الوجه المُظلم للغُربة

تم النشر: 2023/04/12 الساعة 12:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/04/12 الساعة 12:33 بتوقيت غرينتش
الوجه المُظلم للغُربة

ماذا تعرف عن الغربة؟ هل هي بلاد الأحلام والثراء والعلم، كما تظن وترى؟ أم هي بلاد المعاناة والفراق والوجع، كما تظن وترى أيضاً؟ أم كلاهما معاً! أنا في الحقيقة لن أجيبك، لكني سأحيلك إلى واقعة حدثت معي تعلمت منها أن للغربة وجوهاً وحكايات أخرى غير الذي تظن وترى.

ففي أبريل 2017 كنت في المملكة العربية السعودية لأداء العمرة برفقة عمّتي، رحمها الله وغفر لها، صاحبة هذا الفضل، ولفيف رائع من رجال ونساء قريتنا. وفي إحدى الليالي خرجتُ مع الأستاذ ياسر -محامٍ من قريتنا، وقائد الرحلة- لشراء بعض الاحتياجات من السوق، وأثناء عودتنا قابلنا شاباً مصرياً مقيماً في السعودية، يعمل في إحدى شركات المبيعات.

تبادلنا أطراف الحديث قليلاً حول الوضع في مصر، خاصة بعد تعويم الجنيه آنذاك، ثم تطرّق من نفسه إلى الحديث عن السعودية، ومضى يعقد مقارنة بين الوضع في السعودية والوضع في مصر. آلمني حديثه من فرط مرارة إحساسه، لا سيما عندما تطرق لفراق الأهل والأصحاب، وكأنه انتهز فرصة رؤية مصريين ليتقيأ هذا الحديث لترتاح نفسه. ولا أنسى أبداً تلك الجملة التي عبّر بها عن حاله في الغربة حينما قال: "كلب يُطاردك، لا يتركك تنام ولا حتى تهدأ من الجري".

حاول الأستاذ ياسر أن يُهدئ من روّعه بكلمات عن الصبر والتحمل والقدر، لكنها لم تجدِ نفعاً معه، وبدأت حدة صوته تعلو شيئاً فشيئاً، فقال: "بُصلي كده، ده منظر واحد عنده 28 سنة؟! أنا ضيعت أحلى شباب عمري في الغربة عشان القرش، والنتيجة ولا أي حاجة، قولي على شاب مصري يقدر يجوّز نفسه في الظروف الصعبة اللي في مصر".

ساد صمت عجيب لم يكسره سوى رغبتنا في الرحيل، ألمحتُ للأستاذ ياسر بالمغادرة فلبّى، لكن الشاب أبى إلّا أن يختم على قلوبنا بكلامٍ آخر أكثر وجعاً: "أنا استحملت سخافات وإهانات تهد جبال، لكن مضطر أكمل، ومضطر أتحمل تاني وعاشر، لأن بلادنا قتلت أحلامنا وضيعتنا وطردتنا. وياريت متقوليش مصر هي أمي والكلام بتاع المنتفعين ده اللي نهبوا البلد، وقاعدين على مناصبهم يوزعوا صكوك الوطنية على الناس، لأن مفيش أم بتبقى قاسية على ولادها كده".

والله، أنا لا أذكر حينها ما سبب هذا الحديث المفاجئ؟ وأزعم أنه لم تكن هناك مناسبة أصلاً للكلام عن المقارنة بين البلدين، لكن الشاب من تلقاء نفسه أفضى بحديثٍ ثقيل يختبئ بين ضلوعه لمجرد أن رأى وجوهاً مصرية من حوله، قال ما قال ثم رحل!

"فما أضعفنا حينما نكون في الغربة"!

كأنّ كلانا أقرّ بتلك "المُصيبة"، أقرّ بواقع مخزٍ نعيشه يومياً. ودّعنا الشاب بنظرات بائسة ورحل، فحملنا مشترياتنا دون أن ننبس بكلمة واحدة، فلم أتوقع أن الغُربة بهذا القدر من الألم، إنها تنهش في الجسد، وتتمدد فيه كما يتمدد العلاج الكيماوي في جسم المرضى محاولاً السيطرة على المرض لكنه يفشل، فيكوي أفئدتهم ويطلقون صرخات مكتومة لا يسمعها سواهم، فيضمرونها في أنفسهم العاجزة خشية إزعاج ذويهم.

لست من أنصار المهاجرين، لست ذلك الرجل الذي يتنقل من مكان إلى مكان ومن حياة إلى حياة ويضيف في جوفه حسرات الغربة ووجعها المفرط، لكني أعود ناظراً إلى حالي وحال جيلي، فأقول في نفسي: "إننا لم نعش في الجنة ليتمسك بها أولئك المغادرون"!

طيلة الطريق سيطر على كياني صديقٌ لي قد غادر إلى الخليج منذ خمسة أعوام بعدما أُغلقت كل الأبواب في وجهه، ترك أسرته وأهله وأصدقاءه بحثاً عن "لقمة العيش" ومستقبل مجهول لا يعلمه سوى الله. أذكر أنني كلّما هاتفته لاطمئن على أحواله وكيفية التأقلم في الغربة، أجابني بصوت أشعر بتصنعه: "كله تمام.. أنا بخير.. لا تقلق.. وحشاني لمتنا مع صحابنا". ورغم معرفتي بمحاولاته الدؤوبة في تغيير دفة الحديث عن الحديث، إلّا أنني لم أُثقل عليه بإلحاحي، لكن الكلمة التي لن أنساها حينما قال لي: "العيد والإجازات في الغربة ملهومش طعم.. حاجة ماسخة".

هنا تجلّت الحقيقة الغائبة عني، أنه لن يشعر بآلامك إلّا من مرّ بتجربتك، إّلا من نظر نظرة وداع على وطنه الحزين وقرر الرحيل! إنها خيبة أخرى تُضاف إلى الخيبات التي تسكن في قلبي، فلم يعد قلبي يتحمل المزيد، وجع فوق وجع، وحسرة بجانب حسرة، وألم يضرب ألم، وكأنني بلا صاحب، بلا شيء يوقظني من عناء هذا العالم.. فإلى متى ستتحمل تلك المُضغة كل هذه المشاهد؟

عُدتُ والأستاذ ياسر إلى الفندق ولم يتجرأ أحدنا على الحديث، فكان الصمت كفيلاً بوأد بوادر أية كلمات لنواسيه بها، ترك ذلك الشاب بصمة سيئة وسلبية عن الغربة، على الأقل في صدري، أصبحت لا أطيق هذا المصطلح، لا أحبه، لا أريده أن ينتشر كالطاعون ويستشري في أوصال المجتمع يرقص على أنغامه جيلي، ذلك الجيل الذي ضحى بكل ما يملك في سبيل تحقيق غدٍ أفضل، لكنه لم يرَ سوى سراب.

لأول مرة أستلقي على السرير وقلبي لا يزال يخفق ويتذكر المشهد كاملاً، زفرت تنهيدة طويلة معبأة بالألم خرجت بعدما كتمتها لثوانٍ وأنا أُردد في نفسي: "إن الوطن الذي يترك أبناءه يغادرون قهراً ليس بوطن". ثم سرحت في عالم آخر من صنعي حتى استسلمت تماماً ونعست.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمود عبدالعزيز
محرر صحفي
حاصل على دبلوم في العلوم السياسية ودرجة باحث سياسي في مجال الإعلام، كما حصل على تمهيدي ماجستير من معهد الدراسات العربية، والآن في مرحلة التحضير للماجستير، وأعمل محرراً صحفياً في موقع إلكتروني.
تحميل المزيد