تواصل الحركة الاحتجاجية في فرنسا غضبها ضد مشروع قانون التقاعد للرئيس إيمانويل ماكرون في مسيرات كثيفة تشهدها أهم المدن الكبرى والوسطى عبر كامل التراب الوطني، ما زاد من شدّة الاستقطاب السياسي والاجتماعي لدى الطبقة السياسية؛ وتعد هذه الاضطرابات الأعنف منذ عقود، ما جعل المتتبع للشأن الفرنسي يتساءل: كيف سوف تنتهي هذه الاحتجاجات؟ وما مدى تداعياتها الاقتصادية والسياسية والأمنية؟ علماً بأن صورة فرنسا على الصعيدين الأوروبي والدولي تضرّرت كثيراً بسبب استمرار هذه الحركة الاحتجاجية التى شوّهت على سبيل المثال سمعة مدينة باريس "الرومانسية"، وهذا بعد الإضراب المفتوح لعمّال النظافة، والذي دام أكثر من أسبوعين، ما جعل مدينة الجن والملائكة تتحوّل إلى مكب للنفايات.
حينها يواصل الرئيس الفرنسي استراتجية العصا والجزرة في إدارته للأزمة الاجتماعية التى تعيشها فرنسا منذ أكثر من شهرين، وهذا منذ قراره بالسماح لرئيسة الوزراء إليزابيث بورن باللجوء إلى المادة 3-49 من الدستور، والتي تسمح بتمرير نص مشروع قانون تتقدم به الحكومة من دون التصويت عليه في الجمعية الوطنية. في هذه الحالة، كون حزب النهضة الحاكم يتمتع بأغلبية نسبية في الجمعية الوطنية لا تمكنه من كسب أغلبية مريحة، فبالتالي باتت حكومة إليزابيث بورن رهينة في يد حزب الجمهوريين المنقسم بين جناح يمين حزب الرئيس إيمانويل ماكرون وجناح أكثر تشدّداً وميولاً تجاه حزب اليمين المتطرف، التجمع الوطني، أي حزب آل لوبان.
لغز المادة 3-49 من الدستور وتعنّت الرئيس ماكرون
أصبحت المادة الدستورية 3-49 الرقم الصعب في معادلة الصراع بين الرئيس إيمانويل ماكرون والحركة الاحتجاجية من جهة والمعارضة من جهة أخرى، ما نتج عنه أزمة سياسية لا أحد يعرف مآلاتها السياسية في الأسابيع والأشهر القادمة. سارعت المعارضة البرلمانية إلى اقتراح بسحب الثقة للإطاحة بحكومة بورن فور الإعلان عن استعمال رئيسة الحكومة إليزابيث بورن المادة 3-49.
حيث خلقت المادة 3-49 من الدستور الفرنسي أزمة سياسية، وأصبحت نقطة الخلاف بين الرئيس الفرنسي والمعارضة من جهة وأغلبية واسعة في المجتمع الفرنسي. يعتقد أن الرئيس ماكرون في حالة نكران مستمرة تجاه المعارضة البرلمانية والأغلبية الواسعة ضد قانون إصلاح التقاعد الذي تصفه الحركة الاحتجاجية بغير العادل والجاحد لحقوق العمال. شدّد الرئيس إيمانويل ماكرون في لقائه النادر مع وسائل الإعلام الفرنسية على أنه لن يتراجع أمام إصرار المحتجين، ولن يرضخ لطلب اتحاد النقابات بسحب القانون، ولن يرضخ للعنف.
العنف الذي طال معظم المدن الفرنسية الكبرى، وكأن هذه المدن تعيش انتفاضة شعبية ضد قوات الأمن والقوات المحاربة للشغب في مدينة باريس التي دخلت ليلتها العاشرة في مسيرات احتجاجية ليلية سلمية، وغالباً ما تنتهي هذه المسيرات باشتباكات عنيفة بين قوات حفظ الأمن وعناصر من الشباب الغاضب ضد تعنّت الرئيس إيمانويل ماكرون.
عادة، تندلع أعمال العنف والاستعمال المفرط للقوة في قمع المتظاهرين من قبل رجال الشرطة في ضواحي المدن الفرنسية الكبرى، والذي يصوّر هذه الأعمال بصورة نمطية إعلام ونخب اليمين المتطرف، بالإضافة إلى الشباب القاطنين بهذه الضواحي، ليست ضواحي مدينة باريس أو التاج الباريسي la Couronne على سبيل المثال ومقاطعة Seine-Saint-Denis خصوصاً التي تعيش فيها كثافة كبيرة للجالية العربية والمسلمة من أصول مغاربية ودول الساحل والغرب الإفريقي.
