تحقيق العدالة السبيل لنهضة الشعب.. شعار “حمّودة باشا الحسيني” أثناء حكم تونس منذ أكثر من قرنين

عربي بوست
تم النشر: 2023/04/03 الساعة 13:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/04/03 الساعة 13:43 بتوقيت غرينتش
احتجاجات في تونس ضد قرارات الرئيس قيس سعيد/ رويترز

حينما يقوم بعض السياسيين بسبّ الشعب وتحقّيره وامتهانه قائلاً فيه ما لم يقل مالك في الخمر، موجداً فيه هدفاً سهلاً لصبّ الغضب وشفاء الغليل وشعور بالفوقيّة، ومطيّة للتنصّل من المسؤولية والتغطية على العجز والانحراف والفشل، وتذهب حدّ القول باستحالة صلاحه.

دعني أسرد وأذكّر أن شعوباً كثيرة ممّن تستحضر للمقارنة حملت أو حمّلت في وقت من الأوقات حيث ساد الظلم جملةً من الصفات التي تكيل من جهل وكسل ورعونة وفوضويّة وتواكل، وكانت الطبقة المسيطرة ونخبتها تحصرها في الطبقات الدنيا والفئات الشعبية لتحمّلها الخطايا وترفع عنها الأهليّة، وهو ما كان أداة المحتلّ لتبرير غزوه واستباحة الشعوب ومقدّراتها.

كانت الشعوب الأوروبيّة ضمن خانة هذه الأوصاف حتّى في الفترة الحديثة المبكّرة على غرار الفرنسيين الذين صاروا شعب "الثورة الملهمة وبلد الأنوار"، والإنجليز الذين غدوا مثالاً في الانضباط والألمان إلى فترة متأخرة أضحوا فيها مضرباً للمثل في العمل الدؤوب والذكاء.

ستجد نفس الصفات في شعوب شرق آسيا، أجل اليابانيّون أو ما يسمّى الآن إعجاباً بـ"كوكب اليابان" والكوريون أو ما يعرف بـ"المعجزة الكوريّة" والصينيّون أو ما صار يعرف "المارد الصيني" أو غيرها، أو الشعب الأمريكي الذي حمل صفة الهمجية ردهاً من الزمن، وحمّلت الطبقة المسيطرة فيه صفة الكسل والغباء لطبقة الخدم وطبقة العبيد.

فقبل أن تتحرّر كلّ هذه الشعوب طغى عليها في زمن ما سلوكٌ وصفات سلبيّة ذميمة، لكنّها انتظمت وانبرت للعمل والإنجاز الحضاري عندما وجدت قوى فاعلة آمنت بها وأرست بمعيّتها نظاماً على قدر من العدالة والانضباط، ثم راحت تحتلّ بلداننا ملصقة بشعوبنا تلك الصفات الشنيعة بمنحى تأبيدي ورثه عنها حكّام دول ما بعد الاحتلال المباشر ونخبهم وامتدّ للأسف بشكل أو بآخر عند التيارات المعارضة الصاعدة.

حكم حمّودة باشا الحسيني لـ

للتفنيد في تونس لن أعود لفترة العصر الذهبي للحضارة الإسلاميّة اجتناب تحجّج البعض أنّها زمن بعيد ولّى، لكن سأتوقّف عند فترة زاهية عرفها الشعب التونسيّ في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر زمن حكم "حمّودة باشا الحسيني" أهمّ من حكم تونس منذ الغزو الإسبانيّ، وقد كان مولعاً بمقدّمة ابن خلدون متأثراً بها فأرسى منظومة حكم عادلة وضرب على يد الظلمة والمفسدين، وكان قريباً من الشعب نصيراً له أميناً على ماله وأرزاقه حاثاً على العمل.

بالفعل انتظم الشعب في عهد "حمّودة باشا الحسيني" وأمن وانبرى للعمل والإنجاز في كلّ المجالات، حتّى كانت البطالة في أيّامه سُبّة، غير أنّ نظامه ذاك لم يدم بعد وفاته لأسباب ليس هذا محلّ ذكرها، بل المراد درء الأوصاف الشنيعة عن الشعب والبحث عن قوّة أو نخبة منضبطة تؤمن به.

