المساجد المحرمة في التاريخ المصري.. تاريخ من الاغتصاب والاعتراض

عربي بوست
تم النشر: 2023/03/29 الساعة 11:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/03/29 الساعة 11:20 بتوقيت غرينتش
مسجد المؤيد شيخ / الشبكات الاجتماعية

مساجد جمعت بين دقة الفنون وشموخ العمارة، مآذن شاهقة في سماء القاهرة التاريخية تكاد تناطح السحاب، مداخل اشتملت على تفاصيل في غاية الإبداع والأناقة، حتى إن "الناظر لها يحتقر عند مشاهدته عرش بلقيس وإيوان كسرى أنوشروان" كما يصف المقريزي. هكذا تبدو صورة القاهرة المملوكية بمساجدها الجامعة ومدارسها الفنية الرائعة، لكن في المقابل، اشتملت بعض النماذج فيها على تاريخ موازٍ من الاستبداد والشمولية واغتصاب الأملاك وفرض الضرائب.  

المماليك .. تاريخ متناقض

المماليك هم مجموعة من الأتراك، جلبوا من أواسط آسيا ليعززوا ملك بني أيوب في القاهرة والشام، جاءت تلك النخبة من العبيد البيض إلى القاهرة، ليتعلموا فيها فنون القتال منذ صغرهم، فضلاً عن العلوم الدينية والشرعية، في انعزال تام عن الناس في الشوارع والأزقة القاهرية. لكن الأقدار مكّنتهم من ملك مصر؛ إذ مهّد لهم بعد موت الصالح نجم الدين أيوب أثناء حملة لويس التاسع على مصر. كانت تلك الفرصة التي أبدى فيها المماليك فعلاً فيها بسالتهم القتالية والحربية وتصدوا للصليبيين وأخرجوهم من مصر، هي بوابة دخولهم إلى ملك مصر وسلطنتها. ليعززوها بعد ذلك بانتصارهم على التتار في عين جالوت، فخلت لهم الدواوين في القلعة والشوارع في القاهرة والميادين بين الفسطاط والقطائع. ليتمكنوا من ملك مصر قرابة ثلاثة قرون، وينتهي بهم الحال أيضاً في ساحات القتال على يد العثمانيين في الريدانية. 

أما على الناحية السياسية فلم يكن يقدر أحدٌ من المصريين على الوقوف في وجه قوة المماليك الغاشمة، لكنهم كانوا دائماً يستهزئون بهم ويسخرون منهم بالتورية والشعر والأمثال، كانت تلك النماذج من السخرية عبقرية في مضمونها، جريئة في طرحها، لم تكن تتوارى حتى دخول العمل الصالح ظاهرياً والطالح باطنياً. 

ومن نماذج ذلك أنهم كانوا يطلقون لفظ المسجد الحرام على مساجد بعض السلاطين، وليس هذا بسبب حرمتها المقدسة أو علو شأنها، كما الحال في المسجد الحرام بمكة المكرمة، وإنما لأنها مساجد حرام بالمعنى الحرفي للكلمة، أي مساجد يحرم الصلاة فيها لأنها بُنيت من مال حرام جمع عن طريق الضرائب والجباية من الناس فضلاً عن اغتصاب الأراضي والحارات التي تبنى عليها تلك المساجد. تعجب المصريون من هذا التناقض؛ إذ كيف يبني سلطان مسجداً تقام فيه الصلوات الخمس فضلاً عن الجمعة التي يحضرها السلطان باسمه وفي المقابل تكون تلك الأرض مغصوبة أو بني عليها من خزائن الدولة التي جُمعت عن طريق الضرائب والجبايات. كان هذا اللفظ العبقري ذا دلالة فاضحة لم يخرجه المصريون وهم يعلمون خطورة الحكم على تحريم أحد المساجد الجامعة في القاهرة إلا بعد فطنة ووعي بحال سلطانهم. 

مسجد المؤيد شيخ .. بين شعر العوام والنخبة

كان السلطان المؤيد شيخ أحد سلاطين المماليك المستبدين، إذ كان غاشماً لا يبرح أن يطيح بمعارضيه أو من يقف في طريقه. تولى السلطان المؤيد شيخ سلطنة المماليك بعد مقتل السلطان فرج بن برقوق وتولي المستعين بالله الخليفة العباسي الملك في القاهرة ليؤسس لنفسه ملكاً قوياً وسلطنة عرفت بأنها كانت من مفاسد السياسة في عصر سلاطين المماليك. لكنه كذلك كان متناقضاً، فتتحدث الروايات عن تقواه بأنه أمر إمام المسجد عندما يذكر اسمه ويدعو له على المنبر أن ينزل درجة حتى لا يتساوى ذكره مع ذكر الله، فضلاً عن تلك الصدقات الدائمة التي كان يعطف بها على الفقراء والمساكين في القاهرة عندما اشتدت بهم أزمة الطاعون وفتكت بأحوالهم المعيشية. 

