تخيلوا معي السجناء داخل الزنزانة يُعِدّون العدة لاستقبال شهر رمضان للسنة الثامنة أو التاسعة أو العاشرة، مُحملين بآمال أن يستقبلهم هذا الشهر بكرمه فيعفو عن ذنوبهم وخطاياهم التي ارتكبوها.. ألم يدعُ إلى الحُرية؟!
تلك الخطيئة التي دفعوا من ثمنها سنوات عديدة داخل السجن حتى أصبح كثير من السجناء لا يحصون عدد السنوات التي سُرِقتْ من عُمرهم بينما أجسادهم تلتهمها الجُدران.
الاَن ترتفع الأيادي عالياً في صلاة القيام دُعاءً للخروج للحرية، ويسجد من يسجد مُناجياً الله بأن الكيل فاض؛ فمنهم من يدعوه باكياً، ومنهم من يُحدّث نفسه قائلاً: ألَيْسَ الصُبْحُ بِقَرِيبٍ.
دائرة الانتظار
يحيا السجين داخل دائرة من الانتظار التي تُحاوطه منذ خطواته المُكبلة الأولى في المُعتقل. الانتظار هو ظل السجين ودقات عقارب حياته، وهو الحقيقة الأولى التي نشعُر بها ونُعاني منها ونتحملها ونصبر عليها؛ أملاً في حلمٍ مُبتغى أو وعدٍ منشود. وبعد مرور مزيد من الوقتِ يُصبح الانتظار شبيهاً بانتظار أهل غرناطة للمددِ والعونِ ضد القشتاليين، فتُفصح عين السجين وضمن ذلك روحه من تساؤل عن متى يأتي المدد؟ وأين هم كي يُطلقوا سراحي من هذا المكان الذي تخبو فيه روحي؟
"قد تأتينا النجدة.. انتظرناها مئة عام"
فعقارب السجين تسير في خُطاها لا يُوقفها إلا من خلقها، حينها يصير الشعر الأسود أبيض، ويتغذى الانتظار على الروح التي تخبو كشمسٍ هزمتها الغيوم.
الاَن ينتظر السجناء إطلاق سراحهم تحت وعودٍ كثيرة ومُستمرة بالانفراجة التي يتحدث عنها العديد ولكننا لا نراها، كأن المُتحدثين عنها هم فقط القادرون على رؤيتها..
الاَن ينتظرون رمضان، وإن رحل رمضان، فالعيد قادم، وإن ذهب العيد، فتحرير سيناء ونصر أكتوبر قادمان، حتى يأتي يناير/كانون الثاني من كُل عام فترتفع الآمال، ويستمر الحال على هذا الحال حتى يأتي رمضان في السنة المُقبلة، ونحن ما زلنا في دائرة الانتظار..
بينما أحدثكم الاَن تتهامس الألسن وتنطلق الجدران بالإشاعات حول خروج قوائم مُرتقبة من المحبوسين في رمضان؛ تلك العادة السائدة كما عاهدتها دائماً. ففي هذه الأيام يبدأ قطاع أمن الدولة بالسجون في تجديد الأمل في نفوس السجناء تحت وعود زائفة من الإفراجات والعفو الرئاسي لترويض السجناء والسيطرة على أفعالهم.
ويبدأ ضباط أمن الدولة في إطلاق جرذانهم من المرشدين لِبث هذه الأنباء كأنها حقائق، فتنتشر في ربوع الأسوار والزنازين، وتنطلق أفواه بعض السجناء الحالمين بإطلاق سراحهم في الحديث عن هذه الأخبار كأنها قريبة الحدوث، ويتطوع سجين خبير عليم ببواطن الأمور بنشر أخبار العفو القادم وأنه لاَت لا محالة، حينئذٍ تتهاوى الجُدران ويسرح السجين في ملكوت عالمٍ اَخر؛ عالم مُبهج تُظلله أضواء وزينة رمضان وسط أسرته التي تحاوطه على طبلية واحدة انتظاراً لمدفع الإفطار وانطلاق أذان المغرب بصوت الشيخ رفعت.
ومع صَيْرورة الأحداث، تتحرك عين السجين مُسرعًة كشريط سينمائي يدور بأقصى طاقته كي يختلق العديد من الصور والمشاهد الرمضانية الخارجية لتمد جسراً من الذكريات لإخراجها بحبكاتٍ جديدة، كأنها تؤذن باقتراب أحداث نهاية هذا العالم، فتمرق المشاهد مُسرعًة في عقله وتتسارع ضربات قلبه، حينها يأتي المسحَّراتي حاملاً طبلته مُنادياً:
"اصحى يا نايم اصحى وحّد الدايم
وقول نويت بكره إن حييت
الشهر صايم والفجر قايم
اصحى يا نايم وحّد الرزاق
رمضان كريم"
ثم يخبو صوت المسحراتي شيئاً فشيئاً ويذهب بعيداً، وتتلاشى التفاصيل تحت وقع هزاتٍ لسجين اَخر مُقتحماً عالم رفيقه النائم؛ مُنادياً عليه أن يصحو لتناول السحور لاقتراب أذان الفجر، حينها يُدرك أن هذا العالم المبهج الذي تشع فيه نور الحرية ولملمة شتات الأهل وأضواء رمضان ما هو إلا عالم نسجه خياله تحت تأثير وعود اقتراب الحرية في رمضان.
رمضان في السجن يُعد حالة فريدة أمام كل سجين تعايش معها؛ فهي حالة من الصراع والأمل، الصراع في كونك مُقيد الحرية واشتياقك لاستنشاق نسمات رمضان، في الوقت الذي تتشبث فيه برياح الأمل القادم في ظلال رمضان.
"الأمل شيء جيد، ربما يكون أفضل شيء في الحياة، والأشياء الجيدة لا تموت أبداً.. الأمل شيء خطير.. من الممكن أن يقود الإنسان للجنون"
– مورغان فريمان، فيلم الخلاص من شاوشانك
كان ذلك حالي، لقد انتظرت رمضان كثيراً ومعي اَلاف اَخرون، ومرت بي بضعة شهور رمضانية مُتعاقبة دون أن يحمل معه باباً مفتوحاً لي، لكنه أحياناً يفتح بابه للسجين، والسجناء الاَن في انتظاره.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.