لعل غولدا مائير، رئيسة الحكومة الإسرائيلية سابقاً، قد لخصت لنا رؤية الكيان الإسرائيلي في مفهوم الردع الاستراتيجي، حيث ترى أن خير وسيلة للاحتفاظ بعنصر الردع التقليدي ضد العرب، بما يضمن قبولهم للشروط الإسرائيلية في أي تسوية سلمية، هو كسر عزيمتهم وشل أي رغبة في المقاومة أو الصمود لديهم.
ومن هذا المنظور فإن نظرية الردع الإسرائيلية تتأسس على فكرة التفوق العسكري الإسرائيلي على القوى العربية، وتظهر نصراً إسرائيلياً عند تصادم عسكري عربي يعزز قناعة لدى العرب بشكل تراكمي تتمثل في أن الخيار العسكري ليس خياراً للتسوية بين إسرائيل والعرب. وبذلك فالكيان الإسرائيلي يجنح إلى تفضيل ممارسة استراتيجية الردع تجاه الأنظمة العربية ومختلف فصائل المقاومة والسلطة الفلسطينية كبديل عن سياسة الحرب بمفهومها العسكري الشامل، ولذلك فسلطة الاحتلال تركز على إظهار ملكية إسرائيل للقوة العسكرية الرادعة وعلى رأسها السلاح النووي الذي يحمل معنى واحداً مفاده أن إسرائيل ستلحق هزيمة بكل من يشن حرباً ضدها يفوق ثمنها اللجوء إلى تلك الحرب.
وفي سياق التنافس الإقليمي والدولي على تغيير الخارطة الجيوسياسية ومصادر القوة والنفوذ العالمي والانتقال من الحرب الباردة إلى التصادم العسكري الذي بينته الحرب الروسية الأوكرانية وبروز فكرة الردع الاستراتيجي النووي الذي طفى على سطح النقاشات بين الأطراف المتصارعة وأيضاً المجتمع الدولي، يتبادر إلى الذهن تساؤل حول السلاح النووي الإسرائيلي يتمثل في: هل الترسانة النووية الإسرائيلية مشمولة برقابة الوكالة الدولية للطاقة؟ وما هي حدود الطاقة النووية التي تمتلكها إسرائيل؟
هاته الأسئلة في اعتقادي أن الكيان لا يريد إظهارها في ظل الضغط على برنامج إيران النووي، والحرب الروسية الأوكرانية التي تطرح الخطر النووي في العالم للنقاش والتحليل، كما أنه يوجه تركيز الأنظار والتفكير العربي والعالمي نحو الخطر النووي الإيراني على قواعد الردع الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، في حين يتغافل ويتجاهل موضوع الترسانة النووية الإسرائيلية التي تهدد المنطقة العربية وخصوصاً إذا ما علمنا تهالك مفاعل ديمونة (دون أي ضربة) وهو ما يضع المنطقة برمتها تحت رحمة لحظة انفجاره.
في هذا الإطار ذكر وزير الدفاع الأمريكي في عهدة الرئيس بيل كلينتون، ويليام جيمس بيري في كتابه "رحلتي على شفا الهاوية النووية"، عبارة "أن التحديات الأمنية النووية تختلف عن تحديات الحرب الباردة" وهي عبارة لخصت واقعاً مرتهناً للردع الاستراتيجي النووي، وأن أي خلل في منظومة الردع سيكلف البشرية الكثير ويجعل العالم تحت وطأة المعاناة لعقود من الزمن، كما أن الكاتب أشار أيضاً إلى العديد من النقاط الراهنة منها خطورة توسع حلف الناتو وانعكاساته على العالم؛ من خلال تصادم محتمل وتشكل تعدد الأقطاب وأيضاً احتمالية توجيه إسرائيل ضربة وقائية لمفاعلات نووية إيرانية.
