في اجتماعه الخميس 30 مارس/آذار 2023 قرر البنك المركزي المصري رفع أسعار الفائدة بنسبة 2% (200 نقطة)، لتصل الفائدة إلى 18.25% للإيداع، و19.25% للإقراض، و18.75% لسعر الائتمان، سعياً إلى السيطرة على مستويات التضخم المرتفعة.
إذ قفز معدل التضخم الأساسي الذي يستثني أسعار السلع الغذاء والطاقة في فبراير/شباط 2023 إلى 40.3%، مسجلاً أعلى معدل له على الإطلاق.
يهدف المركزي المصري من رفع الفائدة تعويض المدخرين عن الفارق بين معدلات الفائدة في البنوك ومعدلات التضخم المرتفعة التي تأكل قيمة مدخراتهم، لدفعهم إلى الادخار والحد من الإنفاق الاستهلاكي، من أجل امتصاص السيولة وكبح التضخم في الأسواق. ولجذب استثمارات أجنبية لأدوات الدين وأذون الخزانة الحكومية، بعد تراجع الطلب عليها.
الاقتصاد المصري وتراكم الودائع لدى البنوك
في يوم الأحد 2 أبريل/نيسان طرح بنكي الأهلي ومصر، شهادات ادخار لمدة 3 سنوات، بعوائد 19% و22%، لتحجيم السيولة في السوق خاصة مع تزامن صرف مستحقات شهادات الـ18% والتي تقدر حصيلتها بحوالي 750 مليار جنيه، كما قام "البنك التجاري الدولي" الذي يُعد أكبر البنوك الخاصة في مصر بإصدار شهادة ذات العائد الشهري الثابت 20% لمدة 3 سنوات، وتبعهم بذلك عدة بنوك مصرية قامت بإصدار شهادات إدخار بعائد مرتفع.
كان البنك الأهلي ومصر قد أصدرا مع مطلع العام الحالي، شهادات ادخار لمدة عام بعائد 25% يصرف في نهاية المدة، واستطاع البنكان جمع حصيلة ضخمة من تلك الشهادات وصلت إلى نحو نصف تريليون جنيه.
في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، كان إجمالي ودائع البنوك قد ارتفع إلى 8.37 تريليون جنيه بنهاية الشهر، كما ارتفعت الودائع الحكومية إلى 1.8 تريليون جنيه، وجاءت الودائع غير الحكومية بقيمة 6.56 تريليون جنيه. وسجلت الودائع غير الحكومية بالعملة المحلية 5.36 تريليون جنيه، أما الودائع بالعملة الأجنبية فقد سجلت في نهاية نوفمبر 1.19 تريليون جنيه.
أين تذهب أموال الودائع؟
من المعروف أن مستوى سعر الفائدة يحدد بدوره تكلفة الاقتراض، ويزيد عبء القروض الجديدة والقائمة، وفي ظل سعر فائدة مرتفع، وانكماش القطاع الخاص المصري بفعل أزمة نقص الدولار وارتفاع التضخم، من المتوقع أن يقلل ذلك من الطلب عليه لتكبدهم أعباء فوائد أكبر، ويفكر العملاء كثيراً قبل الإقدام على هذه الخطوة.
لكن اقتراض هذه الودائع يأتي من البنك المركزي، حيث تقوم البنوك بإقراض الدولة من خلال منحه الودائع التي لديه بمتوسط سعر فائدة أعلى من الفائدة المقدمة للمودعين، بالإضافة إلى قيام البنوك بشراء أدوات الدين من الحكومة المصرية؛ مما يؤثر بالسلب على الاقتصاد المصري.
في الآونة الأخيرة استحوذت البنوك المصرية على شراء معظم الطروحات المعروضة من أذون وسندات الخزانة مقابل متوسط سعر فائدة مرتفع يصل إلى 23%، وإن كانت تطلب رفع الفائدة أكثر من هذه النسبة.
كيف تربح البنوك من أزمة الاقتصاد المصري؟
إذاً تقوم البنوك المصرية بأخذ أموال المودعين وتقرضها للدولة بنسبة مخاطر شبه منعدمة، لتحقق بذلك أرباحاً تاريخية من فروق الفائدة، ونمو الأرباح الأكبر لهذه البنوك لم يأتِ من النشاط الأساسي وهو الإقراض للأنشطة الاقتصادية المتنوعة والوساطة المالية، والاستثمار في القطاعات الاقتصادية داخل السوق.
