لاستقبال شهر رمضان المبارك عند المسلمين في أنحاء الأرض، طقوس خاصة بكل مجتمع يحرص عليها كنوع من الفرحة باستقبال الشهر الكريم، وإضفاء نوع من القداسة على تلك الأيام المعدودة، وبالرغم من حالة الوهن التي تمر بها الأمة، فإن البسطاء والعوام ما زالوا حريصين على الاحتفاظ بتلك الموروثات في حدود إمكاناتهم التي تضعف عاماً بعد عام؛ نظراً للتغيرات السياسية والاقتصادية الحادة في بعض الأقطار العربية، خاصة في الجانب الغربي منها.
هذه الأوضاع السياسية والاقتصادية دفعت الناس للانشغال بتوفير أقواتهم اليومية بالكاد والانشغال بها والوقوع في براثنها بفعل فاعل لا يخفي مقصده من طمس معالم المظاهر الإسلامية حيناً، وشغل الناس بأنفسهم ومشاكلهم الخاصة أحياناً أخرى.
يرتبط شهر رمضان في إدراك الناس ووعيهم بنزول القرآن الكريم في غار حراء، وبليلة القدر على مجموعة من القبائل في عمق الصحراء لا تعرف عن الحضارة سوى مجموعة من القيم الموروثة، منها الإيجابي ومنها السلبي لا يقيم لها بنياناً، ولا يشيد لها دولة بالمعنى المعروف، فجمع القبائل المتناحرة، وتحولت أمة الرعي والتشرذم والقبلي في غضون سنوات معدودة بفعل هذا القرآن لأمة حضارة لم يعرفها مثلها التاريخ، حضارة تملك جناحي الاستمرار؛ الروح والمادة، العبادة والجهاد، القوة والعدل، المال والزهد، التوكل والتخطيط والأسباب.
أمة حولت الفرد من عبد حبشي لا قيمة له إلى سيدنا بلال الحبشي الذي تآخى مع أبي بكر وعمر وعثمان، وصار سلمان الفارسي في مجتمع تحكمه العائلة والقبيلة فرداً من أسرة النبي صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا آل البيت"، تغيرت صورة المجتمع ليحمل رجل من المسلمين جواهر كسرى وقيصر من جيش الفتح ليعود بها لعمر بن الخطاب، ليلقي بها بالمسجد ويصلي ركعتين ثم يطلب أمير المؤمنين ليتسلم أمانته، مجتمع تقاسم مع ذاته المال والطعام والبيوت بمحبة وود.
فقد تحول مجتمع القبائل بالجزيرة العربية من الجاهلية بكل مساوئها لنور الإيمان والعلم والبحث والسير في ملك الله للاعتبار والمعرفة، دولة مترامية الأطراف يسير الراكب فيها لا يخشى إلا الذئب على غنمه، كان الانطلاق كله من شهر رمضان، وليلة القدر لفتح البلدان وعبور البحار والمحيطات للوصول لعمق أوروبا وإفريقيا وشمالي آسيا وشرقها.
لذلك حظي شهر رمضان باهتمام بالغ من الشعوب المسلمة على مدى التاريخ الإسلامي، رغم الانسلاخ البادي على ملامح الأمة من دينها وتدهورها الكبير بسبب ذلك الوهن المستجد والمفروض عليها بفعل الاستعمار الغربي المقيت، فتحول الازدهار والريادة لظلم وجهل وتخلف وفقر ومرض واستبداد أذل رقاب الرجال وغيب العلماء خلف ستر الخوف والملاحقة.
سنوات من التغييب لمعظم علماء الأمة وشبابها الفاعلين خلف القضبان، عقول وطاقات معطلة كان يمكن أن تحدث تغييرات جبارة لتغيير مسار التبعية للمسار الصحيح منطلقة من كتاب ربها وطاقته الإيمانية وسط ظروف إنسانية لا تليق بأدنى الحقوق الإنسانية المعروفة في العالم، هذا غير ملاحقة أسرهم وتضييق أرزاقهم في ظل أوضاع اقتصادية قاتلة تعانيها تلك الشعوب.
رمضان فرصة للتغيير
كما كان رمضان انطلاقة كبرى للأمة العربية فصارت حاضرة الأمم ومعلمتها، وكما أحدثت تعاليمه نقلة كبرى ليصير الإسلام الدين الشامل الكامل المتمم للشرائع من قبله هو المنقذ الوحيد لما يحياه العالم اليوم من فوضى تكاد تهددها بالفناء، كذلك يمكن أن يتبدل الحال لحال آخر بتغيير الوضع الحالي للأمة، "لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
يتسم القرآن بصفة الإحياء، يقول رب العزة في سورة الرعد: "ولو أن قرآناً سُيِّرت به الجبال أو قُطِّعت به الأرض أو كُلِّمَ به الموتى بل لله الأمر جميعاً"، ويقول سبحانه في سورة الأنعام: "أوَمَن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها".
القرآن ليس مجرد كتاب للاستظهار والتلاوة، وإن كان ذلك مهماً، وإنما هو كتاب عمل وحركة وفهم وتدبر وانطلاق، فيقول تعالى في سورة القيامة: "لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه"، هو أمر للنبي عليه الصلاة والسلام لعدم العجلة في ترديد الآيات خلف جبريل عليه السلام، فالاستظهار ليس هو الهدف وإنما الأمر الإلهي يشير للمرحلة التالية "فإذا قرأناه فاتبع" اتبع بالفهم، اتبع بالعمل، اتبع بترجمة الأوامر لحركة في الأرض بين الناس، ولذلك قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها- حين سألت عن أخلاق رسول الله قالت: "كان خُلُقه القرآن".
يقول الشيخ أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين: "وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار، فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ".
لقد أخفقت الأمة حين أبطلت مفعول شهر رمضان ليصير موسماً لتناول الطعام ومتابعة الإسفاف المسمى مجازاً "فن".
إن الأمة تحتاج لقرار جريء، قرار بالفهم وإعادة قراءة القرآن بصورة جديدة، قراءته كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقد يتساءل البعض: كيف يتسنى للأمة تلك القراءة بينما الاستبداد يأكل الأخضر واليابس منها، فيسيطر على منافذ الإعلام والتعليم يقوم بها علماء السلطان فيغيرون الحقائق ويزيفون وعي الناس ويشوهون مفاهيم الدين!
من رحمة الله تعالى ظان الخير بهذه الأمة لا ينفد، ومن رحمته كذلك انتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي فاقتربت المسافات ولم يعد يحول بينها حائل، ولا يستطيع نظام مهما بلغت سطوته أن يحبس شعباً ليصب في مفاهيمه ما يشاء، فقد صارت تلك الوسائل بديلاً ذكياً عن البرامج التلفزيونية والإذاعية وغيرها من وسائل مشروطة، الآن من الممكن توظيف تلك الوسائل المفتوحة للوصول لأكبر عدد ممكن إذا صحَّ التوجه وصلحت النوايا وتحسن الأسلوب وتركت للشباب مهمة الإبداع في هذا المضمار.
ليصير رمضان ميلاداً جديداً بمحاولة إحياء وجدان الإنسان المسلم وعقله لترجم كل هذا لسعي مجتمعي من نوع جديد، سعي يعلم الإنسان كيف ينتزع حريته وحقوقه منطلقاً من قيمه الإسلامية الأصيلة، إن الأمر فقط يحتاج إلى إرادة تقود عملية التغيير، إرادة تتبعها حركة واعية لتوضع الأمور في نصابها، ويعود الإسلام محركاً، ورمضان ميلاداً جديداً كل عام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.