زار وليام بيرنز، مدير الاستخبارات الأمريكية CIA، المغرب في أبريل الجاري؛ لبحث عدد من الملفات، من أبرزها ملف انتشار الجماعات الإسلامية المسلحة في منطقة الساحل والصحراء، والوجود العسكري الروسي عبر فاغنر في مالي وليبيا، وغيرها من الملفات المشتركة، وذلك بعد أيام معدودة من كشف صحيفة وول ستريت جورنال عن زيارة وليام بيرنز سراً للرياض، والتي ناقش خلالها الاتفاق السعودي- الإيراني برعاية صينية.
جولة بيرنز في أبريل 2023 بالمنطقة هي الثانية منذ بداية العام، حيث زار في يناير الماضي طرابلس وبنغازي والقاهرة ورام الله وتل أبيب، وهو معدل جولات مكثف يعكس انشغال "بيرنز" بملفات المنطقة، وهو انشغال يمتزج فيه الجانب العملي بالبعد الشخصي، فـ "بيرنز" أحد أبرز خبراء السياسة الأمريكية في العالم العربي، ويعرف المنطقة منذ سبعينات القرن الماضي قبل أن يعينه "بايدن" في عام 2021 مديراً للمخابرات المركزية.
توفر مذكرات بيرنز التي نشرها باللغة الإنجليزية في كتاب عام 2019 بعنوان "القناة الخلفية"، إضاءات حول شخصيته وتعليمه وطريقة تفكيره وقراءته للأمور وعلاقاته التي اكتسبها خلال مسيرته المهنية. فهو حضر العديد من الملفات المهمة بداية من حرب الخليج الثانية، ومفاوضات مدريد، وغزو العراق إلى المفاوضات مع القذافي للتخلي عن برنامجه لأسلحة الدمار الشامل، وصولاً إلى زيارته بعد انقلاب 2013 لخيرت الشاطر نائب مرشد جماعة الإخوان المسلمين في سجن طرة لمدة ساعتين لبحث آفاق حل الأزمة في مصر.
نشأة "وليام بيرنز" وتعليمه
ينتمي "وليام بيرنز" المولود عام 1956 إلى عائلة كاثوليكية من أصول أيرلندية، وقد عمل والده كجنرال في الجيش الأمريكي قاتل في حرب فيتنام، وتولى منصب مدير وكالة الحد من التسلح ونزع السلاح الأمريكية.
قد زار "وليام بيرنز" في عام 1974 مصر للمرة الأولى لمدة 3 شهور في ضيافة صديقه "كونراد إيلتس" الذي شغل والده "هيرمان" منصب أول سفير لواشنطن في القاهرة عقب عودة العلاقات المصرية- الأمريكية بعد حرب أكتوبر. وخلال تلك الزيارة زار "بيرنز" القاهرة والجيزة والأقصر ومرسى مطروح وسيوة، ورأى الرئيس السادات برفقة والد صديقه.
حصل "وليام بيرنز" على منحة "مارشال" لمدة ثلاث سنوات للدراسة في جامعة أكسفورد، وذلك ضمن برنامج أنشأته الحكومة البريطانية لإحياء ذكرى خطة مارشال، وبموجبه يحصل 30 أميريكياً كل عام على فرصة للدراسة في بريطانيا.
هناك أكمل "بيرنز" مسيرته التعليمية؛ حيث حصل على الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية، وكتب أطروحته للدكتوراه حول استخدام المساعدة الاقتصادية كأداة للسياسة الأمريكية تجاه مصر منذ عام 1955 إلى 1981، وخلص فيها إلى أن المساعدة الاقتصادية نادراً ما تكون لها فاعلية كبيرة باعتبارها "عصا" لتغيير السياسات.
حيث لم يجبر سحب المساعدات الأمريكية لمشروع السد العالي أو وقف المساعدات الغذائية الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر على التخلي عن العلاقات مع السوفييت، إنما دفعه لتعزيز علاقته مع موسكو، وهو ما اعتبره بيرنز درساً مهماً ينبغي على الإدارات الأمريكية تعلمه.
أتقن بيرنز اللغة العربية، كما استفاد من مشرفه الأكاديمي هيدلي بول، والذي علمه أن التاريخ هو مفتاح مهم لفهم العلاقات الدولية، وأن الدبلوماسية تتعلق غالباً بإدارة المشكلات أكثر من حلها. كذلك استفاد "بيرنز" من مشرفه الأكاديمي الآخر "ألبرت حوراني" أحد أبرز الأكاديميين المتخصصين في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر.
وليام بيرنز.. قراءة لأوضاع العالم العربي
التحق بيرنز بوزارة الخارجية الأمريكية في عام 1982، وعمل في القسم السياسي بالسفارة الأمريكية بالأردن، وهو القسم المكلف بتحليل الوضع الداخلي والسياسة الخارجية للأردن، وبناء اتصالات مع كبار المسؤولين واللاعبين السياسيين بمن فيهم السياسيون الإسلاميون والنشطاء الفلسطينيون في مخيمات اللاجئين.
