في أواخر شهر يناير الماضي، تعالت الانتقادات ضد حكومة السيد عزيز أخنوش، على خلفية الارتفاع المهول لأسعار الخضر والفواكه واللحوم والدواجن، فتحركت الحكومة في محاولة لاحتواء المشكلة، وبثت في خطابها التواصلي المتأخر 3 حجج، حاولت بها طمأنة الرأي العام، أولاها، حالة الطقس المنخفضة التي تضعف الإنتاج، والثانية، جشع المضاربين، والثالثة، ارتفاع كلفة الفلاح، بسبب تنامي أسعار البذور والأسمدة والآليات الزراعية، وأكدت أن الأزمة ظرفية، وأن الأسعار ستعود إلى حالتها الطبيعية مع الأسبوع الأول من شهر رمضان بفضل الإجراءات التي ستقوم بها.
مع دخول شهر رمضان، تبخرت وعود الحكومة، وزادت وتيرة الارتفاع في الأسعار، على الرغم من حديث الحكومة عن وقف التصدير نحو إفريقيا، وعن حملات شملت المخالفين، ولقاءات متواصلة لوزير الفلاحة مع مختلف الفاعلين في الدورة الإنتاجية والتسويقية، وتبين أن ثمة مشكلة كبيرة، تعمدت الحكومة إخفاءها على الشعب، تتعلق بالتضخم وأسبابه.
بنك المغرب، المؤسسة المستقلة المشرفة على السيادة النقدية بالبلاد، خرج ببلاغ جريء، نسف أطروحة الحكومة بالكامل، فقرر رفع سعر الفائدة إلى 3% من أجل كبح التضخم وارتفاع الأسعار، وقدم توقعاً صادماً لمعدل النمو يقضي على أحلام الحكومة، إذ توقع أن يصل معدل التضخم خلال سنة 2023 إلى 5.5%، أي بما يزيد على توقع الحكومة بثلاث نقاط ونصف (توقعت الحكومة أن يصل معدل التضخم إلى 2% في قانون المالية).
المثير في الموقف أن بنك المغرب نشر البلاغ ثم سحبه، ثم أعاد نشره بعد أيام، ليحدث جدل كبير عن سبب ذلك، وما إذا كانت الحكومة رفعت شكوى إلى الملك من موقف بنك المغرب، الذي يتعارض كلياً مع سياستها المالية، ويقدم خدمة للمعارضة، بالزعم بأن أداء الحكومة يسير في طريق الوهم بالادعاء أن سياستها المالية ستقود إلى خفض التضخم، وأن الطريق لخفض التضخم ينبغي أن يأخذ منحى آخر، شبيهاً بما سلكته بريطانيا ودول أوروبا، بالزيادة في سعر الفائدة، والاتجاه نحو الركود، وليس إلى الإنفاق على الاستثمار ودعم المقاولات.
ثمة معطيات تتحدث عن خلاف جوهري بين الحكومة وبين بنك المغرب، عكسها التناقض بين السياسة المالية للحكومة، وبين السياسة النقدية لبنك المغرب، وأن تحكيماً ملكياً طلب بهذا الخصوص، للحسم في المشكلة.
المفارقة التي زادت الطين بلة، أنه لم يبرد بعد نار بلاغ بنك المغرب، حتى خرج أحمد الحليمي، الذي يدير مؤسسة أخرى مستقلة مكلفة بالتخطيط (المندوبية السامية للتخطيط)، ليصعق المغاربة، ويقول لهم إن ارتفاع الأسعار ليس شيئاً مؤقتاً، وأنه على العكس من ذلك بنيوي، وأن على المغاربة أن يتوقعوا أن يعيشوا سنتين على الأقل على نفس الوتيرة المرهقة، وأن سبب ذلك يعود لشيئين رئيسيين، أن المغرب يعيش أزمة جفاف بنيوية، وأن المخطط الأخضر الذي كان يقوده رئيس الحكومة عزيز أخنوش، لما كان وزيراً للفلاحة في الحكومات السابقة، اتجه إلى التسويق والتصدير إلى الخارج، ولم يأخذ بعين الاعتبار التغيرات المناخية، وتلبية حاجة السوق الداخلي الأساسية، فنتج عن ذلك، أن المنتجين الكبار توجهوا لزراعات كمالية تسويقية موجهة للخارج، في الوقت الذي تحتاج فيه السوق الداخلية للمواد الضرورية.
البعض يعتبر أن بلاغ بنك المغرب، والخرجة الإعلامية للمسؤول عن المندوبية السامية للتخطيط، مجرد جرس إنذار للحكومة، يدعوها بشكل ضمني إلى تعديل سياستها المالية، ربما عبر قانون مالية تعديلي، بهدف إحداث القطيعة مع سياسة دعم المقاولات بقصد تحقيق النمو وامتصاص البطالة، وأن الأولوية ينبغي أن تتوجه إلى محاربة التضخم، وضبط السوق الداخلية، وعودة الأسعار إلى طبيعتها، قبل التحرك في دينامية رفع النمو، لكن في الجوهر، مهما كان أداء المؤسستين (بنك المغرب والمندوبية السامية للتخطيط) مهنياً مستقلاً، فإن الحكومة تواجه بشكل مباشر الأثر السياسي لهذين الموقفين، والذي يعني في صريح معانيه، أن سياسة رئيس الحكومة المالية فاشلة، وأن مخططه الأخضر أدخل المغرب إلى المجهول.
