القديم هو الذهب، يدرك تلك الحكمة من ذاق حلاوة القراءة في التاريخ وتخيله، فمن ذاق عرف، ومن عرف اغترف، لذا فأنا مثل هؤلاء الذين ذاقوا الرجوع في الزمن والتدفق من جديد في حكاية تاريخية أتشوّق لأي دراما تعتد بالتاريخ لها سبيلاً، فمعها يتوقف الزمن ويترك لي الفرصة أن أحيا تلك الحيوات التي أحببتها.
رجعت في مسلسل "الزير سالم" إلى حيث قيل الشعر غضاً طرياً دافقاً بشعوره الحار، ومشيت كل الخطوات في مسيرة مسلسل "عمر" وأحسست بهم الرعيل الأول في الإسلام وشهدت فرحته بنصر الله، وعشت في مسلسلي "ملوك الطوائف" و"ربيع قرطبة" عذوبة الحياة في الأندلس وتضافر الحب مع الحرب في نغمة واحدة، وتدثرت في الليالي الباردة بدفء مسلسلي "زيزينيا والتغريبة الفلسطينية"؛ دفء المدن العتيقة والقرى الواقفة في وجه الريح، فلا عجب إن كانت تلك الدراما هي الأقرب لقلبي، لأنها قادرة على بث شعور قوي بمعايشة حيوات مضاعفة.
جودة الدراما التاريخية في رأيي تنطلق من الكتابة، وهي عملية صعبة ومركبة للغاية، إذ سيكون على الكاتب دراسة ومعايشة السياق التاريخي، اللغة واللهجات والموضوعات ذات الاهتمام، والمنطق الكلامي وروح التواصل الناشئة بين الناس، وقبل كل ذلك التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية للشخصيات، ومن ثم استيضاح المساحات التي سيشتغل عليها الكاتب والتي تتيح له التصرف داخل حدود الحفاظ على السياق التاريخي الموثق، أي استبيان المساحات التي سيعمل فيها إبداع الكاتب وخياله وتلك التي سيتقيد فيها بالمصادر التاريخية كي تكون حكايته مقنعة وأصيلة.
يأتي بعد ذلك دور المخطط السردي الذي ستقوم عليه تلك الحكاية، ثم المعالجة الدرامية له، معادلة لا أظن أن هناك من يستطيع إتقانها سوى القليل من المبدعين أمثال "وليد سيف وممدوح عدوان"، يأتي دور الإخراج تالياً كي يتنزل بالكتابة في أرض الصورة الحية والمشهد المنسوج بإحكام، وتلك عملية خطرة، إذ على المخرج حينها أن يترجم بأمانة روح النص قبل مادته، وأن ينقل إلى الوجود المادي ظلال النص وإيقاعاته، وما يحويه من ألم وانتظارات، أوجاع ومسرات، ولن يستطيع فعل ذلك إلا بفريق تمثيل يستطيع معايشة الشخصيات وتمثيلها بما يناسب سماتها وأبعادها الثقافية والنفسية، وفريق إعداد يجيد تصميم كل التفاصيل وفق توثيق مسبق.
ولعلنا ندرك حين نتأمل تلك المعادلة مدى خسارتنا للمخرج الراحل "حاتم علي"، نحن ومنذ سنوات نعاني من اختفاء للدراما التاريخية المميزة والتي بدأ الاهتمام بها مجدداً منذ العام الفائت، ونلحظ أن هذا الاهتمام لم يأت كمسيرة تكمل ما سبق، بل ربما كتوظيف في السياقات السياسية الإقليمية كما هو ملاحظ، فهناك تنافس إقليمي على تقديم التاريخ من وجهات نظر تخدم رؤى إقليمية معينة وربما مصالح، وقد يكون هذا مفهوماً كدافع من دوافع دعم هذا النوع من الدراما.
مسلسل الإمام الشافعي
لكن الذي لم يدر في خلد أحد يوماً ما أن يأتي على الدراما وخاصة التاريخية يوم تُكتب فيه من اقتباسات تويتر، تلك الاقتباسات التي دارت على ألسنة الجميع ممن لو خرجوا من قبورهم سيقسمون بأغلظ الأيمان أنهم لم يقولوا هذا الكم من الحكم والتي تبدو في أغلبها مقولات عصرية بعيدة عن الأدب والبلاغة قريبة من خطاب التحفيز، هذا ما فاجأنا به مسلسل رسالة الإمام والذي من المفترض أنه يقدم سيرة شخصية من أهم شخصيات تاريخنا الإسلامي والعربي، شخصية بحجم الإمام الشافعي رحمه الله والتي لم يدرك صناع العمل خطورتها وقيمتها وحتى سياق المشاهدة الذي سيتلقاها.
