دائماً ما تلاحقنا ذكرياتنا الرمضانية كل عام لتعيد لنا تلك المشاعر التي حُفرت في أعماقنا بطقوسها المختلفة، بدءاً بالإعلان عن الشهر الفضيل، وما يليه من الأغاني الرمضانية وموسيقى برامج ارتبط سماعها بهذا الشهر فقط.
كان من أهمها برنامج الشيخ علي الطنطاوي الذي كان يحرص والدي على متابعته يومياً بعد الإفطار مع طبق المحلبية اللذيذ، ليسود الهدوء بالمنزل، وتنزل السكينة على قلوبنا بعد أن ارتوينا وملأنا البطون، بعكس حالنا قبل غروب الشمس بسويعات ونحن مجتمعون حول والدتي وهي مفترشة أرض المطبخ لتضرب الهريس "أكله شعبية قطرية"، ليسيل لعابنا مع كل طبق نساعدها في وضع قليل من السمن لتزيينه قبل توزيع الأطباق على الجيران.
فكثيراً ما تستحضرني إحدى الأسر الفقيرة التي كانت تسكن في خيمة بالشارع المقابل لمنزلنا، فكنت أحرص على أن أكون أنا من يأخذ لهم طبق الطعام لاستكشاف حالهم، وأرمق في عيون أطفالهم الذين كانوا بمثل سني الفرحة التي قد يجلبها لهم طبق من القمح أو الأرز، فينتابني شعور عظيم بالامتنان لما وهبني إياه الله وما تفضل به على أسرتي.
أما قبيل صلاة العشاء فكنا نستعد أنا وإخوتي للذهاب للصلاة بالمسجد مع والدتنا كل يوم، فتبدأ أعمق الروحانيات مع دخولنا المسجد وصعودنا لقسم النساء بالطابق العلوي الخالي من الأنوار، ماعدا ما يتخلله من شعاع كخيوط الذهب ترسم زخارفها على الجدران وسط عبق رائحة البخور والعطور الفواحة الجميلة، ليفرش كل منا سجادته ونقف جنباً إلى جنب لصلاة تحية المسجد، ثم نبدأ بقراءة القرآن حتى يحين وقت الصلاة.
وهكذا ندخل بتحدٍ لمن يقرأ أكثر من ختمة خلال الشهر الفضيل، ليقطع تنافسنا صوت الإمام الجميل الذي يُسهب بالدعاء كل ليلة، ويزيد من جمال لحظاتنا ويبدع في تأجيج مشاعرنا، إلى أن نجتمع بليلة السابع والعشرين بمنزل إحدى الجارات للاحتفال بنهاية الشهر، حيث تقوم إحدى السيدات بقراءة دعاء الختمة، وجميعنا نرفع أيدينا ونكرر وراءها: "آمين"، لتغمرنا مشاعر الفوز والفخر لتفانينا في التعبد والتهجد.
في حين تنتابنا مشاعر أخرى مع نهاية الشهر الفضيل، وهي خسارة هذه الليالي التي شارفت على الانقضاء، فتعصر قلوبنا حزناً لفراقها، إلا أنه باليوم التالي يتغير الحال استعداداً للعيد، فنبدأ بشراء أدوات العيد ونجهز ملابسه، وتقوم أختي الكبرى بتجهيز الحلويات لأول أيامه.
لكن لم ولن تغيب عن الأذهان الليالي الجميلة التي كنا ننتظر فيها صوت "المسحراتي" وهو يطوف في الفريج ماشياً على قدميه يتقدم عدداً من الأشخاص ضارباً للطبل، منادياً بذكر الله، ومعلناً بأعلى صوت اقتراب وقت السحور، ليلحق به الصغار والكبار وهم يرددون فرحين، فبمجرد سماع أصواتهم نقفز أنا وإخوتي لنقف عند البوابة لنشاهدهم وهم يعبرون أمامنا حتى يختفوا عن الأنظار، ثم نعود أدراجنا للداخل لنجتمع حول سفرة السحور البسيطة، استعداداً للبدء بصيام يوم جديد.
في منتصف الشهر الكريم نحتفل بليلة القرنقعوة، وهي من التراث القطري القديم، ابتُكر لتشجيع الأطفال على الصيام في الشهر الفضيل، حيث تحول إلى احتفال شعبي ينتظره الصغير والكبير سنوياً في ليلة النصف من رمضان كل عام.
كنا ننتظر هذه الليلة بفارغ الصبر حاملين الأكياس الكبيرة لنطوف بها بين المنازل مُغنين، للحصول على الحلويات والمكسرات، ليفوز أكثرنا وزناً، ثم نفترش الأرض بأكياسنا لفرزها ونحن تملؤنا السعادة متناسين الإرهاق والتعب.
مما يميز تلك الأيام أنه لم يكن هناك إجبار على الصيام، بل كنا نتبارى ذاتياً منذ الصغر لمشاركة الكبار هذه المشاعر لما كنا نلمسه فيها من هيبة وإجلال، كما أنه لم تكن هناك ملابس خاصة لرمضان أو زيارات مفروضة مجتمعياً، بل كان اهتمام الجميع المطلق ينصب فقط على التعبد من أول أيامه وحتى النهاية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.