من الحصاد المر لمدربي التنمية البشرية ووسائل التواصل الاجتماعي انتشار الوهم بضرورة تحقيق الكمال في كل شيء. ولكن هذا الوهم لم ينتشر وحده، بل انتشر معه إحساس بالفشل وعدم تقدير الذات، وهذه نتيجة طبيعية. فما السبب وما الحل؟
على عكس ما يقوله مدربو التنمية البشرية بنبرات الحماسة على أنغام الموسيقى الهادئة من قبيل "ما توقفش حلم. إنت تقدر تعمل أي حاجة. مفيش حاجة اسمها مستحيل"، تصدمنا طبيعة الخلق البشري الموسوم بالعجز من بعض الوجوه وحقيقة البيئة التي يعيش فيها الفرد. فليس كل البشر سواسية في القدرات البدنية أو المهارات الفردية أو القدرات العقلية أو فرص التعليم أو في الوسط الأسري، وما يحكمه من يسر الحال من عدمه، وبالتالي فلا يمكن لشخص واحد أن يفعل كل شيء بنفس المستوى من التمكن. وأنا هنا، أفترض أن الإنسان يعيش في بيئة يحصل فيها على حقوقه دون واسطة، ويمارس حقه الطبيعي في أن يختار من يسوس أموره، ويستطيع التعبير عن رأيه ويطالب بمحاسبة من سلبه حقه، فما بالنا ببيئات لا يتوافر فيها أي من هذه الأمور؟
وبناءً على هذا العرض الموجز، أتعجب حقاً من طالب مصاب بالاكتئاب لأنه لا يستطيع أن يحصل على تقديرات عالية في دراسته وإجازة في القرآن الكريم وتعلم لغة أجنبية، في حين أن ظروفه الأسرية أجبرته على العمل ورعاية أسرته بعد وفاة والده. يكفي هذا الطالب شرفاً أن يحاول في أي من هذه المجالات، مع الحفاظ على مصدر رزقه الذي تعتمد عليه أسرته، ولكن عدم قدرته على تحقيق الكمال في بعضها أو جميعها لا يجب أن يُنْقصَه تقديرَه لذاته، فهذه طبيعة البشر: تقديم الأهم على المهم.
والأمر كذلك مع سيدة هي أم لأطفال في مراحل تعليمية مختلفة، وزوجة مسؤولة عن إدارة بيت، وموظفة بدوام كامل تعمل لمساعدة أسرتها في ظروف مجتمعية طاحنة. هل يُتوقع من مثلها الكمال في أي من هذه المهام الجسام؟ فلماذا تصاب بالإحباط إن لم تحقق الكمال في أحد هذه الأمور؟ هذه طبيعة البشر. أما تُرَاها صدَّقت دعوى النسويين بأنها "امرأة بألف رجل" وأنها "امرأة قوية ومستقلة" ولا يجب أن يقهرها أي ظرف أسري أو مجتمعي؟ هذا، في الحقيقة، مناف لطبيعة البشر الناقصة.
قد يُفهَم هذا الكلام على أنه مدعاة للتكاسل أو عدم خوض التجارب اكتفاءً بخبرات غيرنا غير المحمودة، ولكن هذا يناقض ما قلته عن اختلافنا في القدرات. فربما يستطيع شخص ما إنجاز عملين في وقت واحد؛ لأن قدراته البدنية أفضل أو لأنه يدير وقته بشكل أفضل أو لأن وراءه أسرة تساعده، في حين لا يتاح لشخص آخر أي من هذه الأمور. وبالتالي، يستطيع الأول الإنجاز في عملين، في حين لا يستطيع الآخر ذلك، ليس لفشله ولكن لاختلاف ظروفه وقدراته.
وما أدعو له هنا هو أن يعرف كل منا قدراته الحقيقية ويحاول أن يُطَوِّر منها قدر الإمكان، مع محاولة الخروج من دائرة الراحة بالتجريب المباشر. ولكن يجب على الإنسان أن يُقَيِّمَ نفسه وفقاً لقدراته، وأن يعي أن مدى إنجازه وحجمه يتوقف على عوامل عدة (كما وَضَّحتُ سابقًا). فإن شَعُرَ أنه لا يستطيع الإنجاز في مهمة أو وظيفة معينة، فلا يجب أن يُصاب بالإحباط، بل يجب عليه إعادة تقييم الأمر إما بتغيير طريقة أداء المهمة أو الوظيفة أو التوقف عنها حتى لا يضيع وقته في شيء لا يُتوقع منه إجادته، والبدء في البحث عن عمل آخر يناسبه. وهذا من قبيل تصحيح المسار، لا الفشل.
وخلاصة القول: يجب أن نجرب، وأن يكون لدينا الجرأة على التراجع إن شعرنا أننا نسير في الاتجاه الخطأ، وأن ننقد ذواتنا دون مبالغة، وأن نعي أن الاختلاف في الإنجاز يتوقف على ظروف متعددة قد لا يكون لنا فيها حيلة، وأن نتيقن من أن الكمال لله وحده. بهذا وحده، نتصالح مع ذواتنا ونستسيغ الحياة ونقدرها حتى وإن لم ننجز كل ما حلمنا به لأنه – ربما – كان أعلى من قدراتنا أو لأن الظروف لم تقف في صفنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.