تستيقظ من النوم قبل أن ينفتح جفناها بشكل كامل تكون يداها قد امتدت إلى الكمود بجانبها لتحمل الموبايل، بعينين نصف مغلقتين من آثار النوم، تتصفح الجديد لتقع على مشكلة جديدة عبر صفحة عرض مشكلات شهيرة، تفتح عينيها لتقرأ المشكلة المحبطة، تهز رأسها وتنهض.
وهي تستعد للخروج تشعر أنها ليست على ما يُرام، هناك مسحة ضيق في نفسها لا تدري سببها، تردّ على الجميع بشكل حاد، وهي تغلق الباب تصيح في أخواتها، في العمل ما زالت تشعر بالضيق بدون مبرر ملموس.
هكذا قضت أغلب اليوم في حالة ضيق دخيلة لا تدري سببها، الواقع أنها قد بدأت يومها بشحنة إحباط كبيرة، لقد حَمّلت روحها بالضيق، والقلق، وبعض الغضب، حتى قبل أن تنهض من الفراش، وربما نسي عقلها الواعي كل شيء، ولكن روحها وعقلها الباطن ظلا مُحملين بهذه المشاعر السلبية طوال اليوم، دون أن تعي ذلك.
كلنا في الأغلب نفعل ذلك بدون تخيل كيف يمكن أن يؤثر هذا بنا، تُسرب السوشيال ميديا إلى نفوسنا الكثير من المشاعر السلبية التي تتسلل ببطء، ولكن بثقة، لتستقر داخل وعينا فتؤثر على حياتنا بشكل قد لا نتخيله.
هيا بنا نلعب مشاكل أسرية
ما رأيك أن نلعب لعبة سريعة، افتح جهاز موبايلك وتصفح الصفحات والجروبات الموجودة به، وعد كم منها يعرض مشاكل الآخرين! سواء في جروبات معدة خصيصاً لعرض المشاكل الحياتية، أو جروبات ذات محتوى مختلف، ولكنها تعرض المشكلات على هامش نشاطها لزيادة "الريتش".
في الأغلب ستجد على الأقل صفحتين أو ثلاث صفحات من هذا النوع لديك، والآن هل تتخيل أن هذه الصفحات قد تعيد تشكيل تفكيرك وحياتك بشكل أو بآخر بالفعل؟ هذه ليست مجرد كلمات بل دراسات نفسية حقيقة أكدت أن:
القلق والتوتر والاكتئاب يمكن أن تكون أمراضاً معدية للآخرين
لذا، فإصرارك على التعايش مع بيئة تنضح بمرض القلق والمشاكل سيؤدي بك للعدوى.
صفحات وجروبات حل المشاكل في ازدياد
دعنا في البداية نتحدث عن هذه الظاهرة الآخذة في التفاقم، في البداية على استحياء بدأت تنتشر صفحة أو اثنتين لعرض مشاكل يرسلها الآخرون، دون أن نتعرّف على شخصية المُرسِل، ليشارك القراء في حل المشكلة.
بدأت هذه الفكرة منذ قديم الأزل عبر صفحات المجلات والجرائد، ولعل أشهرها هو بريد الجمعة للكاتب عبد الوهاب مطاوع، الذي اتخذ من يوم الجمعة موعداً ثابتاً لتقديم المشكلات.
لكن مع دخول عالم التكنولوجيا بدأت بعض الصفحات تُقدم محتوى مشابهاً، والحقيقة أن الطبيعة البشرية تتسم بالفضول، لذا هذا النوع من الصفحات يلقى رواجاً هائلاً من الردود والتفاعل والإعجاب والمشاركة.
كلما كانت المشكلة أكثر اختلافاً أو أعمق اكتئاباً، حظيت بتفاعل أكبر، وهكذا تضاعف عدد هذه الصفحات واحدة تلو الأخرى، بل إن الصفحات العاملة في مجالات أخرى أصبحت تقدم بين الحين والآخر مشكلة منقولة لتزيد من التفاعل مع الصفحة أكثر.
