لا شك أن شهر رمضان الكريم هو من أهم المناسبات الدينية التي يبتهج بها المسلمون أينما كانوا، وينتظره كثيرون بفارغ الصبر، ويستعدون له ولطقوسه المتنوعة الدينية والروحية والاجتماعية.
والمسلمون في أوروبا يحتفون ويحتفلون أيضاً بحلول هذا الشهر العظيم، لكن الأجواء التي تصاحب رمضان في أوروبا مختلفة كثيراً عن تلك الأجواء التي تصاحبه في البلدان العربية والمسلمة. فرمضان في المجتمعات الإسلامية والعربية له سحره الخاص وطقوسه المميزة، التي قد تختلف من بلد لآخر، لكنها جميعاً تشترك في خصوصيتها وجماليتها وأجوائها الحميمية، التي تترك طابعاً مميزاً يشعر به ويدركه كل من عاش أجواء هذا الشهر الجميل في بلد عربي أو مسلم.
وفي ألمانيا يُعد رمضان مناسبة خاصة جداً لدى المسلمين الذين يشكلون حوالي 5% من سكان ألمانيا، ويحاول المسلمون إحياء واستحضار طقوس وأجواء هذا الشهر التي ألفوها في بلدانهم الأصلية، فنجد على سبيل المثال محلات ومتاجر الأغذية العربية والتركية والآسيوية وقد تزينت وامتلأت رفوفها بأصناف مختلفة من الأطعمة والحلويات والمشروبات التي اعتاد الناس على تناولها في رمضان أثناء الإفطار أو السحور.
وتقوم بعض المؤسسات والجمعيات الإسلامية في ألمانيا بتوفير المأكولات الحلال وتنظيم الفعاليات وموائد الإفطار الجماعية في المساجد والجمعيات والمطاعم خلال شهر رمضان. كما يتم أيضاً تنظيم فعاليات مفتوحة مثل مآدب الإفطار المفتوحة، والتي توجه فيها الدعوة إلى مجموعات مختلفة من الناس، بغضّ النظر عن ديانتهم أو خلفيتهم الثقافية، وتكون هذه المآدب مناسبة جميلة يتعرف فيها المدعوون على الأكلات الشرقية المتنوعة ذات المذاق الخاص وكذلك على الأجواء التي يتميز بها شهر رمضان، ويحرص السياسيون من مختلف الأحزاب على مشاركة المسلمين إفطارهم في تلك التجمعات.
وبالنسبة للجهود الشخصية في الاحتفال بهذه المناسبة فتتمثل في قيام بعض الأسر بشراء مجموعة متنوعة من الزينة المتعلقة بهذه المناسبة، ويشترك أفراد الأسرة في تركيب وتعليق هذه الزينة في أماكن متفرقة من المنزل على أنغام الأغاني والأناشيد المتعلقة بشهر رمضان، في أجواء مرحة تحاول مُحاكاة تلك الأجواء الحميمية التي يفتقدها من يعيش في الغربة لفترة طويلة.
ومن النشاطات الجميلة التي يمكن القيام بها في هذا الشهر، تصميم تقويم بسيط بعدد أيام شهر رمضان، ويتناوب الأطفال كل صباح على تغيير رقم اليوم في التقويم، واختيار رقم اليوم الحالي حتى نهاية شهر رمضان، وبهذه الطريقة يعرف الأطفال كم مضى من شهر رمضان وكم تبقى فيه.
ويأتي رمضان في ألمانيا هذا العام بعد فترة انتقالية حرجة مرت بها البلاد بسبب وباء كورونا؛ حيث اضطر المسلمون في العامين الماضيين بسبب قيود وإجراءات مكافحة الوباء إلى التخلي عن الكثير من العادات والروحانيات الخاصة بشهر الصيام، لذا يشعر الكثيرون بالفرحة هذه المرة؛ لأن القيود الخاصة بوباء كورونا قد تم تخفيفها أو إلغاؤها في كثير من الولايات الألمانية، مما سيتيح للمسلمين أن يستأنفوا تنظيم الفعاليات الرمضانية وممارسة الشعائر الخاصة بهذا الشهر في أجواء أكثر أريحية من التي عاشوها خلال الفترة الماضية.