وفي هذا السياق فالكيان الإسرائيلي عند إمعانه في تحقيق التفوق العسكري وتحقيق الردع الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط من خلال التلويح بتوجيه ضربة ضد المفاعلات النووية الإيرانية فليس مستبعداً أن تضع إيران ذات المخاوف وتعمل بشكل عكسي وتوجه ضربة مباشرة أو عبر وكلائها بالمنطقة إلى المفاعلات النووية الإسرائيلية.
وعلى هذا النحو من الفكرة فإنه مما لا شك فيه أن الترسانة النووية الإسرائيلية يغشاها الغموض، هذا الغموض له وظيفة مزدوجة؛ الأولى تتمثل في أن الكيان يحاول التملص من أي رقابة دولية ومنع أي محاولة تفتيش لفرق الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما سعى إليه في عدم الانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية 1968 والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1970، كما أن الوظيفة الثانية تتعلق بالتهديد التراكمي عبر السلسلة الزمنية لدول المنطقة بامتلاك الكيان للأسلحة النووية حتى يبقى على النفوذ والتأثير دون أن يضع حدوداً لهاته القوة، الأمر الذي يندرج ضمن استراتيجية الردع العام الإسرائيلية.
فالكيان الإسرائيلي منذ إعلان تأسيسه وضع الأسس الأولى لامتلاكه هذا النوع من السلاح الردعي وعمل على تطويره إلى وقتنا الراهن، إذ نجد ديفيد بن غوريون أول رئيس لحكومة إسرائيلية قد خاطب بعض العلماء اليهود المهاجرين من ألمانيا إلى فلسطين المحتلة قائلاً: "أريد منكم أن تهتموا منذ الآن بالأبحاث الذرية، وبإنجاز كل ما يمكن إنجازه من أجل تزويد الدولة اليهودية المنشودة بأسلحة نووية". والتي توجت تلك الجهود بعد أعوام قليلة في تأسيس مفاعل ديمونة عام 1957 في صحراء النقب الفلسطينية المحتلة باتفاق وشراكة فرنسية والتي أجريت التجارب بحضور خبراء الكيان في صحراء الجزائر عام 1960 والتي راح ضحاياها كثر.
ومنذ لحظة التأسيس إلى اليوم حسب ما تشير إليه بعض التقارير فإن الكيان يمتلك حوالي 10 مراكز متعلقة بالأسلحة النووية، أغلب هاته المراكز تتواجد إما في صحراء النقب أو بمحيط مدينة الرملة أو الخليل وتتنوع في الاختصاص وطاقتها التدميرية.
وبهذا الصدد كشفت دراسة صادرة عن "المعهد الدولي لدراسات السلام" في شهر يونيو/حزيران 2020 أن الكيان الإسرائيلي يمتلك 90 رأساً حربياً نووياً، وهو ما يشير إلى زيادة في هذا النوع من الأسلحة، عمّا كانت تمتلكه عام 2019. وبذلك تعد الدولة التاسعة التي تمتلك السلاح النووي، والغريب أن هذا المركز المتقدم في امتلاك السلاح النووي تصاحبه مغالطات إعلامية وحجب المعلومات والتركيز على خطر وهمي وإغفال الخطر الحقيقي الذي هو بيننا ويهدد وجودنا، وللأسف البعض منا يهتم بتفريعات وعدم تفاهمات هامشية ويصورها على أنها الأولوية في أمن المنطقة واستقرارها.
وفي هذا الإطار فإن الكيان الإسرائيلي، وفق استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي لا يتورع في تنفيذ خطته وامتلاك السلاح النووي حتى ولو كلفه ذلك مسح منطقة بالكامل، غير أن مخاوفه تزداد من هاته النقطة حينما يشكل السلاح النووي أيضاً خطورة بالنسبة له، من هنا يضع حسابات دقيقة تتناسب مع الزمن وتحديداً مع ما تحاول إيران السعي نحوه من امتلاك الترسانة النووية التي هي أيضاً تخفي الكثير عن برنامجها.