جروبات حل المشاكل.. فرق ضخم بين أخذ العبرة والغرق في الاكتئاب
الواقع أن هناك فرقاً ضخماً بين ما كان يقدمه بريد الجمعة قديماً وما يحدث الآن، فالبريد القديم كان يعرض مشكلة واحدة مرة واحدة أسبوعياً، مع حرص من القائم عليه على اختيار المشكلات وتقديم حلول منطقية متخصصة لها، وهو ما جعل الأمر أقرب لأخذ العبرة، والتعلم كيف يمكن التعامل مع المشكلات المختلفة.
بينما الصفحات الحالية تقدم زخماً رهيباً من المشكلات، يجعل كل ما حولنا يبدو كأنه مشكلة كبيرة، وكأن الحياة خَلت من العلاقات الطبيعية، ولم يتبقَّ سوى المشكلات لنتعامل معها.
صفحات حل المشاكل تضع في نفسك أزمات بلا حلول
هل تريد أن تتخيل الأثر السلبي الذي تصنعه مثل هذه الصفحات في نفسك؟ هيا لنأخذ جولة معاً:
متلازمة القلق السلبي
هل سمعت من قبل عن متلازمة القلق السلبي؟ القلق السلبي هو حالة مرضية فعلية تحدث لك عندما تتعرض لقلق الآخرين، فمرض القلق السلبي أو القلق غير المباشر يعني ببساطة الشعور بالقلق لأن شخصاً آخر قلق.
يحدث هذا لأن عقولنا تحوي خلايا عصبية مرآتية. تقوم بعكس ما تراه على ذاتها، الغرض من هذه الخلايا العصبية هو تقليد حركات ومشاعر الآخرين بغرض التعلم والتعاطف، فأنت ترى شخصاً في ورطة أو في كارثة، فتعمل خلايا مخك لتعكس لك ما تراه على ذاتك كي تتعاطف مع ألمه.
كذلك عندما تسمع عن مشكلة شخص ما فإن هذه الخلايا تضعك في موضعه لتتعلم من أخطاء الآخرين لا من أخطائك.
في الطبيعي أنت كشخص عادي لن تتعرض لمثل هذه الحالات بشكل مكثف، لذا فقط ستتعلم من المشكلات حولك، وتقدم التعاطف لمن يحتاجه دون أن تضار شخصياً بشكل جَديّ.
لكن مع انغماسك في صفحات المشاكل، فأنت تقرأ وتتعامل وتنفعل مع معدل ضخم من المشاكل، كل هذا ينعكس على نفسك لتجد ذاتك تعاني دائماً من القلق، التوتر، الاكتئاب، أنت طوال الوقت تتقمص مشاكل، تتشرب بآلام، تتعامل مع خيبات أمل، والخيانات، فكيف تتوقع أن تكون حالتك النفسية بعد كل ذلك؟
بارانويا.. مجتمع مشوّه تماماً يجب الحذر منه
مشكلة أخرى تحدث بسبب هذا النوع من الصفحات، وهو تصدير صورة غير حقيقية عن المجتمع لك، دعنا نتفق أولاً أننا لسنا مجتمعاً من الملائكة، فلا توجد ملائكة على الأرض، والحياة تحوي الكثير من البشاعات.
لكن مرة أنت كشخص طبيعي ستتعامل وتقابل بشاعات وسلبيات المجتمع بقدر محدود، عن طريق دائرة معارفك، في المقابل أيضاً سترى جوانب إيجابية تعادل في نفسك ما رأيت من سلبيات.
هكذا تظل نظرتك للمجتمع متوازنة، لن تراه مجتمعاً مشوهاً لا يحوي سوى الشياطين، ولكن إدمانك لصفحات المشاكل، يجعلك لا ترى إلا السلبي من المجتمع، فهذا المجتمع الذي يحوي كل هذا السوء لا يمكن أن يكون سوياً، وبالتالي ستنعكس نظرتك هذه في تعاملك مع الآخرين، ستصاب بحالة أشبه بالبارانويا "جنون الارتياب" حيث تتوقع من الآخرين السيئ دائماً، وهذا لن يجعلك أبداً تعيش حياة طبيعية.
كل الرجال أوغاد وكل الفتيات قانصات فرص
إن كان كل ما سبق يحدث في نفسك، مع غوصك في هذه الصفحات بشكل عام، فإن الشباب والشابات المقبلين على الزواج أو في سن الارتباط هم الأكثر تأثراً بهذا النوع من الصفحات.