الواقع، أن الحكومة قد تلقت ضربتين موجعتين، الأولى، من جهة تقييم مسار أداء رئيس الحكومة، سواء باعتباره وزيراً سابقاً للفلاحة تقلد هذا المنصب في حكومات متعاقبة، وهو المسؤول الأول عن المخطط الأخضر، أو باعتباره رئيساً للحكومة مسؤولاً عن سياستها المالية.
من الزاوية الأولى، تبدو المشكلة خطيرة للغاية، فالوضعية التي يعيشها المغاربة اليوم، هي بسبب توجهات مخطط أخضر، وجه القدرات الزراعية للمغرب كلها إلى التسويق والتصدير، ووضع السوق الداخلية في آخر الاهتمامات، فأصبح أكبر عيبه، أنه يمد الأسواق الخارجية بالمنتجات المغربية المختلفة، ويترك للمنتجين الزراعيين الفرصة لتوجيه زراعاتهم إلى المنتوجات الكمالية الموجهة للتصدير، في الوقت الذي تعيش فيه السوق الداخلية نقصاً في العرض، هو السبب الرئيس، كما قال المندوب السامي للتخطيط عن ارتفاع أسعار الخضر والفواكه.
ومن الزاوية الثانية، فالسياسة المالية، التي اعتمدتها الحكومة، توجهت إلى استثمار الإيرادات الكبيرة التي يحصل عليها المغرب جراء صادراته في إغناء المقاولات ودعمها، في الوقت الذي تعرف فيه الطبقات الشعبية المتوسطة والدنيا انهيار قدرتها الشرائية، مما يتسبب في ارتفاع التضخم، وتجاوزه عتبة 10% حسب معطيات المندوبية السامية للتخطيط.
هذه الوضعية الحرجة التي تعيشها الحكومة، تجعلها في الواقع أمام كماشتين، إحداهما تتمثل في المؤسسات المستقلة التي تنسف سياستها المالية وتفضح رهاناتها المتجهة لتشجيع تغول نخب المال والأعمال على حساب تفقير طبقات الشعب المتوسطة والدنيا، والثانية في المعارضة التي طالما حذرت من زواج المال بالسلطة، واعتبرت أن رهن الدولة إلى رجال المال والأعمال، سيذهب بها إلى المجهول، ويعرض سلمها الاجتماعي للخطر.
لكن في الواقع، لا يمكن لحكومة مكونة من أحزاب الأعيان، أن تنتج سياسة غير التي أنتجتها، فتركيبتها السوسيولوجية، تدفع في هذا الاتجاه دفعاً، ورئيس الحكومة، لن يكون قادراً على تأمين تماسك حزبه، وتماسك تحالفه، دون أن يوجه السياسات الحكومية لخدمة رجال المال والأعمال، ولذلك، لم يتنبه إلى مخاطر أزمة الجفاف الهيكلية، وما تتطلبه من تعديل جوهري في برامج المخطط الأخضر وسلاسله الإنتاجية، ولم يقرأ الدرس من تجارب الدول الأوروبية وكذلك بريطانيا، التي اتجهت إلى خفض النمو والتقليل من الإنفاق على الاستثمار ريثما يتم التحكم في التضخم وخفض الأسعار، بل أزاح كل هذه الاعتبارات، وتبنى الأطروحة المالية التي تساير الوضع العادي، مع أن بلاده تعيش أوضاعاً استثنائية مركبة (تداعيات كورونا، وتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، وتداعيات الجفاف البنيوي)، فكانت النتيجة المأساوية، هي أن الحكومة، أصبحت تجوع المغاربة، وتمنعهم من منتوجات البلد الزراعية، وتضرب قدرتهم الشرائية، مقابل البحث عن تقوية ميزانية الدولة، وتوجيه عائداتها إلى دعم مقاولات أحزابها.
المعضلة، أن الحكومة، وهي تدخل إلى ميزانيتها بفضل دينامية التصدير أكثر من 200 مليار درهم إضافية، مقارنة مع السنوات الماضية، لم تقم بأدنى إجراء يخفف من ارتفاع الأسعار، ولم تتناول ولو بجزء قليل من رسومها أو ضرائبها بنحو يعود على الأسعار بالانخفاض، واستمرت في دعم المقاولات الكبيرة، في الوقت الذي تواجه فيه المقاولات الصغيرة والمتوسطة شبح الإفلاس بسبب ارتفاع قيمة الفائدة، وصعوبة الاقتراض من البنوك لتأمين استثماراتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.