منذ اندلاع أعمال العنف والشغب والصدام بين المحتجين وقوات الأمن بالمدن الفرنسية، بدأ بعض الإعلاميين وخاصة المذيع باسكال برو في القناة الإخبارية C-News صاحبة الخط التحريري المساند لأفكار اليمين المتطرف والمعادي للمهاجرين والمسلمين. أين هم شباب الضواحي في المسيرات التي ينظّمها اتحاد نقابات العمّال؟ يتساءل الصحفي!
عدد هائل من العرب والمسلمين يعيشون في الضواحي، إن العنف أصبح في المركز وليس في المحيط، أي في الأحياء الراقية وليس في الأحياء الفقيرة، دون الخوض في موضوع فلسفي، إنّ ما يدور في المركز هو بالضرورة يعني أصحابه، كما يبقى العرب والمسلمون في المحيط أو الأطراف يشكلون كتلة هائلة في عالم الشغل في فرنسا. نسي باسكال برو أن هذه الضواحي كانت تسمى في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بأحياء العمّال Cites des ouvriers، كان باسكال برو، وهو صحفي رياضي، منبهراً بفنيات ومراوغات مصطفى دحلب في فريق باريس سان جرمان PSG، وأحد أساطير الكرة الجزائرية في ثمانينيات القرن الماضي، المنحدر من أسرة مهاجرة، كان والده عاملاً بمدينة فلوهمنت في مقاطعة الأردين بشرق فرنسا (Flohimont, les Ardennes)، لكن باسكال برو نسي بسرعة أن والدي مصطفى دحلب والأسطورة زين الدين زيدان ومئات الآلاف من أمثالهم ساهم في بناء وتشييد فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية دون أن يلتحقوا بأية مسيرة. (ممكن بعضهم عاش أحداث اضطرابات شهر مايو/أيار1968).
سؤال باسكال برو لم يكن بريئاً، كأن الشباب العربي والمسلم من أصول مغاربية هذه المرة التزم الصمت، وليس كما اعتاد عليه الإعلام الفرنسي المعادي للمهاجرين العرب والمسلمين أن يصوره بذلك الغول المتوحش ضد فرنسا البيضاء وقيمها "المتحضرة". الجالية المسلمة والعربية هي أيضاً معنية بقانون إصلاح نظام التقاعد للرئيس إيمانويل ماكرون، وهي أيضاً مع الأغلبية الواسعة ضد هذا القانون في الشارع، ومع المضربين؛ عدد كبير منهم منخرط في نقابات العمّال، خاصة نقابة الكونفدرالية العامة للعمّال CGT في قطاع تركيب السيارات في المصانع والسكة الحديدية، أيضاً هم منخرطون في نقابة الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمّال CFDT في قطاع التوظيف العمومي وقطاعات أخرى.
شباب وكهول يريدون العيش الكريم هم في المسيرات مع باقي أقرانهم، يحتجون ضد قانون الرئيس ماكرون، أضف إلى ذلك نضال عنصر الشباب المسلم العربي، والذي فاجأ المحللين بسبب نضج وبلاغة هؤلاء الشباب على غرار إيمان ولحاج رئيسة الاتحاد الوطني للطلاب بفرنسا L'UNEF.
إنّ أبناء الجالية العربية والمسلمة أثبتوا وجودهم بأنهم فرنسيون لهم حقوق وعليهم واجبات كأبناء باسكال برو وضيوفه، هم كذلك معنيون بقانون الرئيس ماكرون على عكس باسكال برو الذي يدافع عن السياسة الاقتصادية الليبرالية وسياسة الرئيس ماكرون ووزير الداخلية في قمع المتظاهرين وفي تعزيز الخطاب الفرنسي الرسمي الذي غذى خطاب الهوية الوطنية الاستقصائي، وتعميم الإسلاموفوبيا في الفضاء العام.
المركز والأطراف
إنّ الربط بين الحركة الاحتجاجية التى تعرفها فرنسا هذه الأيام وشباب الأحياء، كما يسميه الإعلام الفرنسي، وقادة أحزاب اليمين المتطرف، الغريب في الأمر هو أنّه حتى رئيس حزب اليمين المتطرف التجمع الوطني RN ينحدر من الضاحية بمقاطعة Seine-Saint- Denis 93 جوردان بارديلا من أصل إيطالي.
