تحت عنوان "الحياة شيء بسيط، ولكنها قاسية"، يروي رجل المخابرات الروسي قصة نجاة أمه "بوتينا"، حيث ذكر أن النازيين قد شنوا هجومًا على مدينتهم الصغيرة التي يقطنون فيها وقد أخذوا كل أخوات أمه إلى ساحة المعركة، وكان الوالد في المستشفى مصاباً؛ حيث لم يعد هناك من يعينها فأغشي عليها من الجوع وظنوا أنها ماتت، حيث قاموا بوضعها بين الجثث المعدة للدفن الجماعي في المدينة، لكنها بعد دقائق أصدرت صوتًا ونجت، وتم نقلها إلى المستشفى.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ونجاة الزوجين وُلد "فلاديمير" 1953، وقد نال نصيبه من الفقر وكان ينام داخل سلة الغسيل، لأنه لم يكن هناك أسره في البيت، ولكن هو القدر أن تموت "بوتينا" عام 1998 بمرض السرطان، ولم ترَ ابنها رئيسًا يحرك جيوشًا ويملك مفاتيح الترسانة النووية، ومؤثراً في تغيير مجرى الأحداث في العالم.
إنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تروي إحدى مُدرّساته "فيرا غوريفيتش" أن فلاديمير ابن الـ14 عامًا قال إن البعض "لا يفهم إلّا بالقوة" بعد أن كسر رِجل زميل له.
لست هنا لتمجيد الأشخاص ولا لأبرر أفعاله ولا أرى في الغزو الأوكراني مبرراً على الإطلاق، وإنما هي قصة أردت ذكرها لأطرق جانباً من شخصية هذا الرجل، الذي أعاد فتح باب العالم الذي أغلق بمفاتيح القطب الأحادي الذي ترأسه الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة عام 1992، معلناً أن العالم بات من الضروري عليه أن يعيد قراءة القواعد التي تحكمه، وأنه ليس من الطبيعي أن تبقى أمريكا وحدها من تضع تلك القواعد.
الرئيس الروسي بوتين إلى جانب حياته الاجتماعية المليئة بالأحداث له محطات مهمة في مشواره المهني والسياسي أيضاً، رسخت في ذهنه أفكاراً ومعتقدات تترجم عملياً في الساحات الدولية والداخلية؛ حيث إنه في عام 1975 انضم بوتين إلى لجنة أمن الدولة ثم في مديرية مكافحة التجسس، ومراقبة الأجانب والمسؤولين القنصليين في لينينغراد.
ثم أصبح عضواً في الاستخبارات السوفييتية "كيه جي بي" سابقاً عام 1985، ثم عُين أميناً لمجلس الأمن القومي في الاتحاد الروسي، ورئيساً للوزراء عام 1999 وبعد تنحي الرئيس "بوريس يلتسن" تولى مهام رئيس روسيا الاتحادية بالوكالة.
وفي عام 2000 فاز بانتخابات الرئاسة في الجولة الأولى بنسبة 53% من الأصوات، كل هذا التدرج في المهمات والمسؤوليات له الأثر البالغ في صقل شخصية الرئيس بوتين التي تظهر اليوم.
الملاحظ في حكم الرئيس الروسي بوتين أنه يعتمد على مقاربات فكرية وأسس أيديولوجية في إدارة حكمه حسب المتتبعين؛ إذ يرى الكاتب "سايمون ديسدَيل" في مقال له بصحيفة الغارديان البريطانية 2011 "أن عودة بوتين للرئاسة تعني أنه سيظل في هذا المنصب حتى عام 2024 وسيكون هدفه الأساسي إقامة الإمبراطورية الروسية الثالثة بعد روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي".
على الرغم من نفي بوتين للوصف السابق، فإن سلوكه المتنامي تجاه دول الاتحاد السوفييتي سابقاً يشير إلى هذه النظرة التي تحمل مسمى قومية الدولة العظمى التي أشار إليها الدكتور عزمي بشارة في ختام دراسته بعنوان: "روسيا وأوكرانيا وحلف الناتو" الصادرة بتاريخ 27 فبراير 2022 والمتعلقة بالوضع في أوكرانيا.