نلاحظ أن معظم البنوك العاملة داخل مصر أعلنت في نهاية عام 2022 عن أرباح تاريخية في ميزانيتها، بالرغم من أن الاقتصاد المصري كان خلال هذا العام يواجه أزمة ضاغطة، أدت لخسارة العملة المصرية نحو نصف قيمتها.
في البيانات التي أعلن عنها البنك المركزي خلال العام الماضي، نجد أن البنوك المصرية قد حققت صافي أرباح بلغت 58.9 مليار جنيه خلال النصف الأول من العام.
وفقاً للمركزي المصري، فإن صافي دخل البنوك من الفوائد بلغ 141 مليار جنيه وصافي إيرادات النشاط وصل إلى نحو 171.5 مليار جنيه. واستحوذت أكبر 5 بنوك على 36.5 مليار جنيه من صافي الأرباح فيما كان نصيب أكبر 10 بنوك نحو 44.2 مليار جنيه.
ومدعومة من أرباح ارتفاع الفائدة، تجاوزت أصول البنوك في يونيو/حزيران من العام الماضي نحو 10.037 تريليون جنيه.
كما بلغ حجم استثمارات البنوك في أدوات الدين الحكومية، ومنها أذون الخزانة نحو 3 تريليونات و739 مليار جنيه.
عند النظر إلى أرباح البنوك العاملة داخل القطاع المصرفي المصري، نجد أن البنك التجاري الدولي أكبر البنوك الخاصة في مصر، والذي تخارجت منه الحكومة المصرية لصالح الإمارات، قد ارتفع صافي ربحه بنسبة 17% على أساس سنوي في الربع الرابع من عام 2022 ليبلغ 3.95 مليار جنيه.
كما حقق البنك إيرادات تقارب عشرة مليارات خلال نفس الفترة، بزيادة مقدارها 41% على أساس سنوي. وارتفع صافي ربح البنك بنسبة 21% على أساس سنوي في العام المالي 2022 ليصل إلى 16.1 مليار جنيه. وارتفعت الإيرادات بنسبة 23% لتصل إلى 32.9 مليار جنيه.
بدعم من ارتفاع في صافي دخل الفوائد، نمت محفظة قروض البنك بأكثر من الثلث خلال العام لتصل إلى 222 مليار جنيه. كما نمت الودائع بنحو الثلث على أساس سنوي لتسجل 530 مليار جنيه.
فيما تصدر بنك أبوظبي التجاري قائمة البنوك الخليجية العاملة في السوق المصري من حيث سرعة نمو الأصول، بعد أن نجح البنك في تحقيق نمو قياسي بنحو 33.70% في محفظة أصوله، لترتفع إلى 64.65 مليار جنيه بنهاية يونيو/حزيران 2022، مقابل 48.36 مليار جنيه بنهاية عام 2021، بزيادة قدرها 16.3 مليار جنيه.
أرباح خيالية يدفعها المواطن
نجد أن البنوك تأخذ أموال المودعين وتقرضها للدولة التي تنفقها وتدفع تكلفة الفائدة المرتفعة من الضرائب التي يدفعها نفس المودعين بصفتهم مواطنين، وتحقق البنوك الخاصة والأجنبية العاملة داخل مصر أرباحاً هائلة ويحصل مديروها على مكافآت باهظة.
كل ذلك في ظل أزمة غير مسبوقة يعيشها الاقتصاد المصري وحزمة من الضغوط المتزايدة، ووسط ارتفاع مؤشر التضخم الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تخطى 40%، مع توقعات بانخفاض العملة لتصل إلى نحو 35 جنيهاً مصرياً.
وعلى الرغم من أن أسعار الفائدة تحدد بشكل أساسي حجم الفوائد التي ستدفعها الدولة على ديونها الداخلية، وهو ما يؤدي إلى تفاقم أزمة الديون وزيادة حصتها وجعلها تبتلع الموازنة العامة للدولة، وبحسب وزير المالية محمد معيط، فإنه في كل مرة يقوم البنك المركزي فيها برفع أسعار الفائدة نقطة مئوية واحدة، فإن عبء الديون يزيد بنحو 30 مليار جنيه.