المساجد المحرمة في التاريخ المصري
مسجد المؤيد شيخ

لم يشفع له كل هذا فلم يحبه المصريون إذ وجدوا فيه صورة الحاكم المرائي، يظهر غير الذي يبطن، وما زاد على كل هذا أنه اتُّهم بقتل ابنه "الصارمي إبراهيم" ولقد كان الصارمي محبباً لدى المصريين ومفضلاً عندهم، أحبوه لأنه كان ودوداً معهم وعطوفاً عليهم، فقربوه منهم كما قربهم منه، فكان خبر وفاته غماً عليهم وفرصة للعن والده المستبد. 

أما قصة بناء المسجد فتذكر الرواية التاريخية أن المؤيد شيخ سجن قبل أن يكون أميراً فيما عرف باسم "خزانة شمائل" وهو سجن كان موقعه بالقرب من باب زويلة الواقع جنوب القاهرة الفاطمية، وعندما كان في السجن نذر على نفسه أنه إذا نجا من محنته فإنه سوف يبنى مكان هذا السجن مسجداً عامراً بذكر الله. 

وعندما تولى السلطنة قرر ساعتها أن يفي بنذره، فاشترى -على حسب الروايات- المنشآت الواقعة في محيط السجن والسجن نفسه ولا يرد للسلطان طلباً في هذا حتى لو اعترض أحد الملاك، ثم أقام مسجده الجامع فيها. لم يكتف بهذا، بل استغل باب زويلة وأقام عليه مئذنتيه الباقيتين حتى الآن. 

امتعض المصريون من هذا امتعاضاً شديداً، فالحارات التي أخذها السلطان ليستغل محيطها في بناء مسجده الجامع اغتصبها عنوة من يد ملاكها، ثم اكتمل الاغتصاب في نظرهم عندما استغل باب القاهرة في إنشاء مئذنتي المسجد عليه، لم يتوقف المؤيد شيخ عند هذا الحد، بل نقل باب مدرسة السلطان حسن القائمة في ميدان القلعة وأقامها في مسجده، فأصبح المسجد "حراماً" كما وصموه. مسجد حرام بمفهوم الكلمة الفقهي لا بمفهومها المقدس. ومن طريف ما يذكر عن مسجد المؤيد شيخ أنه كان يشتمل على ثلاث مآذن، إلا أن واحدة منها مالت، فأمر السلطان بهدمها، كانت تلك دلالة واضحة بمفهوم المصريين وقتها على حرمة المسجد وقلة البركة فيه، كونه مبنياً من مال حرام وعلى أرض مغصوبة؛ لذا اعترضوا على الصلاة فيه وأطلقوا ألسنتهم عليه حتى إن أحد الشعراء المجهولين -ولا بد أن يكون مجهولاً حتى لا يبطش به السلطان- قال: 

بنى مسجداً للّه من غيرِ حِلِّهِ  **  وكانَ بحمدِ اللَّهِ غيرَ موفق

كَمُطعِمَةِ الأيتام مِن كدِّ فرجِها ** لكِ الويلُ لا تزني ولا تتصدّقي

يعلق ابن إياس على هذا الشعر: "بلغت هذه الأبيات جميعاً السلطان، وأنشدت بين يديه، وصار لها في البلد أمر كبير". كان المصريون جريئين لدرجة أنهم شبهوا سلطان القاهرة بهذا الوصف، أي مثل العاهرات، وعلى حسب الروايات التاريخية فإن تلك الأبيات لم تُقَل في المؤيد شيخ نفسه وإنما قيلت في مسجد آخر أيضاً في القاهرة وهو مسجد الذخيرة، الذي أنشأه ذخيرة الملك جعفر متولي الشرطة في القرن السادس الهجري، ولقد كان ظالماً متكبراً، لدرجة أنه كان يقبض على الناس في الطريق ويستعملهم في بناء المسجد بدون أجرة، اختلفت الروايات في تحديد المسجد لكنها اتفقت على المعنى الذي أطلقه المصريون وشبهوا أصحاب المساجد المحرمة به.