العشرات من أبناء المهاجرين من الجيل الأول والثاني، بدأوا يغادرون المحيط/الطرف، أي أحياء الضواحي، والنزوح نحو المدن المتوسطة المجاورة، وليسوا كجوردان بارديلا الذي التحق بالدائرة الفضيلة بآل لوبان بالبلدية الثرية Saint-Cloud بباريس، أي المركز. علماً بأنه لما نشير إلى المركز والمحيط فبالتأكيد ثمة إشارة ضمنية لنظرية سمير أمين الاقتصادية "نظرية المركز والأطراف"؛ وبناءً على هذا، كتب سمير أمين عن الإمبريالية والتطور اللامتكافئ (منشورات منتصف الليل – باريس – 1976)، إلى أن انخراط الأطراف غير الغربية بالمركز المسيطر لا يمكنه أن يتحقق إلا عبر ظهور مراكز أخرى، لأن تطور الأطراف تصده أنظمة التبادل غير المتكافئ. وبالتالي لا يمكن لاقتصادات الأطراف أن تخرج من الحلقة المفرغة للتبعية إلا عبر إطلاق أنماط تطور لها مركزيتها الخاصة.
حينئذ، ومن وجهة نظر سمير أمين في نقده للتجربة الشيوعية السوفييتية والماوية الشاملة، فبالإمكان الإشارة هنا إلى الشباب المتعلّم من أبناء الضواحي بفرنسا، وبفضل تعلّمهم والحصول على شهادات عالية تؤهلهم لخوض معركة الحياة المهنية في شتى الميادين، رغم السياسة العنصرية التي يعيشونها في مسار توظيفهم، لكن هم الآن في مراكز شغل تتماشى ومؤهلاتهم العلمية والمهنية، مثلاً ترى مقاولين وأصحاب شركات ومحامين وأطباء ومهندسين، طبعاً ورياضيين وفنانين محترفين عالميين… إلخ. هذا ما جعل هذه الفئة تصبح قوة اقتصادية، وتخلق طبقة وسطى مستقرة في محيطها مندمجة كلياً مع النمط الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع الفرنسي؛ كما خلقت ثروة اقتصادية استطاعت بفضلها أن تقتل التفكير النمطي السائد لدى غالبية الفرنسيين تجاه الآخر عموماً وتجاه أبناء المهاجرين من الأصول المغاربية على الخصوص.
صحيح، تبقى الجالية العربية والمسلمة التي تعيش في هذه الضواحي الفئة الهشة في المجتمع الفرنسي، هذا ليس لكونها كسولة، بل بسبب السياسات العامة التهميشية ونقص تقديم التوجيه الصحيح من أجل إدماجهم بطرق ثقافية قائمة على احترام مبادئهم وقيمهم كما تنص عليه مبادئ الجمهورية الفرنسية. حيث يبذل أبناء الجالية العربية والمسلمة جهداً كبيراً، وهم عدد كبير في الوظائف التي لا يريد الفرنسي الأبيض أن يقوم بها، ترى هؤلاء العرب والأفارقة من دول الساحل والغرب الإفريقي في الصفوف الأولى لهذه الأعمال الشاقة، مثل عمال النظافة وفي القطاع شبه الطبي والفنادق والمطاعم.
الخلاصة، ليس جميع أبناء الجالية العربية والمسلمة درسوا لسمير أمين أو حتى سمعوا به، رغم أنه كان مفكراً فركوفلياً معتدلاً، عاش ودرس ودرّس بباريس، أي بالمركز، لكن عفوية وضرورة سيرورة حركتهم جعلت المبادئ المثالية لأفكار سمير أمين تغيّر مفهوم العيش والشغل عند هؤلاء الشباب الذين ليسوا بماركسيين ولا بماويين، بل حتى ليسوا بإخوانيين كما يصوّرهم إعلام اليمين المتطرف في فرنسا، هم كباقي الملايين الأخرى التي خرجت في المسيرات ضد قانون الرئيس ماكرون للتقاعد، الذي تراه جاحداً في حقها العمّالي.
تبقى الجالية العربية والمسلمة من أصول مغاربية ومن دول الساحل والغرب الإفريقي منقسمة بين: ضد قانون ماكرون ومع قانون ماكرون، والبعض الآخر اتركوني لحالي.
على العموم، هذا هو حال أغلبية المهاجرين العرب والمسلمين، دخلت فرنسا في حلقة الانسداد السياسي والفوضى الاجتماعية بسبب لجوء الرئيس إيمانويل ماكرون إلى المادة 3-49 من الدستور، والتي تعد انكساراً له، جاعلة إرثه السياسي في ولايته الثانية على المحك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.