حمودة باشا الحسيني – موقع ويكيبيديا

حاكم تونس محمد المنصف باي

لقد آمن حاكم آخر لتونس وهو "المنصف باي" بالشعب وضحّى لأجله، فكان نتاج ذلك انتظام النخب والشعب في حركة جارفة قضّت مضجع المحتلّ الفرنسيّ حتّى قال المقيم العام الفرنسي "جون مونس": "شاهدتُ في ذلك اليوم شعباً (تونسياً) يولد"، قبل أن يتحايل عليها المحتلّ في عهد الحبيب بورقيبة؛ حيث كان المحتل الفرنسي يرى الشعب مجرّد غبار من الأفراد.

لقد انهارت تطلّعات الشعب التونسي في استقلال التام ووجد إرادته تسلب بحرب أهليّة استقوى فيها بورقيبة بفرنسا، وانتخابات مزوّرة، وقد جعلت هذه الخيبة طباعاً قبيحة تعاود البروز، عرّج عليها مجلس الوزراء في مايو/أيار 1956 إذ لاحظ أن "التفسّخ الأخلاقي والانحلال في الآداب العامّة قد ساد في البلاد منذ عدّة شهور وتفاقم بوجه خاصّ في المدن، واتخذ أشكالاً عديدة، منها سوء السلوك في الشوارع والسكر العلني وسهولة الالتجاء إلى الكلام البذيء والسباب والمضايقة الشفويّة للنساء في الشوارع والفتيات عند خروجهنّ من المدارس".

محمد المنصف باي – موقع ويكيبيديا

هذه المظاهر لحظتُ تفشّيها كذلك بعد ثورة 2011، بعد عدّة أشهر، حيث زالت "السذاجة الثوريّة" وحضرت الخيبة لعدم تغيّر الوضع، لا أغيّب هنا أنّ أيّام الثورة والانفلات الأمني عرفت نهباً للمحلّات التجاريّة يندى له الجبين، لكن أيّاماً بعدها، بعد انحياز الجيش إلى صفّ الشعب، تنامى الشعور بالاعتزاز، والتآزر لحماية المناطق السكنيّة، حضرت الابتسامة والأمل، ذلك لم يدم طويلاً، إذ أعادت المنظومة القديمة ترتيب أوراقها، وراهنت مجدّداً على اليأس والتغييب.

لقد حاول الشعب مجدّداً استعادة اللحظة الثوريّة في 2019 ملتفاً حول قيس سعيّد بسبب شعاراته المحافظة الموالية للثورة والشعب، ومصعّداً الأحزاب المحسوبة على الثورة وذات الشعارات الثورية في الانتخابات التشريعيّة. 

سادت مظاهر من الفخر والأمل، غير أنّ الأحزاب لم تلبث عاودت الغدر بالشعب وانحرفت عن مطالبه فانتفض ضدّها، ليستغلّ سعيّد الوضع وينقلب عليها ومن ثمّ انحرف هو بدوره وهادن المنظومة القديمة.

لكن مع توالي الكبوات والهزائم درج استسهالٌ بشع لإلقاء العبء والمسؤوليّة على الشعب وسبّه وتحقيره ولومه عن كلّ عجز وخطأ، حتّى تفشّى بين العوام سبّ الشعب أو بالأحرى سبُّ وجلد ذواتهم بالقدح والسخرية من شعب هم منه، بما رهّله وساقه إلى نوع من الفوضى والعبث. يشمل الرمي بالمسؤوليّة كلّ المجالات؛ من السياسة إلى أدنى السلوكيّات اليوميّة، تتفصّى منها القوى والنخب العاجزة والفاسدة بتحويل وزرها إلى الشعب وحده، مستمدّة من ترذيله أحقّيتها بالعلويّة عليه ومسوغ انحرافاتها وممارساتها الدنيئة تجاهه.

والقول هنا ليس نفياً للمسؤوليّة عن الشعب بل بحثاً عن توازن سليم فيها بين القوى أو النخب وقواعدها أو جماهيرها يقع فيه الحيّز الأكبر من المسؤوليّة على كاهل القوى الفاعلة تتقصّى بموجبه مردّ الخطأ والعجز والانحراف عندها، وسبل تلافيه حتّى تبقى عند ضابط قيمي أخلاقي على قدر من الصرامة يكون المثال والقدوة للشعب ليندمج في مشروعها ويمثّل قوّته الدافعة بما يخوّل لهذه القوى الاضطلاع بمهمة القيادة والبناء، أمّا الجنوح إلى رمي الوزر على الشعب والحط من شأنه فضربٌ لعزوة وجودها وأداتها في البناء.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالمنعم حواس
كاتب تونسي
سيناريست وكاتب تونسي
تحميل المزيد