأهم: لماذا لا نحقق حداثتنا الذاتية دون عملية الاستيراد المعلبة؟ 

للحقيقة وبعد البحث في التراث المشرقي والإسلامي، لقد تحققت الحداثة في عصر النهضة الإسلامية ولكن ليس بصورتها النمطية أي الغربية، فهذه الحداثة ليست منزوعة القيم الدينية والأخلاقية رغم أنها تحمل النزعة العقلانية المتصالحة مع الدين والتدين.

لقد تحدث عن حداثة عصور النهضة الاسلامية "أدونيس" في كتابه "الثابت والمتحول"، رغم أنه غربي الهوى وحداثي الانتماء، فتحدث أن في العصر الأموي، وتحديداً في عصر الخليفة "عبد الملك بن مروان"، قم تمت عملية التعريب وصك النقود العربية الإسلامية، واعتبر ذلك من الأدوات الحداثية بامتياز.

كما اعتبر أن تعريب الدواوين قد نقل الدولة نقلة نوعية في ميزان الصعود الحضاري، وأما صك النقود فلقد أخرج الدولة من التبعية والخضوع النقدي للدولة البيزنطية إلى السيادة العربية الكلية.

كما أضاف "أدونيس" حتى في ممارسة الشعائر الدينية، فلقد ابتكر المسلمون علم جغرافيا الرياضيات، وهو علمٌ يقوم على البحث عن اتجاه قبلة الكعبة في غير الجزيرة العربية حيث الصحراء.

المفكر علي أحمد سعيد إسبر المعروف باسمه المستعار أدونيس

كما يوجد مثال آخر متعلق بالبدو، فمصطلح البدو يرمز في نظرتنا النمطية على التراجع الحضاري، ولكن هذه البداوة ابتكرت أسماء النجوم ولازالت متداولة اليوم في الأوساط العلمية والأكاديمية مثل كوكبة الثور، وكوكبة السرطان، وهذا ما ذكره عبد الرحمن الصوفي في كتابه "الكواكب الثابتة غير المتحركة"، فقد كان أحد علماء الفلك المسلمين.

إن المظاهر السابق ذكرها تعبّر عن الحداثة الأولى التي طرأت على مجتمعاتنا المشرقية، ولكنها لم تتعارض مع النقل والدين، إنما هناك تناسق كلي، وهو عكس ما حصل في أوروبا أثناء عصر النهضة.

كوكبة السرطان كما تخيلها العالم الفلكي عبدالرحمن بن عمر الصوفي

الحداثة الأوروبية تفشل في الشرق

عودةً إلى الحداثة الأوروبية وفشلها في الشرق، فلقد استطاعت أوروبا بعد صيرورةٍ طويلة من الهندسات الاجتماعية والحروب الدامية والصراعات الفكرية أن تصل إلى حداثتها الخاصة، تلك الرحلة كانت شاقة وليست باليسيرة، لم تولد الديمقراطية التي نعيشها اليوم ولادة طبيعية، إنما قيصيرية، ورغم ذلك ما زالت ليست كما يتمنى من ينظّر لها ويكتب عنها، وأوصلت أحياناً أكثر الدكتاتوريين دمويةً مثل النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا.

كما أن ما يحدث في أوروبا وأمريكا، فخر ومهد الديمقراطية، يشير إلى منعطفٍ خطير، ورغم كل تلك الإرهاصات، إلا أن الغرب يتباهى بـ"الحداثة" التي أنتجها وأسس حضارته المادية التي تقوم على ثلاثة مرتكزاتٍ: العلمانية والديمقراطية والليبرالية.

لقد حاول الكثيرون نقل تلك تجربة، "الحداثة" الغربية، إلى الشرق، غير مدركين خطورة الاستنساخ الكلي، وهي عمليةٌ قاتلة وفيها مخاطر مرتبطة بالهندسة الاجتماعية والتركيبة السياسية، إضافةً إلى العنصر الاقتصادي.

