في سابقة خطيرة، خضع رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، في نهاية مطاف حملة طائفية عنصرية عاتية واجهته، قادها رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. وقد كان الأخير استنهض الشارع المسيحي في لبنان من خلال اللعب على وتر الإسلاموفوبيا، لا سيما عبر التخويف من أسلمة البلد وتغيير هويته جراء اعتماد توقيت قيل إنه لمراعاة الصائمين في شهر رمضان المبارك (تأجيل بدء العمل بالتوقيت الصيفي لمدة شهر)، ولم يتردد باسيل عن الغرف في أدبيات التفوق الحضاري (سوبريماسيزم) العنصرية؛ ليعتبر أنّ توقيت بري ـ ميقاتي هو توقيت "المتخلفين والرجعيين".
وفي حالة تشبه إلى حدٍّ بعيد حقبة بدايات العهد الكارثي للرئيس السابق ميشال عون، حيث كان يسود شهر العسل بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، وتحديداً حين كانت الأحزاب المسيحية الرئيسية تتنافس فيما بينها بأدبيات الفوبيا من الآخر لا سيما حول "خطر اللاجئين" السوريين والفلسطينيين وملاحقتهم في الأزقة والشوارع، وفي القرارات ضد العمالة الأجنبية، وذلك لاستقطاب أكبر عدد من المواطنين في الشارع المسيحي نحو كل منها، في حين أنّ البلد كان على أبواب بداية الانهيار الكبير في خريف 2019، حاول تلقائياً قادة الأحزاب المسيحية الأخرى، اليوم أيضاً، اللحاق بجنوح باسيل نحو عناوين وشعارات وأدبيات اليمين المتطرف.
ويكون بذلك قد نجح باسيل مرة جديدة في تحويل قادة الأحزاب المسيحية الأخرى عملياً إلى مجرد أتباع ملحقين بحركته، وذلك بعد أن عاد وتصدّر المشهد في الشارع المسيحي وأحزابه وتياراته، من خلال اللعب على التخويف من الآخر (المسلم) بسبب مسألة التوقيت.
من الجدير بالذكر أنّ قسماً معتبراً من المعارضين لقرار بري ـ ميقاتي، وهم من مختلف الطوائف، فعلوا ذلك من منطلق موضوعي قانوني مبدئي، وليس من منطلق طائفي، ولكن كان الخطاب الطائفي والعنصري، لا سيما أدبيات التقوقع الهوياتي، هي الطاغية، بشكل فاقع وبشع، على حملة الاعتراض، ولا ينفع إنكار ذلك.
ازدواجية التوقيت
وقد نتج عن هذه الحملة ازدواجية في التوقيت في بلد لا تتخطى مساحته 10452 كم، إذ تباين الالتزام بين التوقيت الشتوي أو الصيفي من مؤسسة إعلامية أو تربوية أو دينية أو حتى وزارة، لأخرى، غالباً حسب اللون الطائفي لهذه المؤسسة أو لمن يشرف عليها. أما الجيش وقوى الأمن الداخلي فالتزموا بمذكرة رئيس الحكومة.
ويعني ذلك عملياً ازدواجية في السلطة، وخروجاً عن شرعية الدولة من قبل الذين لم يلتزموا بمذكرة ميقاتي، فإذا كان قرار تأجيل تقديم الساعة تشوبه أخطاء قانونية، فممكن الطعن به أمام مجلس شورى الدولة، ولكن الأكيد أنّ عدم الالتزام به خطيئة، إذ أصبحت كل طائفة وكل مؤسسة خاصة أو رسمية أو دينية، غير ملتزمة بالقرار، تشكل عملياً دويلة ضمن الدولة، ومزاحمة للدولة باختصاصات الدولة الحصرية.
فبعد اليوم، كيف للذين كانوا ينتقدون حزب اللّه بسبب مزاحمته الدولة في اتخاذ القرارات العائدة حصرياً لها (ازدواجية السلطة) أن يكملوا في انتقادهم للحزب من نفس المنطلق، في حين أنهم في هذا الشأن تحديداً قد أصبحوا على شاكلته؟ حتى حزب اللّه، الممسك بدويلة كاملة المعالم ضمن الدولة، لم يسبق هؤلاء المعترضين بالإعلان عن توقيته الخاص المستقل عن توقيت الدولة!
تراجع ميقاتي عن تأجيل التوقيت الصيفي في لبنان.. ما يعنيه
وعليه، لكنا قلنا حسناً فعل ميقاتي في تراجعه عن قراره المتعلق بتأجيل العمل بالتوقيت الصيفي، لو الحملة ضد قراره كانت بدوافع موضوعية محضة، ولكنها كانت إلى حدٍّ بعيد حملة طائفية- عنصرية- تقسيمية، بقيادة جوقة نشاز من اليمين المتطرف الهوياتي، على اختلاف تياراته الفكرية والحزبية.
رجوع ميقاتي عن قراره ليس خضوعاً لـ"المسيحيين"، بقدر ما هو -على الأقل بجزء منه – خضوع لليمين المتطرف، الذي أصبحت أدبياته تنتشر بشكل مقلق في الشارع المسيحي، وأفكاره تنخر في كثير من أحزابه وتياراته التي تستثمر، على اختلافها، في مخاوف الشارع المسيحي وهواجسه المشروعة، والتي لا مجال هنا لذكرها كلها. وهذا الخضوع لليمين المتطرف سابقة خطيرة سوف يبني عليها هذا اليمين بمختلف أطيافه ـ لا سيما تلك التي تدعو إلى الفيدرالية والتقسيم ـ للمطالبة بما هو أكثر من رجوع عن قرار توقيت، ما سوف يزيد في تهديد وحدة لبنان وكيانه بين المسيحيين والمسلمين.