ورغم هذه الأجواء الاحتفالية، فإن هناك بعض الصعوبات التي تواجه المسلمين فيما يتعلق بهذه المناسبة الدينية المهمة، فمن المعروف أن أهم ما يميز شهر رمضان هو فريضة الصيام فيه؛ حيث يمتنع الناس عن الأكل والشرب منذ شروق الشمس حتى دخول الليل. وفي العادة فإن الفرق بين ساعات الليل والنهار في كثير من البلدان العربية يكون بسيطاً ومتقارباً؛ لذا يكون بمقدور كثيرين تحمّل مشقة الصيام، لكن في أوروبا فإن الوضع مختلف للغاية في هذه النقطة.
فالفرق بين ساعات الليل والنهار في كثير من البلدان الأوروبية وفي معظم أوقات السنة كبير للغاية حتى أن ساعات النهار أو الليل قد تطغى على بعضها البعض، وقد تتضاءل أو حتى تنعدم تقريباً، كما هو الحال في بعض بلدان شمال أوروبا! ففي أقصى شمال القارة الأوروبية على سبيل المثال في السويد أو النرويج قد تصل ساعات النهار إلى واحد عشرين ساعة، وفي فنلندا قد لا تشرق الشمس إطلاقاً لعدة أسابيع في جنوب البلاد، والعكس يحدث في شمال فنلندا والنرويج وأيسلندا والدنمارك؛ حيث قد لا تغيب الشمس مطلقاً خلال فصل الصيف، وهو ما يسبب الظاهرة المعروفة بـ"شمس منتصف الليل".
وفي ألمانيا الحال مشابه أيضاً، خصوصاً في فصل الصيف؛ حيث تطول ساعات النهار بشكل غير عادي لتصل إلى العشرين ساعة أو تتجاوزها! وما أدراك ما صيام العشرين ساعة في أجواء حارة وطقس متطرف وأجواء غير مألوفة! وكم فيها من المعاناة والمكابدة لا يدركها إلا من جربها وعاشها بنفسه. تخيل أن تبدأ صيامك في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، ثم تواصل الصيام حتى الساعة العاشرة والنصف مساءً، حين تغرب الشمس ويدخل الليل، وعندها يصبح لدى المرء ما يقرب من 4 ساعات فقط لكي يفطر خلالها ويصلي ويتناول طعام السحور استعداداً لصيام اليوم التالي!
ومما يزيد الأمر صعوبة أن المسلمين في أوروبا لا يحظون بأي استثناءات أو مراعاة خاصة في شهر رمضان كما يحصل في بعض البلدان العربية، مثل تقليص ساعات العمل أو تأخير بداية الدوام بالنسبة للمدارس، لكن في بلد كألمانيا مثلاً يصلي المسلمون الفجر في الساعة الثانية والنصف صباحاً وعليهم أن يستيقظوا في الساعة السادسة صباحاً، وذلك من أجل توصيل الأطفال إلى المدارس والذهاب إلى أعمالهم وأشغالهم. فإذا كان صيام 13 أو 14 ساعة في البلدان العربية يستدعي مراعاة للصائمين بخصوص الدوام والعمل، فكيف يكون حال من يصوم حوالي 20 ساعة، ولا يحظى بأي استثناء؟ فالحياة في الغرب تمضي بنفس الوتيرة في رمضان وغير رمضان، مما يضاعف من حجم المشقة التي يلاقيها الصائمون في هذه البلدان.
ولكن مع ذلك، ورغم هذه الصعوبات والاختلافات في الجو والطقس والعادات، يظل لهذا الشهر الكريم نكهته الخاصة ومذاقه الحميم، ويحاول الناس في الغربة أن يستحضروا تلك الأجواء الحميمة وأن يعيشوا تجربة الصيام والإفطار وغيرها من طقوس رمضان بطرق مختلفة، وبمجيء رمضان يتطلع الجميع ـ خصوصاً الصغارـ لمناسبة أخرى جميلة ومميزة وهي قدوم العيد، ولهذه المناسبة أيضاً طقوسها وأجواءها في الغربة، وهو ما سيكون موضوع المقال المقبل إن شاء الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.