يظهر الواقع الحالي أن ارتفاع أسعار الفائدة على مدار عام لم ينجح في تحقيق هدفه الأساسي في كبح التضخم، بل استمرت الفجوة بين المعدلين في الاتساع. وعلى الجانب الآخر يرى الخبراء أن ارتفاع التضخم ليس نتيجة توافر السيولة الضخمة لدى المواطنين، ولكنه يعود إلى التخفيضات المتتالية في قيمة العملة، وأزمة شُح الدولار التي ألقت بظلالها على صعوبة توافر السلع وتعطيل مواد الإنتاج الضرورية.
إضافة إلى أن رفع معدلات الفائدة يؤثر بالسلب على الاستثمار، حيث يدفع الاقتصاد إلى الركود التضخمي، والذي يعني معدلات تضخم مرتفعة يصاحبها تباطؤ في النمو، لأن رفع أسعار الفائدة يعني خفض الطلب الاستثماري، وبالتالي خفض معدلات التشغيل والإنتاج لدى القطاع الخاص وزيادة البطالة بسبب ارتفاع تكلفة الاقتراض.
وليس من المستبعد أن تقوم الشركات العاملة في القطاع الخاص بخفض حجم أعمالها تحت ضغط الأزمة الحالية، وقد تلجأ إلى إيداع أموالها في البنوك للاستفادة من الفائدة العالية التي تمنحها البنوك.
وإذا استطاعت الشركات الاقتراض في ظل المستويات المرتفعة للفائدة، فإنها ترفع تكلفة المنتج أو السلعة على المستهلك النهائي. لذا فإن الرفع المتتالي رفع أسعار الفائدة يؤدي كما نرى إلى زيادة معدلات التضخم أو بقائها ضمن مستويات مرتفعة.
لماذا أصبح الاقتراض من البنوك صعب المنال؟
حتى مع اعتماد الحكومة المصرية على الاستدانة المستمرة من البنوك، عبر بيع أذون خزانة وسندات مالية بعائد مرتفع يصل إلى 23%، وتستحق السداد في مدى أقربه 3 أشهر وأقصاه سنة، وكما أوضحنا فقد بلغ حجم استثمارات البنوك في أدوات الدين الحكومية نحو 3 تريليونات و739 مليار جنيه خلال عام 2022.
ولكن بالرغم من ذلك، فقد تقلص إقبال البنوك المصرية على أدوات الدين بحسب وكالة بلومبرغ، وخلال المزاد الذي عقدته الحكومة يوم الإثنين باعت خلاله جزءاً ضئيلاً من السندات المعروضة للبيع، فقد بيع ما قيمته 1.09 مليون جنيه فقط من الأوراق المالية لأجل ثلاث سنوات، وهو أقل مبلغ جمعته على الإطلاق من بيع سندات محلية.
قد شكّل المبلغ ما نسبته 0.04% فقط من 3 مليارات جنيه قيمة الأوراق المالية التي تم طرحها. حيث تلقت عرضاً واحداً في المزاد عند 21.7%، فيما طالب بقية المستثمرون بعائد يصل إلى 28%.. وبسبب تراجع الطلب على أدوات الدين بالعملة المحلية المصرية، فقد ارتفعت العائدات إلى مستويات قياسية.
كانت الحكومة المصرية تعتمد بشكل أساسي على البنوك المصرية، في ظل إحجام المُدينين الأجانب على الاستثمار في أدوات الدين الحكومية، وهروب نحو 25 مليار دولار من هذه الأموال في بداية العام الماضي.
وترى الوكالة الأمريكية أن سبب تراجع طلب البنوك على أدوات الدين الحكومية المطروحة يعود إلى التوقعات التي تُفيد بأن الدولة قد تضطر إلى خفض قيمة عملتها للمرة الرابعة خلال الفترة المقبلة، وفي ظل اتساع الفارق بين قيمة الجنيه المصري في السوق السوداء مقابل الدولار مقارنة بالسعر الرسمي المحدد.
وفي ظل القلق من تفاقم التضخم الذي ارتفع إلى 40% في فبراير/شباط. قامت الشركات بالتحوط ضد احتمال إقرار خفض قيمة الجنيه في سوق العقود الآجلة غير القابلة للتسليم، إذ تراجعت عقود العملة لأجل 12 شهراً نهاية هذا الأسبوع لتتجاوز 41 جنيهاً للدولار، وذلك للمرة الأولى على الإطلاق وفقاً لبلومبرغ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.