ميقاتي خضع لليمين المتطرف الطائفي العنصري، هذا ما يجب أولاً أن يُقلق كل اللبنانيين الغيورين على وحدة لبنان وتعدديته، بمختلف انتماءاتهم، وهذا ما يجب أن يكونوا متيقظين لمخاطره. أما موضوع التوقيت فأصبح ثانوياً جداً، وهو اصلاً لم يكن إلا ثانوياً بالنسبة لليمين المتطرف الذي لم ير فيه إلا مجرد ذريعة للتسويق لخطابه وطروحاته ومشاريعه، وهذا ما لم يتنبه له الكثير من المعارضين "الموضوعيين" لمذكرة ميقاتي، بل لعبوا دور "الأغبياء المفيدين" (بتعبير لينين) لصالح هذا اليمين المتطرف الذي يدأب على الاستثمار في الانقسام الطائفي وتسعيره لمآرب شخصية، أو خدمة لمشاريعه التي تهدد وجود لبنان كما نعرفه حالياً.
كما أنه لا ينفع إيجاد أعذار مخففة للتقسيميين ولليمين المتطرف في لبنان، ولا مهادنتهم، فمحاولة تفسير أسباب التطرف أمر ضروري، ولكن محاولات تبرير التطرف مرفوضة، فلا شيء ـ حتى التطرف المقابل ـ ممكن أن يبرر التطرف.
ناهيك عن أنه، من وجهة نظر استراتيجية المواجهة، يشكل ذلك خطأ فادحاً، إذ يدعي أكثر المنادين بأفكار التقوقع الهوياتي مواجهتهم حزب اللّه بذلك، ولكن في الحقيقة فإنّ أكثر ما يريح تنظيماً مذهبياً مسلحاً خاضعاً لسيطرة خارجية كحزب اللّه، هو تحديداً مواجهته بأفكار وتنظيمات من نفس طينته.
المفروض على الوطنيين اللبنانيين، المتعلقين بسيادة لبنان ووحدته وتعدديته وانفتاحه، أن يواجهوا التطرف على الضفتين، وليس (بعقد كارثي على طريقة الدكتور فاوست) مغازلة تطرف معين وإيجاد المبررات والأعذار له، لمواجهة تطرف آخر.
أما أكثر ما يؤسف في الأمر، أنه في دولة الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي، يتظاهر مئات الآلاف، رغم الاختلافات المتعددة الإثنية واللغوية والطبقية والانتمائية (أشكيناز/سافارديم) بينهم، ضد اليمين المتطرف الهوياتي ومشاريعه التي تهدد دولتهم وديمقراطيتها كما يقولون، في حين أنه في لبنان، مذكرة إدارية متسرعة كفيلة بأن تطلق العنان لليمين المتطرف وجوقة الانغلاق الهوياتي، ولخطابهم ومشاريعهم التي تهدد كلها وجود لبنان.
فرغم العناصر الكثيرة المشتركة بين مختلف "مكونات" الشعب اللبناني (بالاختلاف مع الحالة السائدة ضمن الإسرائيليين)، والذي من المفترض منطقياً أن توحده، ما زال يتحكم بمصير الشعب اللبناني من لا يفلحون إلا بالاستثمار الطائفي في قرارات إدارية فاشلة، كمطية للتخويف من الآخر، ومحاولة فرض مشاريع التقوقع الهوياتي التي تنهي لبنان.
بالمحصلة، ما كان يجب أن يقوم به ميقاتي هو عدم الخضوع من الأساس لمشيئة رئيس مجلس النواب، واتخاذ هكذا قرار متسرع. ولكن بما أنه اتخذ قرار التوقيت، وجاءت الحملة عليه بجزء كبير منها تحت عناوين يمينية متطرفة، فقد اختلف الأمر، وأصبح الرجوع عن القرار يعني عملياً انتصار خطاب اليمين المتطرف الهوياتي، وهزيمة للمسلمين وللمسيحيين معاً، أي هزيمة للبنان الواحد الموحّد المنفتح التعددي.
في خضوع ميقاتي هذا، خطاب اليمين المتطرف هو أكبر المنتصرين، كما يشكل ذلك انتصاراً مدوّياً سياسياً شخصياً لباسيل على ميقاتي وبري، جعله (أي باسيل) مرة جديدة يتصدّر المشهد ضمن الشارع المسيحي، وجعل من باقي قادة الأحزاب المسيحية، الذين حاولوا اللحاق بجنوحه نحو أدبيات اليمين المتطرف ومنافسته في ذلك، مجرد تابعين لحركته.
بكلام آخر، بعد مرحلة عصيبة ("عبور الصحراء" كما يقول الفرنسيون) مر بها باسيل إبان انتفاضة 2019، وتراجع شعبية حزبه في الانتخابات النيابية الأخيرة، وانتهاء عهد صهره ببلد منكوب، بالإضافة إلى تخلخل العلاقة مع حليفه الأساسي (حزب اللّه) بسبب ملف رئاسة الجمهورية، لا سيما ترشيح الثنائي الشيعي لسليمان فرنجية وليس باسيل، ها هو صهر العهد البائد يصبح من جديد ضابط الإيقاع في الشارع المسيحي، مما سوف يخوله للعب أدوار كبيرة على مستوى كل لبنان، لا سيما فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية.
صحتين على قلبه..
ونعيماً "للأغبياء المفيدين" من كل الطوائف، كما يقول اللبنانيون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.