في مارس/آذار تخضرُّ الأرض، ويفيض الماء من بين الصخور، وتتفتح الأقاحي، والزنابق، والشقائق، وتختال العصافير والفراشات والحشرات الجميلة التي تكتمل دورتها وتكمل دورة الحياة، وتبتسم الطبيعة بسمة ملونة مزركشة شذية يصبغها اللون الأحمر والأبيض والأخضر والأسود بالحب والحياة والينع والصفاء.
في مارس/آذار تفيض أرواح الشهداء إلى خالقها، وترتوي الأرض من دمائهم، وكأنها تتعطش لتلك الدماء حتى تنبت مكان كل شهيد شقيقة من شقائق النعمان الحمراء المتأنِّقة، التي تتفتح على سفوح الجبال وتفترش السهول شامخة برؤوسها، برغم الدمعة السوداء في قلبها، والتي أبداً لا تفارقها.
وتراها قبل أن يأتي فصل الجفاف، تجفف بذورها وتذروها في الهواء، عله يحملها إلى أبعد مكان يمكنه بلوغه، لتنبت في العام المقبل أحفاد صغار ينطبع في تركيبهم لون دم الشهداء ورائحته.
في مارس/آذار تستعد الأرض للدخول في مخاضها العسير، لتلد الثوار المنتفضين والشجعان والأبطال، أبناءها الذين ينتمون لها، ويفدونها بأرواحهم.
وفي مارس/آذار في يوم التلفظ الأرض الذل والعبودية، مُقْسِمَة أن الموت خير من أي حياة ذليلة، فيستجيب الرجال لذاك القسم فيقاومون بكل ما أوتوا، حتى ولو بصدورهم العارية.
كيف لنا أن نعيش أذلاء بعد ذلك ونحن أبناؤك؟
تكتظ ذاكرة الأرض الفلسطينية المباركة بأسماء الشهداء، ويتعطر التاريخ بسيرتهم الشذية، وتكتسي الرجولة ببعضٍ من شجاعتهم.
يأتي تاريخ 30 مارس/آذار من كل عام يوم الأرض الفلسطيني دون أن أجده يرتوي من دمائهم، مصرَّاً على أن يصحب معه قبيل رحيله المزيد منهم، فالجنات في شوق عظيم لهم، والسماء بانتظارهم لتحتفي بحضورهم، تودعهم الأرض وهي تتخضب بدمائهم، وينتفض قلبها فرحاً بأرواحهم التي قدموها مهراً لها فتنثر الورود الحمراء على أضرحتهم، وتعدهم أن تملأ الوادي سنابل وثوَّاراً قبل أن يقبل مارس/آذار مرة أخرى.
في يوم الأرض الفلسطيني، تتشح الأرض بالخضرة، فهي أبداً لا تتَّشح بالسواد، حتى وإن لم يكن الأخضر لون الحزن والحداد، فالأرض تحزن إذا استرخى الرجال عاجزين مهزومين، وتنظر ثوارها الذين لا يهدأون ولا ينامون ولا يسترخون، ولا يدعون الأعداء يعرفون طعماً للنوم أو الراحة أو السكينة، ففي بلادنا فلسطين لا أمن لكم ولا أمان؛ فبلادنا جحيم ولظى على من اعتدى علينا.
يوم الأرض
يوم الأرض هو يوم يُحييه الفلسطينيون في 30 مارس/آذار من كلِ عام، وتَعود أحداثه إلى مارس/آذار عام 1976 بعد أن قامت السّلطات الصهيونية بمصادرة آلاف الدّونمات من الأراضي ذات الملكيّة الخاصّة أو المشاع في نطاق حدود مناطق ذات أغلبيّة سكانيّة فلسطينيّة.
وقد عمَّ إضراب عام ومسيرات من الجليل إلى النقب، واندلعت مواجهات أسفرت عن سقوط ستة فلسطينيين وأُصيب واعتقل المئات.
يعتبر يوم الأرض حدثاً محورياً في الصراع على الأرض وفي علاقة المواطنين العرب بالجسم السياسي الصهيوني، بحيث يُنظم فيها العرب في فلسطين احتجاجات منظمة رداً على السياسات الصهيونية بصفة جماعية وطنية فلسطينية.
