منذ البداية، ظهر مشروع تشكيل كيان إسرائيلي في قلب منطقة الشرق الأوسط كمشروع غربي متكامل، ونقصد هنا الدعم المادي والعسكري واللوجستي. كما أنه من السهل ملاحظة أن حلفاء إسرائيل من الغرب لا يتغيرون، بل تختلف شدة دعمهم للكيان المحتل بحسب موقعهم على الساحة الدولية، فوعد بلفور قدمته بريطانيا، والدعم العسكري خلال الحروب العربية الإسرائيلية قدمته الولايات المتحدة الأمريكية.
تاريخياً، خاضت الدول العربية معارك عدة ضد إسرائيل، توصف هذه المعارك بأنها معارك كلاسيكية، أي أن الدول دخلت هذه الحرب بصفة رسمية وبمنظور الحفاظ على المصالح الجيوسياسية والتاريخية للمنطقة، وقد دخل في تركيبة هذه الحروب عناصر الهوية والثقافة والتاريخ والمصير المشترك. بدأت الحرب الكلاسيكية بين العرب وإسرائيل مع بداية ظهور الكيان في العام 1948، شكلّ العرب آنذاك ما يعرف بجيش الإنقاذ وتطوع الآلاف من العرب إلى جانب الفلسطينيين لخوض هذه الحرب. النتيجة كانت خسارة العرب لهذه الحرب، بالإضافة إلى عملية تهجير واسعة وممنهجة لعرب الداخل الفلسطيني. خلال أزمة السويس شاركت كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل في شن الحرب على مصر؛ إثر قرار جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، ونشب ما عرف فيما بعد بالعدوان الثلاثي على مصر في العام 1956. لم يخرج أي من الأطراف منتصراً في هذه المعركة نظراً لتهديد الاتحاد السوفييتي وتوجيه إنذار أمريكي للدول المعتدية بوقف الحرب لما لهذه العملية من ضرر يهدد المصالح الأمريكية.
حضّرت إسرائيل نفسها للمواجهة مع العرب بشكل غير مسبوق، هذا التحضير الذي شجعها على خوض ما يعرف بحرب يونيو/حزيران أو النكسة بالمفهوم العربي، حيث احتلت إسرائيل كلاً من سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان في سوريا. وسعياً للانتقام واسترداد الأراضي المحتلة شنت جيوش مصر وسوريا هجوماً مشتركا في 1973، وعلى الرغم من الانتصار المبدئي للجيوش العربية إلا أن التدخل الأمريكي لصالح إسرائيل حول هذا الانتصار إلى هزيمة واستعادت إسرائيل جميع الأراضي المحررة التي حررتها الجيوش العربية.
هذا السرد التاريخي للمعارك بين الجيوش العربية وإسرائيل هو لتوضيح الأخطاء التاريخية التي ارتكبها العرب أثناء مواجهتهم مع الاحتلال، هذه الأخطاء التي دفعتهم فيما بعد إلى اعتماد أسلوب التطبيع مع الكيان لتحصيل الحقوق. ولكن ما حدث هو أن إسرائيل حوّلت معادلات السلام مقابل الأرض إلى السلام مقابل السلام. هذه الخسائر بالإضافة إلى عمليات التطبيع الخاسرة مهدّت لظهور ما يعرف بالجهات الفاعلة غير الحكومية. تحاول إسرائيل وحلفاؤها إطلاق اسم ميليشيات على هذا النوع من المقاومة، إلا أنّ التسمية الصحيحة لهذا النوع من الجماعات هو "الفاعلون من غير الدول". ويتم تعريفهم بحسب القانون الدولي كالتالي: "جهات أو أفراد يتمتعون بنفوذ مستقل كلي أو جزئي عن الدول أو الدول ذات السيادة".
باختصار لقد خلقت الخسائر التي تكبدتها الجيوش النظامية العربية الأرضية المناسبة لظهور نوع جديد من المواجهة نشهدها اليوم في المواجهة مع إسرائيل. إذ إن سهولة الحركة والقدرة على تهريب السلاح وتخزينه والصفة العابرة للحدود أهم الصفات التي تتميز بها هذه الجهات. وعليه، فعلى الرغم من الاختلاف بين هذه الجهات في بعض المواضيع إلا أن جميعها متفق على ضرورة هزيمة إسرائيل.
في العام 2006 دخل حزب الله بحرب منفردة مع إسرائيل، وعلى الرغم من الانتصار النسبي في هذه الحرب، إلا أن هذه المجموعة تعلّمت ضرورة رفع تكلفة الحرب لإسرائيل بشكل أكبر، وهذا ما دفعها إلى زيادة التعاون مع الفصائل الفلسطينية المقاومة. ظهرت أهمية التنسيق بين هذه الفصائل خلال العدوان الأخير على القدس، حيث أطلق حوالي 44 صاروخاً بدائياً من جنوب لبنان باتجاه إسرائيل، ثم بعد ذلك تم إطلاق رشقات من الصواريخ من قطاع غزة ولحقتها رشقة من الصواريخ من الجنوب السوري باتجاه مرتفعات الجولان المحتلة. كل هذه التحركات والتنسيق عالي المستوى هو لإظهار أن المعركة القادمة ستكون معركة شاملة ومتعددة المحاور وسيصعب على إسرائيل خوض مثل هذه المعارك لأن الفصائل التي ستشارك في هذه الحرب لن تكون قوات نظامية تستقر في مكان واحد يسهل استهدافه، إنما ستعتمد أساليب الحروب الوهمية والسرعة في التنقل والاعتماد على الكثافة الصاروخية من دون الاستعانة بالطيران الحربي.
كخاتمة لما تقدم، الجولة الأخيرة من المواجهة أظهرت أهمية الحروب الحديثة وضرورة التخلي عن المواجهات الكلاسيكية التي خسر العرب معظمها. إسرائيل باتت تعرف جيداً أن الحرب القادمة هي حرب متعددة الأوجه؛ ولذلك فهي تتفادى الدخول في مثل هذه المواجهة. كما تظهر حروب الجماعات الفاعلة من غير الدول القدرة على الصمود وإيقاف عملية التطبيع مع إسرائيل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.