لقد وقع المسلسل في فخ الاستسهال وقام بنسج الشخصية من خلال قصة سطحية ومقولات منسوبة إليها من هنا وهناك لا تمت لها بصلة، دون معرفة بها وبأحوالها، لم يكلف أصحاب العمل أنفسهم على ما يبدو بقراءة كتاب عن الإمام أو حتى تكوين رؤية عامة عن شخصيته، عن لغته وملامحه وسمته وخصاله، لتكون المشكلة الأكبر في المسلسل السيناريو والحوار، فقد عبرا عن ضعف في مستوى الكتابة وتناول الشخصية، ضعف لاحظه الكثيرون وبدأوا يتحدثون عنه، ففي شارة الانطلاق يتحدث خالد النبوي على لسان الإمام الشافعي قائلاً:
"يا صديقي تجمعنا مئات المسائل فلا تفرقنا مسألة.. لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات فأحياناً كسب القلوب أولى من كسب المواقف.. لا تهدم الجسور التي بنيتها وعبرتها فربما تحتاجها للعودة يوماً ما.. اكره الخطأ لكن لا تكره المخطئ.. انتقد القول لكن احترم القائل.. اكره بكل قلبك المعصية لكن سامح وارحم العاصي.. فمهمتنا هي القضاء على المرض لا على المرضى.. لا تحاول أن تكون مثالياً في كل شيء لكن إذا جاءك المهموم أنصت وإذا جاءك المعتذر اصفح وإذا قصدك المحتاج انفع وحتى لو حصدت شوكاً يوماً ما كن للورد زارعاً".
الأمر الذي أثار استغراب المشاهدين الذين يعلمون أنه فضلاً عن أن الإمام الشافعي بفصاحته وجزالة أسلوبه وبلاغة نظمه لا يمكن أن يكون قد قال هذا الكلام، فإنه حتى لا يمكن أن يقال قبل مئة سنة من الآن، فالأسلوب كما هو واضح أسلوب معاصر وركيك ومفكك المبنى والمعنى، وبالبحث نجد أن هذا الكلام قد انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي منذ سنوات منسوباً إلى الإمام الشافعي وهو ينصح تلميذه يونس بن عبد الأعلى دون سند أو توثيق، لتتوالى بعد ذلك المفارقات.
فالمسلسل، كما اتضح في حلقاته الأولى، يجمع كمية كبيرة من الاقتباسات المنتشرة على تويتر وغيره منسوبة للإمام الشافعي ويوظفها في الحوار بآلية تبعده عن روح الشخصية وسماتها، في أحد المشاهد يقول خالد النبوي على لسان الإمام الشافعي:
وتضيقُ دُنيانا فنحسَبُ أنَّنا
سنموتُ يأساً أو نَموت نَحيبا
وإذا بلُطفِ اللهِ يَهطُلُ فجأةً
يُربي منَ اليَبَسِ الفُتاتِ قلوبا
ليتضح لاحقاً أنهما بيتان للشاعر السوري المعاصر "حذيفة العرجي" الذي قال إنه كتبهما في بداية ممارسته للشعر قبل عشر سنوات، فانتشرا في الشبكة العنكبوتية على أنهما من قول الشافعي.
لتأتي مفارقة أخرى هي توظيف تدوينة للشيخ القرضاوي نشرت من إحدى خطبه على حسابه في تويتر لتنتشر فيما بعد منسوبة للإمام الشافعي في حوار الشافعي مع الأمير إذ يقول له بعدما طلب منه النصيحة: "الأحمق يعيش ليأكل، والعاقل يأكل ليعيش، والمؤمن يعيش ليعبد الله".
هكذا فإن المسلسل مليء بتوظيف الاقتباسات المشهورة الجارية في وسائل التواصل المنسوبة دون سند للإمام الشافعي في الحوار الذي بدا على الدوام مفتعلاً ولا يعبر عن أعماق الشخصية التي ظلمها مرة أخرى التمثيل، فشخصية كشخصية الإمام الشافعي قد امتلأت الدنيا بعلمها لا يمكن أن تكون شخصية غير مهمومة وأن يظهر عليها خشية العلم، بل بدت مع تمثيل خالد النبوى شخصية جامدة معتدة بنفسها فقط فجرّدها التمثيل الجامد والمفتعل من علامات نبوغها وعبقريتها، علاوة على أن الكتابة لم تستطع تقديم شخصية ذات جاذبية بإظهار تطورها ونموها على مسرح الأحداث.
إن هذا المشهد ينذر بخطورة ظاهرة، فمنذ متى والدراما التاريخية تُكتب بهذا الاستسهال، وكيف يمكن أن نتصور مستقبلاً للإبداع الدرامي مع الاعتماد على البحث السريع وثقافة الاقتباس والشكليات على حساب الإتقان والدراسة والإعداد؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.