مارس/آذار أتى محملاً بالوعود، ويكاد يرحل وقد غرس بذور الحرية والكرامة والعزة في رحم الأرض، وما هي إلا سنة أو بعض سنة وسيهتز النوى، وينبت ويخضر ويورق ويبرعم.. ولن تتوقف مسيرات الشهداء عن المسير والارتقاء سينظرون بسرور وفرح من السماء حين نلتقي جميعاً في عرس الأرض يوم نصرنا.
في يوم الأرض الفلسطينيون صامدون
في مارس/آذار هذا العام نابلس تنزف وجنين أيضاً والقدس والخليل وبيت لحم وطولكرم وقلقيلية وكل مناطق فلسطين يسقط الشهداء والجرحى، ولكن هذا الشعب يأبى الاستسلام ويؤمن بالنصر؛ لأنه وعد من الله؛ لذا تراه يتابع الطريق.
يأتي يوم الأرض هذا العام مضرجاً بالدماء مرة أخرى بالضبط مثلما حدث قبل 47 عاماً، فالشعب الذي انتُهك عرضه، وسُلبت أرضه، وسُرق حقه في الحياة والحرية هل تعتقدون أنه يسكت؟ يستسلم؟ يتنازل؟ أبداً!! برغم موجات التطبيع التي تحاول إخفاء الوجه شديد القُبح لدولة الاحتلال.
كما هي عادة المحتل دوماً يسلب ما ليس من حقه ويُظهر أقصى ما بوسعه من القمع والقتل والتنكيل ظناً منه أن الضحية ستلتزم الصمت وتتنازل عن حقها. أخذوا يصادرون أراضي الجليل في القرى الفلسطينية التي احتُلت عام 48 وما زال يسكنها فلسطينيون، بحجة أن هذه الأراضي مشاع، رحل عنها أصحابها، ثار الفلسطينيون في كل فلسطين من الجليل في الشمال إلى النقب في الجنوب وأعلنوا عن إضراب عام، وخرجوا في مسيرات ومظاهرات رافضة، وكان ذلك في 30 مارس/آذار عام 1967.
فرض الاحتلال منع التجول على قرى سخنين وعرابة ودير حنا وطُرعان وطَمرة وكابول وداهموا القرى، واعتقلوا أبناء المدن.
ففي هذا اليوم منذ 47 عاماً سقطت خديجة شواهنة في سخنين وهي التي لم تفعل شيئاً سوى أنها خرجت من بيت أهلها تبحث عن أخيها الذي لم يتجاوز الثامنة من عمره، بعد أن سمعت صوت إطلاق النار، لم يتردد جنود الاحتلال في إطلاق الرصاص عليها اخترقت رصاصة ظهرها، سقطت خديجة في ذات اللحظة شهيدة روت الأرض بدمائها.
لم تكن خديجة وحدها الشهيدة في يوم الأرض، لحق بها أيضاً أقمار ستة في عمر الورود، وشاركوها هذا الفضل العظيم، خير أحمد ياسين، ورجا حسين أبو ريا، وخضر عيد محمود خلايلة، ومحسن حسن سيد طه، ورأفت علي زهدي رووا بدمائهم ثرى فلسطين الطاهر.
نبتت أشجار لوز أخذت تُزهر في مارس/آذار من كل عام تُذكِّرنا بهم. هذا إن كنَّا ننسى، وأصرَّت العصافير إلا أن تبني أعشاشها في أماكن الشهداء، وأبت الأمهات إلا أن ينجبن أطفالاً يحملون أسماء الشهداء وشجاعتهم وبطولتهم لأجل فلسطين.
كتب محمود درويش لخديجة شواهنة الشهيدة قائلاً:
أنا الأرض
والأرض أنتِ
خديجة! لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل
وختاماً ستعود فلسطين، فدماء الشهداء مشاعل تضيء طريق النصر والتحرير، وكلما سقط أحدنا اعلموا أننا اقتربنا من نقطة التغيير والتحرير.
التحرير لفلسطين وشعبها والرحمة للشهداء والحرية للأسرى
وآذار يا حبي سيجمعنا*** بعرس الأرض في اليوم الثلاثين
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.