دماغ بوتين والنظرية الرابعة
إن نظرة الحنين إلى الماضي هي التي يمكن تصديقها من قبل الأغلبية من متابعي الشأن الروسي، وذلك لاستعادة الدور التاريخي للإمبراطورية القيصرية مع تعديلات في حاضر تسيير شؤون الدولة التي تنبني على مقاربات فكرية مختلفة عن الاتحاد السوفييتي السابق.
بهذا الصدد فإن الرئيس الروسي من خلال بعض التحليلات نجده يعتمد بشكل أساسي على المقاربات الفلسفية والسياسية والنظريات الاستراتيجية لتأطير خططه وطرح مشروعه المجابه للأحادية الأمريكية والتوغل والنفوذ الغربي الليبرالي عموماً الذي يقوض ويحد من قوة روسيا، ويشلها في بعض الأحيان وفي بعض المناطق من العالم.
ما سبق دعا "بوتين" للاعتماد على بعض المفكرين الروس وعلى رأسهم الفيلسوف "ألكسندر دوغين" الذي يعتبره البعض عقل بوتين وهو الداعم والمؤيد له منذ توليه لرئاسة روسيا بعد إسقاط الرئيس الروسي الأسبق "بوريس يلتسين" على إثر الانتفاضة الشعبية التي شارك فيها "دوغين".
حيث كان يرى "دوغين" في حكم الرئيس الروسي الأسبق "يلتسن" شمولياً سلطوياً، وأنه كان سبباً في سقوط الاتحاد السوفييتي في اعتماده على "حضارة اليابسة" في مقابل حضارة البحر والأطلسي التي عمل عليها الأمريكيون والأوروبيون على حد سواء، وليس بسبب الحرب الباردة.
على هذا النحو من الفكرة، فإن الفيلسوف الروسي "ألكسندر دوغين" قدم أطروحته ضمن كتابه "الخلاص من الغرب الأوراسية: الحضارات الأرضية في مقابل الحضارات البحرية والأطلسية"، والتي جاءت تأسيساً للنظرية الأوراسية الجديدة، أو بما سماها النظرية الرابعة التي تجعل من الأوراسية المفهوم القديم منطلقاً لها.
النظرية الرابعة لـ"ألكسندر دوغين" تشتمل على أوروبا وآسيا والحضارات الأربع "الروسية والصينية والهندية والإيرانية"، والتي يرى أنها تقوم بصراع أبدي مع الحضارات البحرية والأطلسية، مثل بريطانيا وفرنسا قديماً وأمريكا كحضارة مدخلة حديثاً في الصراع.
تقوم النظرية على تمسك شعوب المنطقة بقيمها، وتحافظ على القديم والديني "الروحاني" كما يسميه، لتقاوم قيم الحضارات الغربية والأفكار الليبرالية والحداثة.
النظرية الرابعة تتكون من خليط بين العديد من الأفكار والأيديولوجيات لتشغل الفراغ التاريخي والاجتماعي والفكري وفي مقاومة أحادية القطبية الأمريكية، ومن هنا فإنه لا غرابة حينما تجتمع الفلسفات غير المتجانسة لتحل محل النازية والشيوعية والليبرالية كأنظمة فاشلة في تلك المناطق، كما يصفها.
هكذا يرى ويضع "ألكسندر دوغين" هوية النظام السياسي الروسي ويبرر منطلقاته بالعديد من الأسس، ويضع إطاراً خارجاً عن الشيوعية والليبرالية والفاشية.
هذه النظرية جاءت على لسان الرئيس الروسي "بوتين" التي ألقاها عام 2007 في مؤتمر ميونيخ، حيث طالب بعالم أكثر عدالة ومساواة، وفيه فرص متكافئة لجميع البشر، ومن غير زيف ما يمكن أن يطلق عليه "القطب الواحد المتشدق بالنظام العالمي الوهمي الجديد".