فلو وضعنا مفاعل ديمونة المتهالك كمثال، فإننا نجده مفاعلاً نووياً قابلاً للانفجار دون أي ضربة موجهة ضده، وذلك على اعتبار أنه تجاوز العمر الافتراضي لتشغيله بأكثر من 23 سنة؛ حيث تفيد بعض التقارير المبنية على صور الأقمار الصناعية بأنه قد دخل مرحلة الخطر ويظهر ذلك من تصدعه وتحوله إلى مصدر محتمل لكارثة إنسانية تحصد أرواح الملايين من البشر ويمتد قطر مخاطره إلى قبرص ويتجاوز الأردن ويأتي على الحدود الغربية المصرية.
كما أن الضربة التي وجهت نحو المنطقة المتواجد فيها من قبل القوات السورية بتاريخ 22 أبريل/نيسان 2021 والتي لم تصبه نقطة تحول وإعادة قراءة لأمن واستقرار الكيان الإسرائيلي، وربما تزداد المخاوف حينما نجد المسافة بين ديمونة وبين دمشق حوالي 400 كلم وأقل من ذلك بين هضبة الجولان السورية ومفاعل ديمونة، هاته المسافات وغيرها تشملها الصواريخ السورية وحليفتها إيران بالإضافة إلى جنوب لبنان وما ينطوي عليه من حركات مقاومة، ولعل الأحداث الأخيرة في شهر أبريل/نيسان من عام 2023 التي جاءت كردة فعل عن الانتهاكات الإسرائيلية ضد المعتكفين في المسجد الأقصى في شهر رمضان والمساس بالمقدسات الإسلامية وما صاحب ذلك من إطلاق صواريخ من مناطق مختلفة يعد إشارة واضحة لاستهداف مباشر للقوة العسكرية الإسرائيلية؛ الأمر الذي فتح باب النقاش واسعاً لدى الحكومة الإسرائيلية وشكل توازن ردع في المنطقة.
ومن جهة أخرى فإن صواريخ الحوثي والطائرات المسيرة التي استخدمها ضد مناطق محددة في المملكة العربية السعودية بعثت بالقلق الشديد من استهداف مراكز محددة في الكيان الإسرائيلي، منها البرنامج النووي الإسرائيلي، فالكيان حدد خطورة ذلك من امتلاك إيران تقنية متطورة لا تسمح باكتشافها وأن نسبة الخطأ في تحديد الأهداف ضئيلة جداً؛ مما يجعلها تضع خطة مستعجلة لتفادي مثل هذه الكوراث. كما أنني أشير إلى الجهود السعودية حول التهدئة في محيطها والمنطقة والتي تُوجت باتفاق هدنة بينها وبين الحوثي الذي دخل حيز التنفيذ في شهر أبريل/نيسان 2022 والذي تم الإعلان عن تمديده في العاصمة العمانية منذ يومين ووضع أسس للوصول إلى حل سياسي شامل بين الأطراف المتصارعة في اليمن، وبذلك فهي جهود لإنهاء الحرب التي يشكل بقاؤها مشتعلة تكليف المنطقة الكثير، كما أن التقارب الإيراني السعودي الأخير يأتي ضمن خطط الأمن الوقائي والاستباقي واحتواء الخطر الناجم عن التحولات الدولية والإقليمية وتشكل محاور متعددة تتنافس في منطقة الشرق الأوسط.
ومن الملاحظ أن هناك ترسانة إعلامية مركزة وموجهة نحو الخطر النووي الإيراني دون الإشارة إلى الخطر الإسرائيلي في مجال الطاقة النووية وهاته تأتي في سياق استراتيجية التطبيع وصناعة العدو، لكن وللأسف كل يوم يمر وعالمنا العربي ينحدر نحو قاع الضعف والهوان وتفتيت قدراته وروابطه التي هي مصدر وجوده واستمراره، وأن الردع النووي ضرورة قصوى أو على الأقل لا بد من وجود توازن القوى في المنطقة وهي قاعدة يمكن ملاحظتها من خلال ما تفرزه الحرب الروسية الأوكرانية التي كبلت يد قوى حلف الشمال الأطلسي "الناتو" وسمحت بإعادة التفكير من طرف قوى دولية أخرى في ضرورة وجود توازن في القوى وأن العالم يسير إلى مراجعة رسم خارطة جيوسياسية جديدة على قواعد مختلفة.