أغلب محتوى صفحات حل المشاكل التي تحقق التفاعل الأكبر تكون عن طرفي العلاقة الإنسانية الرجل والمرأة، ولكنهم دائماً ما يقدمون الأمر في شكل صراع.
الرجل VS المرأة
معركة تدور رحاها على صفحات السوشيال ميديا، حيث تكتشف الشابة والتي –من المفترض- أن تطلع لحياة أسرية وبيت، وحب واهتمام، تجد أن صورتها الذهنية عن الرجال تحولت لعبارة "الرجال كلهم أوغاد".
بينما الشاب المقدم على الزواج بدلاً من التطلع لفترة خطوبة وردية، ونظرة متفائلة لتكوين أسرة، سيُحَمل بالشك والريبة، وهو يتساءل، هل يستغلونني؟ هل يحاولون توريطي، ولسان حاله يقول "كلهن نواشز".
أي أسرة هذه يمكن أن تُبنى بين طرفين متربص كل منهما بالآخر؟ إن كانت مشكلات الحياة الطبيعية قد خلقت هذا النوع من التوتر بين الجنسين، فإن صفحات حل المشاكل قد كرّست هذا التفكير وضخمته عشرات المرات، وجعلته هو الحقيقة الوحيدة بين الطرفين.
ويا ليتها كانت حقيقة من الأساس
الأزمة الحقيقية، أن جميع من تعامل مع مثل هذه الصفحات، سيكتشف أن أغلبية المشكلات المعروضة زائفة، فأنت لا تتعرض لحكايات عن مشكلات حقيقية، بل تخضع لجلسات تخويف مؤلفة.
فكلما تفنن المؤلف في وضع بهارات وحبكات من التوتر والألم والخيانة وانعدام الثقة والتفسخ الأسري، كان التفاعل أكبر و كان تأثير ذلك على المتلقي نفسياً أشد.
فالمواقف المؤلفة مُصممة لتعتصر تعاطفك أو غضبك لتدفعك دفعاً لأخذ رد فعل ما لتفريغ هذا الضيق والغضب، فإما أن تضع "إيموجي" يحمل جزءاً من مشاعرك، أو تقوم بمشاركة المنشور مع آخرين وتضع كلمات تعبر عن ما تشعر به، أو تدخل لترد وتتشابك مع من يختلف معك.
ساحة شجار تُظهر أسوأ ما لدينا
من لا يعرف الجملة الشهيرة للنجمة المبدعة سلوى خطاب "بيخرجوني عن شعوري وأنا جوايا ست مؤدبة"؟، هذا ما يحدث حرفياً، فالمشكلات المعروضة تستفز مشاعرك لتخرجك عن شعورك لتتجاوز حتى عن طبيعتك الأصلية، وتعيد تشكيل شخصية جديدة صدامية، متجاوزة، عنيفة، تستخدم ألفاظاً خادشة أو مهينة.
لقد تم تشكيل نسخة أخرى منك لا يمكن أن تتعامل بها في الواقع، فتدخل في صراعات، لتسب ذاك، وتهين تلك، وتسخر من هؤلاء، وتوجه الإهانات يميناً ويساراً لكل من يختلف معك في الرأي حول المشكلة المسارة، فتتحول مشكلة بعد أخرى لشخص عدواني.
صدق أو لا تصدق، قد تبدأ هذه العدوانية في الظهور في عالم الواقع، وقد تجد نفسك ترد وتتعامل وتختلف مع الآخرين في الواقع بشخصيتك الإنترنتية في بعض الأحيان.
ألا تكفينا مشاكلنا؟ هل نطمع في المزيد؟
في النهاية من منا ليست لديه حفنة من المشاكل التي تؤرق حياته، وأنا أكتب لك الآن أفكر في مشاكلي، وأنت تقرأني الآن تفكر في مشاكلك، فلماذا نطمع في المزيد؟
الحقيقة أن أول طرق السلام النفسي هو أن نغادر هذه الصفحات التي اتخذت من مشاعرنا وقلقنا وهمومنا مصدر رزق، كي نبدأ في التعافي خطوة بخطوة، كلما ابتعدنا عن هذا الضغط النفسي الزائد، كي نبدأ في التعامل مع البشر بشكل أكثر طمأنينة وهدوء، كي نبدأ استعادة ثقتنا في أنفسنا والآخرين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.