منذ مارس الماضي، مع بدء مصر اتباع سياسة تحرير سعر الصرف، نتيجة ضعف السيولة الأجنبية بعد سحب المستثمرين عشرات المليارات من الأموال الساخنة على إثر الحرب الروسية، منذ ذلك الحين خفّضت مصر عملتها عدة مرات في سلسلة من التخفيضات المتتالية، ليكون الجنيه المصري قد فقد أكثر من نصف قيمته خلال مدة عام.
وبعد أن كان سعره 15.6 جنيه لكل دولار في مارس، يتخطى سعره في اللحظة الحالية 30.90 جنيه مقابل كل دولار. وهو ما جعل العملة المصرية هي الأسوأ أداءً في العالم.
وتعددت الأسباب التي دفعت العملة المصرية نحو الانخفاض المستمر، وتضع عليها المزيد من الضغوط، وأهمها أزمة نقص الدولار الخانقة التي يعانيها الاقتصاد المصري، والتي ألقت بظلالها على تباطؤ نمو القطاع الخاص نتيجة رفع سعر الفائدة، ووضع قيود على الاستيراد، وتكدس البضائع في الموانئ، وتعطيل الإنتاج.
مع ارتفاع مؤشر التضخم الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تخطى 40%، وبالإضافة إلى السوق السوداء التي تحرم الدولة من مصادر الدخل الأجنبي، ويجري تداول الدولار فيها بسعر مبالغ فيه، تصل قيمته في الوقت الحالي إلى 36 جنيهاً، وهو ما يجعل الحكومة المصرية تتجه نحو تخفيض العملة في محاولة للحاق بأسعاره في السوق الموازي.
كل ذلك أسهم في هبوط الجنيه المصري إلى أدنى مستوياته، وفي هذه المقالة سنتناول ما يمكن أن يُعتبر أحد أسباب انخفاض قيمة الجنيه المصري في الفترة الأخيرة، وأحد أهم المؤشرات التي تضطلع بدور أساسي في تقييم العملة وتحديد سعرها، استناداً إلى حالة عدم اليقين التي تواجه الاقتصاد المصري، وهو مؤشر "العقود الآجلة غير القابلة للتسليم" بين الشركات.
علاقة العقود الآجلة بانخفاض الجنيه
في الفترة الأخيرة ركزت وسائل الإعلام المعنية بالشأن الاقتصادي المصري، على التوقعات المتشائمة لخمسة بنوك عالمية، وهي "كريدي سويس، بي إن بي باريبيا، سوسيتيه جنرال، إم يو إف جي، جيه يي مورغان"، والتي أجمعت على أن العملة المصرية تنتظر مزيداً من التراجع خلال الفترة المقبلة.
واختلفت تقديراتها بمقدار التراجع، ولكنها استندت بشكل أساسي في توقعها إلى تعاملات العقود الآجلة غير القابلة للتسليم، والتي تضع الدولار عند سعر 35 جنيهاً على المدى القصير، ما يعني انخفاض سعر الجنيه بحوالي 16% عن قيمته. أما على المدى الطويل لمدة 12 شهراً، فقد تراجعت العملة المصرية في العقود الآجلة، لتسجل ما يتراوح بين 38 جنيهاً و40 جنيهاً للدولار، بحسب بيانات وكالة "بلومبرغ".
وفي ظل استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري إلى مستويات قياسية بالعقود الآجلة غير القابلة للتسليم، وزيادة التركيز على متابعة أسعار هذه العقود، فقد تكاثر الحديث عن حقيقة وواقع هذه العقود ومدى تأثيرها على قيمة الجنيه خلال الفترة الحالية.
ما هي العقود الآجلة، وكيف تُسهم في انخفاض الجنيه؟
العقود الآجلة هي عقود مالية مشتقة تتم بين طرفين، حيث يحدد كل طرف تاريخاً وسعراً مستقبليين، ويجب على المشتري الشراء، أو يجب على البائع بيع الأصل الأساسي بالسعر المحدد، بغض النظر عن سعر السوق أثناء تاريخ الانتهاء، حيث يضع كل طرف رهانه في العقود على السعر الذي سيصل إليه الجنيه المصري بعد عام من تاريخ توقيعه.
ولهذا السبب تُدعى آجلة، أي لا تحدث عاجلاً، وتستخدم للتحوط وتقليل الخسارة عندما يجد البائع مؤشرات على أن سعر العملة سيقل في المستقبل، كما أن تحديد السعر مقدماً يجعل الطرفين على جانبي العقد أقل عرضة للتقلبات.
كما أن لها استخداماً آخر غير تقليل الخسارة، حيث يمكن أن تستخدم للمضاربة بهدف تحقيق سعر أعلى، عند العلم أن العملة ستنخفض قيمتها في المستقبل، وعلى سبيل المثال، إذا وقّعت شركة على عقد آجل بسعر 40 جنيهاً للدولار الواحد، وبعد مرور العام كان سعر الدولار 45 جنيهاً، يُسهم هذا التغيّر في سعر الصرف واتجاهه نحو الارتفاع في تحقيق الشركة أرباحاً ضخمة، وعلى العكس إذا انخفض دون الـ40 فلن تحقق الشركة أي أرباح. وهو ما يجعل هناك مخاوف من الضرر الذي يمكن أن تسببه هذه الآلية داخل الاقتصاد المصري، في ظل المخاطر التي تحيط به من كل الجهات.