تولى في عام 1986 الإشراف على قسم الشرق الأدنى وجنوب آسيا بمجلس الأمن القومي الأمريكي، وهو قسم يغطي المنطقة الممتدة من المغرب إلى بنغلاديش، ثم عمل مديراً لتخطيط السياسات بوزارة الخارجية، ثم سفيراً بالأردن وروسيا، وصولاً إلى منصب مساعد وزير الخارجية ثم نائباً للوزير.
خلال ثنايا مذكراته، يقدم "بيرنز" تقييمات لأدوار بعض الدول العربية، ويذكر عدداً من الدروس المهمة. فهو يرى أن لواشنطن مصلحة قوية في وجود شريك أردني، ويضيف "إذا لم يكن لدينا مثل هذا الشريك، فسيتعين علينا اختراع واحد لأنه ضروري لأمن إسرائيل".
لكن "وليام بيرنز" فيخشى من أن مشاكل ندرة المياه وارتفاع نسبة البطالة، وازدياد الدين الخارجي، والاعتماد على المساعدات الخارجية، واستيراد أغلب الطعام من الخارج، عوامل تضع الأردن تحت ضغوط ديموغرافية واجتماعية واقتصادية وسياسية متزايدة مما يهدد استقراره.
لذا سافر إلى عمان في 12 فبراير 2011 للقاء الملك عبد الله بعد يوم من استقالة مبارك، فيما وصفها بأنها أكثر محادثة مباشرة بينه وبين الملك منذ ما يقرب من عقدين، وذلك لمناقشة إجراء انفتاح سياسي واقتصادي يجنب المملكة موجة الربيع العربي.
يعتبر بيرنز أن عسكرة السياسة الخارجية فخ يؤدي إلى الإفراط في استخدام القوة، ويضيف "إذا كانت أداتك الرئيسية المطرقة فعندها ستبدو كل مشكلة كأنها مسمار". ولذا كان بيرنز من الرافضين لغزو العراق عام 2003، وكتب إلى رؤسائه أن الدخول إلى العراق سيكون أسهل بكثير من الخروج منه، واعتبر أن إدارة بريمر في العراق كانت مزيجاً غريباً من الغطرسة الأمريكية والتفكير بالتمني، حتى إنه فكر آنذاك في الاستقالة من عمله اعتراضاً على سياسة إدارة "جورج بوش" في العراق التي رأى أنها تضر النفوذ الأمريكي أكثر مما تنفعه.
إن رؤية "وليام بيرنز" الاستراتيجية عبّر عنها بكلمات قليلة قائلاً: "استخدام ما تبقى من التفوق الأمريكي لتشكيل نظام دولي جديد يستوعب لاعبين جدد وطموحاتهم مع تعزيز مصالحنا الخاصة".
وليام بيرنز.. الدور الدبلوماسي واللقاءات المباشرة
يرى "وليام بيرنز" أن الدبلوماسية هي الأداة الرئيسية لإدارة العلاقات الخارجية عبر الاتصال والاستطلاع، وفهم الواقع بشكل أفضل وتقييم الدوافع ونقل التصميم وتجنب الصدامات غير المقصودة، حيث يخدم الدبلوماسي كمترجم بين واشنطن والعالم، وكرادار إنذار مبكر للمشاكل والفرص، وكداعم للعلاقات الثنائية، ومنفذ للسياسات، ومروج للمصالح الاقتصادية لبلده، وكخبير اتصال وتفاوض.
يوضح "بيرنز" أنه غالباً ما يضطر صانعو السياسات والدبلوماسيون إلى اتخاذ قرارات في ظل ضغوط زمنية لا ترحم، مع وجود معلومات غير كاملة، وهو ما لا يتفهمه من هم خارج الملعب. ولذا يعتبر أن مفتاح النجاح في أي وظيفة شبيهة هو إحاطة نفسك بأشخاص أكثر ذكاءً وخبرة منك.
يؤكد "بيرنز" على أهمية العلاقات الشخصية قائلاً: "في منطقة استبدادية مثل الشرق الأوسط، ليست تكنولوجيا الاتصالات الحديثة بديلاً عن بناء العلاقات الشخصية والتفاعلات وجهاً لوجه"، وهو درس تعلمه مبكراً من وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "شولتز" الذي أشار إلى أن زيارات الدول الأخرى حتى لو لم تكن لمناقشة أمور هامة، تظل زيارات مطلوبة لإبقاء دفء بالعلاقات، لأنه "من المهم الاستمرار في تقليب الإناء".
يصعب فصل جولات بيرنز المكثفة بالمنطقة عن تلك الدروس، فلسنا إزاء مسؤول أمني يعمل خلف الكواليس المغلقة، إنما أمام شخص يملك خبرات متنوعة أكاديمية ودبلوماسية وأمنية، ويختلط بالمنطقة منذ نصف قرن، ويعرف اللاعبين عن قرب بداية من بشار الأسد الذي وصفه بأنه يفتقر إلى مكر والده وخبرته، وصولاً إلى مخيم جنين الذي زاره عقب التدمير الإسرائيلي له في الانتفاضة الثانية، حيث وصف ما رآه من دمار بأنه أحد أكثر المشاهد كآبة التي شاهدها في حياته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.