إن المقارنة الحضارية أيضاً لها مخاطرها البنيوية، وهذا ما ذكره نادر الهاشمي في كتابه "الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية"، حيث نقل عن ليبهارت في كتابه هذا قائلاً:

"إن المقارنات يجب أن تقوم بين حالاتٍ متشابهة، ليُمكن تحليل الفروقات بدقة منهجية".

كي نوضح الأمور بشكلٍ بسيط، لم تصل أوروبا إلى حداثتها بالتنظير السياسي والترف الفكري، وكلام جون لوك وروسو وهولباخ وهيغل وغيرهم كما نعتقد، إنما مرت بمراحلٍ عدة، أولها تغيير التركيبة الهندسية للمجتمعات الأوروبية قاطبةً، تلك التغيرات أدت إلى تغيراتٍ سياسية متعلقة بالمفاهيم العامة المرتبطة بالكهنوت واللاهوت والناسوت.

الحداثة والهوية الوطنية

لقد ظهرت مفاهيم جديدة متعلقة بالهوية الوطنية التي تقوم على أسسٍ ثقافية تربط المجتمع والبيئة الواحدة، والتي أدت من خلالها إلى تأسيس دولة قومية، ولكن قبل كل ذلك، هناك لحظةٌ تاريخية تعد هي اللبنة الأساسية التي قامت عليها كل تلك التغيرات، وهي حركة الإصلاح الديني.

هذا السرد السريع للتاريخ هدفه التأكيد على أن تلك الظواهر التي طرأت على أوروبا لم تحدث في الشرق، وهنا تأتي نظرية "ليبهارت" في مدى خطورة المقارنة التاريخية، لم يمر الشرق بتلك التحولات التي حصلت في الغرب، كما أنه لا يمكن معرفة إن كانت تلك التغيرات التي حدثت مسألة حتمية للوصول إلى الحداثة الغربية اليوم، ولا يمكن إثبات ذلك.

إضافةً للأسباب التي ذكرتها عن سبب فشل نجاح إقامة "دولة حديثة" مع مرتكزاتها، هناك سبب أساسي لا يمكن إغفاله وهو مرتبط بالوعي التاريخي، مفاده أن الحداثة الغربية هي صناعةٌ استعمارية، فكل المصطلحات مثل العلمانية والليبرالية والاستشراق وغيرها هي أدواتٌ تم استخدامها لأغراضٍ استعمارية، من أجل نقض التراث، ومن أجل تمكين المستعمر من قضم الهوية وفرض هيمنته الثقافية، وصولاً إلى هدفه الحقيقي، وهو نهب الثروات.

لقد عانى الشرق الكثير من المآسي التي مرّ بها، ولكن لا يمكن إنكار حقيقة مفادها أننا نعيش في لحظة الهزيمة الحضارية، هذا ليس إحباطاً وإنما هو توصيف للواقع، ولكن حجم الهزيمة المادية لا يمكن وصفه أمام الهزيمة النفسية التي نتعرض لها كل يوم، لذلك لا بد من الاستفادة من تراثنا الكبير والعميق، وهو كنزٌ رهيب، ولكن لا بد من قراءته بشكلٍ منطقي وعلمي.

إن التراث الإنساني يحتمل الصواب والخطأ، أما الصواب نراكم عليه ونستفيد منه، وأما الخطأ ننقده ونتعلم منه، وأما النقض في هذا الوقت، فهو عمليةٌ خطيرة تأتي بنتائج لا يمكن توقعها بسبب نكران للهويات المتعلقة بالتاريخ والثقافية. إننا قادرون على أن ننهض، ولكن لا بد من تطبيق شروط معينة كي نحقق هذه النهضة، وهذا ما عبّر عنه المفكر الكبير مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عامر جلول
طالب دكتوراه في معهد الآداب الشرقيّة بالجامعة اليسوعية
طالب دكتوراه في الدراسات الإسلامية في معهد الآداب الشرقيّة بالجامعة اليسوعية وباحث سياسي وحاصل على" ماجستير علوم سياسية من الجامعة اللبنانية".
تحميل المزيد