تغاضى الفقهاء عن تلك الأبيات وحاولوا أن يجاروا ألسنة الناس بشعر مختلف، إذ يقول الفقيه ابن حجر العسقلاني على واقعة انهيار المئذنة: 

جامع مولانا المؤيد رونق منارته ** تزهو من الحسن والزين

تقول وقد مالت عليهم تمهلوا ** فليس على جسمي أضر من "العين"

استغلت تلك الأبيات التي قالها الفقيه ابن حجر العسقلاني في خصومة شخصية بينه وبين بدر الدين العيني الذي كان يكرهه ولا يكن له أي احترام، فأورد لفظ "العين" تعريضاً به، إلا أنها لم تعن بما يردده الناس على ألسنتهم في المسجد وأحواله. حتى إن العيني نفسه رد عليه بأبيات أخرى تغاضت تماماً عن تلك المسألة أيضاً: 

منارة كعروس الحسن قد جليت ** وهدمها بقضاء الله والقدر

قالوا أصيبت بعين قلت ذا خطأ ** ما أوجب الهدم إلا خسّة الحجر

فأورد هنا كذلك كلمة "خسة الحجر" تعريضاً بابن حجر العسقلاني، كأن المئذنة سقطت بسبب خسة ابن حجر العسقلاني. 

قنصوة الغوري .. تاريخ من الاستبداد المعماري 

كان قنصوة الغوري ولعاً بالعمارة مفتوناً بها، يحب أن يكتب اسمه على مدخل كل منشأة في القاهرة، يضع بصمته المعمارية في كل مدينة في مصر، لكن المفارقة الكبرى هنا أن الأمور في عصره تأزمت اقتصادياً بدرجة كبيرة، انقطع حبل التجارة الذي كانت مصر همزة الوصل فيه؛ إذ سيطر البرتغاليون على التجارة في البحر بشكل كبير ومتمكن، جعل من دور مصر هامشياً. وفضلاً عن كل هذا كان العثمانيون على الأبواب يهددون ملك مصر وسيطرتها الإقليمية. 

المساجد المحرمة
قنصوة الغوري

لم يعن قنصوة الغوري بكل هذا ولم يهتم بحال مصر الاقتصادي، فقط كان اهتمامه الأكبر منصباً على العمارة والتشييد حتى لو كلفه هذا الأخذ من خزينة الدولة مباشرة لا من ماله الخاص -إن كان له مال-  ولكي يقوم بهذا كان عليه أن يجبي الضرائب من الناس؛ إذ كلف بناء المدرسة 100 ألف دينار كاملة.

أقام مدرسته القائمة حتى الآن بمنطقة الغورية بالشارع الأعظم -شارع المعز لدين الله الفاطمي الآن- وتفنن فيها في صنعة الرخام والخشب والعاج. فظهرت المدرسة في أبهى الصور وأعظمها، تسيطر على الشارع بوجاهتها المعمارية سيطرة عظيمة، تعكس روح السلطان الآنفة فيه. استكمل بناء المدرسة بقبة ضريحية كي يدفن فيها كعادة السلاطين المماليك، ووضعها في أول الطريق حتى يتسنى للناس أن يدعوا له ويتصدقوا على روحه وأن يعلوا ذكره بينهم حتى بعد مماته. كلف هذا البناء خزينة الدولة حقاً، حتى تحدث الناس وهمهموا بهذا فيما بينهم. أما المفارقة الكبيرة، أن قنصوة الغوري لم يدفن في قبته التي أنفق عليها خزينة الدولة، بل مات مجهولاً في معركة مرج دابق التي واجه فيها السلطان العثماني سليم الأول، ولم تبق له سوى سيرة سيئة بين الناس، ومسجد وصمه الناس بنفس الكلمة التي وصموا بها مساجد من قبله "المسجد الحرام". 

يتحدث ابن إياس في نص بديع ومعبر عن تلك الحادثة بقوله: "وقد شنعت عليه الناس أن مصروف عمارة المدرسة كان من وجوه المظالم ومصادرات الناس، وأخذ أغلب رخامها من أماكن شتى بأبخس الأثمان، وأخرب قاعة شموال اليهودي الصيرفي وأخذ أبوابها، وفعل مثل ذلك بعدة قاعات، وقد سمى بعض اللطفاء هذه المدرسة المسجد الحرام لما وقع فيها غصوبة الأرض ومصروف العمارة من مال فيه شبهات، وقد شنعوا الناس قبله على المؤيد شيخ لما بنى جامعة الذي بجوار باب زويلة أكثر ما شنعوا على الملك الأشرق قنصوة الغوري، وأهل مصر ما يطاقون من ألسنتهم إذا أطلقوها في حق الناس".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

معاذ العربي
باحث متخصص في التاريخ الإسلامي والعمران
باحث متخصص في التاريخ الإسلامي والعمران
تحميل المزيد