ما الذي تستند إليه العقود الآجلة في توقعاتها؟
عادة ما تقوم الشركات والبنوك الاستثمارية وصناديق التحوط العالمية باستخدام العقود الآجلة، عندما تواجه العملة تقلبات في أسعارها، ويكون السعر المستقبلي المتفق عليه بين الطرفين هو وسيلة حماية الأرباح والاستثمارات. ويحدث هذا في حالة العملات غير المحررة بشكل كامل، أو عندما تواجه أزمة ما، وتكون مُعرضة للتقلبات بفعل الفجوة بين السعر الرسمي والسعر بالسوق السوداء.
ما يجعلها مؤشراً على سعر العملة في المستقبل، وذلك لأن المضاربات على قيمتها في المستقبل تكون مبنية على المخاطر التي تواجه هذه العملة، وضعف الثقة وعدم اليقين بشأن مستقبلها. ويضطر البنك المركزي غالباً إلى تخفيض العملة لسد الفجوة بين السعر الرسمي والآجل لمنع المضاربات على العملة.
وبحسب الباحث الاقتصادي مجدي عبد الهادي فإن "العقود الآجلة بمثابة توقع مُرجع لا غير، ولكن تكمن المشكلة الرئيسية في أن التوقعات في الاقتصاد عادة ما تحقق ذاتها"، وفي ظل الأزمة التي يعانيها الاقتصاد، والتضخم المتوقع، وتزايد الضغوط على الجنيه في الآونة الأخيرة، كل هذه الأسباب تجعل التوقعات تتحقق بسهولة، رغم أنها غير مبنية على معطيات فعلية، وإنما هي توقعات مبنية على حالة ضعف الثقة.
إذاً فإن توقعات العقود الآجلة غير القابلة للتسليم قد تجعل الجنيه المصري مقوماً بأقل من قيمته الحقيقية، وتحول التوقعات إلى حقيقة قائمة، وتدفع البنك المركزي إلى تخفيض قيمة العملة عند نسبة قريبة من هذه التوقعات، وهو ما يؤدي للدخول في دوامة من تخفيض قيمة العملة وارتفاع التضخم.
أسباب انخفاض الجنيه في العقود الآجلة
تعود أسباب ضعف ثقة الأسواق في العملة المصرية إلى التحديات التي يواجهها القطاع الخاص المصري، من استمرار مستويات الانكماش في الإنتاج، مع التراجع بوتيرة حادة خلال العام المالي الحالي، إذ تعاني الأسواق من ضعف معدلات الطلب من قبل المستهلكين في ظل ارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى القيود الموضوعة على الاستيراد ونقص العملات الأجنبية، وتحديات سلاسل التوريد.
بالإضافة إلى فشل الأدوات التي يستخدمها البنك المركزي في تحقيق استقرار في سوق الصرف، مع صعوبة اجتذاب الاستثمارات الأجنبية نحو السوق المحلي، بسبب تخوف المستثمرين من الأزمة الاقتصادية، وانخفاض حجم الأعمال نتيجة صعوبة الحصول على الواردات وأدوات الإنتاج. وفي ظل فشل سعي الحكومة لجذب تدفقات مالية من العملة الصعبة، وتأخر صفقات بيع الأصول المصرية، التي كان من المتوقع أن تُنعش خزائن الدولة وتُعينها على تلبية احتياجاتها، وحل أزمة شُح العملة الصعبة.
وفي الوقت الذي تتسع فيه الفجوة بين السعر الرسمي والسعر في العقود الآجلة والسوق الموازي، مع مراهنة الأسواق على انخفاض الجنيه، كل ذلك يزيد من الضغوطات التي يواجهها الاقتصاد المصري بفعل نقص العملة، وإحجام أسواق الديون عن القدوم، وهو ما سبق أن حدث في مارس وأكتوبر من العام الماضي، ويناير من العام الجاري، واستدعى حينها تخفيضاً جديداً في قيمة الجنيه لتقليل هذه الفجوة.
توقعات سعر الجنيه في الفترة المقبلة
ينتظر الجميع اتجاه لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي لرفع سعر الفائدة خلال الاجتماع المقبل، في 30 مارس الجاري، وهو ما قد يؤثر سلباً على معدلات النمو، وسيرفع تكلفة التمويل العام، ويؤثر على مستويات الدين العام المرتفعة بالفعل.
وأفادت عدة تقارير حديثة أن الجنيه ينتظر المزيد من التراجع، ويتوقع بنك "إتش إس بي سي" أن الدولار سيصل لمستويات الـ35-40 جنيهاً خلال الأشهر القادمة. وأنه قد يصل إلى مستويات 37.5 جنيه كسعر متوسط خلال العام الحالي، بعد أن كان يتوقع في يناير الماضي أن يصل متوسط سعر صرف الدولار إلى 32.5 جنيه.
فيما تتوقع وكالة "فيتش" أن يصل سعر صرف الجنيه أمام الدولار إلى 30 جنيهاً بنهاية العام الحالي، وذلك بعد أن ينخفض إلى 33 جنيهاً خلال الأسابيع القادمة. وترى الوكالة أن تراجع الجنيه هو الحل العملي لسد فجوة التمويل الخارجية التي تعاني منها مصر.
وأرجأت وكالة التصنيف الائتماني توقعها بارتفاع الجنيه بنهاية العام، بعد انخفاضه إلى 33 إلى العديد من العوامل، أبرزها قيام الدولة بالإسراع في بيع الأصول المملوكة لها، ما سيعني زيادة تدفقات العملات الأجنبية، وتنتظر تلك الدول مزيداً من الوضوح بشأن مسار الجنيه المصري، وتأكيدات بأن الحكومة تُجري إصلاحات اقتصادية عميقة قبل ضخ استثمارات في أسواقها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.