كما أن هناك معطى مهماً وهو المقاومة الفلسطينية التي أظهرت الكفاية الردعية بمستوى مقبول بدءاً بعملية سيف القدس مايو/أيار 2021 وهو تطوير واضح لمعادلة الردع، حيث تمكّنت من خلال استهدافها المكثّف للمدن الإسرائيلية الرئيسية ودقة الضربات الصاروخية التي أصابت مواقع مهمة في الكيان الإسرائيلي، مثل مطار بن غوريون، وعدة قواعد عسكرية، وبذلك هي وضعت الجبهة الداخلية الإسرائيلية تحت ضغوط مكثّفة، مما خلق حالة من الإرباك الواضح في صفوف المنظومة الدفاعية للكيان الإسرائيلي وربط بشكل جلي معادلة الأمن مقابل الأمن للمدن الفلسطينية والمستوطنات الإسرائيلية وأيضاً المدن الرئيسية؛ مما كبل يد الكيان، وإعادة مدارسة التطور الملحوظ للصواريخ الردعية التي برزت مع عملية سيف القدس، وبهذا باتت القوة الهجومية للمقاومة الفلسطينية تشمل قطراً يصل مداه إلى 250 كيلومتراً. وبهذا المدى من الوصول تشكل خطراً استراتيجياً للكيان يحاول أن يقفز على حقيقته ومعه بعض من العرب. ثم إن الرد الأخير الذي بين وحدة ساحات المقاومة من القطاع والضفة وجنوب لبنان والجولان وغيرها من المناطق وضع قواعد جديدة للتوازن وكشف عوار وضعف قوة الكيان التي طالما يخفيها.
ويمكن القول إنه انطلاقاً من معادلة الخطر النووي ومواجهته في المنطقة نجد الأنظمة العربية المطبعة هي أسيرة للكيان، ولا تملك الإرادة والسيادة الكافية حتى ترفض أي قرار، وأنها تحاول طمس حقيقة الخطر النووي الإسرائيلي وهو الخطر الحقيقي في المستقبل والذي يهدد البلدان العربية والخطر الداهم على الشعوب العربية المعرضة للفناء. وإن بمحاولتها استهداف إيران وهي لن تستطيع في النهاية ليس الوقوف في صف إيران، بل لغياب العناصر الموضوعية في ذلك، كما أن ما تفرزه الحرب الأوكرانية الروسية لا يسمح لأمريكا وحلفائها وإسرائيل أن تفتح جبهة أخرى يتم فيها فقدان حلفاء آخرين، وهاته الضربة ستكلف الكثير، غير أن الكيان الإسرائيلي يحاول بإصرار الاستثمار في هذا الوضع والوصول إلى إقناع الغرب بوجوب توجيه ضربة لإيران مقابل وقوف إسرائيل إلى جانبها في حربها ضد روسيا في أوكرانيا. ومن ثم فهي تعمل على فسح الطريق أمام امتلاكها القوة النووية الوحيدة في المنطقة.
وهنا أشير إلى أهمية وضرورة امتلاك بعض الدول العربية للقوة النووية في ظل الصراع الدولي؛ وهو أمر مهم جداً في تتويج استراتيجية توازن القوى، وإنني أرشح بعض الدول العربية في امتلاكها من منظور مستقبلي لبرنامج نووي وذلك لانخراطها في محور قابل لتنفيذ برنامج نووي يسمح بتجسيد ميزان القوى في المنطقة إن أرادت، وأن التحولات الدولية الراهنة تسمح بذلك الأمر الذي نلمسه بوضوح بإعلان تركيا في تدشين مفاعلها النووي في نهاية الشهر الجاري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.