للمفكر الروسى "دوغين" قراءات سياسية عديدة تنطلق من قواعد الجغرافيا، منها ما تعلق بسوريا حيث يرى أن سقوط نظام بشار الأسد سيولّد انهيارات متتابعة، ما يُطلق عليه "نظرية أحجار الدومينو في الشرق الأوسط"، وأنه ستكون مقدمة للفوضى تعم وسط العالم، حيث برر تقديم الدعم العسكري الروسي إلى سوريا بأنه فعل جيوسياسي لأوراسيا.
كما يرى أن تنظيم "داعش"، هو "منتج أمريكي" يشكل خطراً وجودياً على روسيا، وأنه بهذا الدعم ستتمكن روسيا من احتواء ما خلقته الولايات المتحدة ودعمته من إرهاب في سوريا الذي سينتقل حتماً إلى حدود روسيا، ومن ثم إلى أراضيها، الأمر الذي يبطل الطرح الأوراسي.
الجغرافيا ودوغين
وهذا أيضاً كادت المستشارة الألمانية السابقة ميركل تتبناه عبر خط "نورد ستريم 2" 2015، قبل أن تضع واشنطن العصا في الدولاب كما يرى دوغين.
تبدو أيضاً قراءة "دوغين" في جورجيا قد نفذت والحرب في أوكرانيا هي إحدى أكبر المحطات في مشروع دوغين التي تحقق استشرافه الذي جاءت بـ "أنه لا يوجد سوى حل واحد لهذا الوضع وهو تقسيم أوكرانيا إلى قسمين، مع الاعتراف بالسيادة لكل النصفين الضفة اليمنى الغربية لأوكرانيا، والشرقية لروسيا، مع وضع خاص لكييف".
هذا الرجل الذي قال ذات مناسبة إن "العالم أقرب الآن إلى الحرب العالمية الثالثة من أي وقت مضى" يجمع الدارسين للسياسات الروسية منذ سنة 2000 على أنه من أبرز المنظرين السياسيين في روسيا، وأن له تأثيراً على النخبة السياسية الحاكمة في روسيا.
كما يراه البعض أنه "عقل بوتين السياسي" الذي باتت أفكاره ونظرياته تشكل تحدياً جدياً للمعايير الليبرالية السائدة عند الغرب وتدعم الديانة الأرثوذكسية، ولذا فإن الأوراسية الجديدة، في الواقع هي أيديولوجية معادية للغرب تعزز فكرة "الإمبراطورية الأوراسية" التي تجد قوتها في التكامل بين المحاور البرية الأورو-أفريقية والعربية بزعامة روسيا إلى جانب الحزام الأوراسي ومثيله الباسيفيكي والتي تحد من هيمنة القطب الأمريكي.
روسيا والشرق الأوسط
يرى "ألكسندر دوغين" منظر السياسة الروسية البوتينية أن انتصار روسيا في الشرق الأوسط التي تشكل نقطة صدام جيوسياسي مع أمريكا يجب أن يكون حتمياً على الرغم من وجود تحديات تعيق ذلك الانتصار الذي هو امتداد للمشروع الأوراسي في المنطقة، من أهمها المضمون القومي للمشروع العربي، والثاني الذي هو الأصعب في تقدير دوغين هو المنطلق الإسلامي، ورغبة بعض الحركات الإسلامية في إقامة دولة الخلافة الإسلامية.
من خلال ما تقدم نجد ألكسندر دوغين العقل المدبر للسياسة الخارجية لروسيا الذي يعتبر على شاكلة ونمط نعوم تشومسكي أو هنري ألفريد كيسنجر بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية أن مقاربته الفلسفية تقوم على بعد أيديولوجي مختلف وجغرافي ممتد لمواجهة الهيمنة الأمريكية التي تقود الأحادية القطبية وهي مقاربة تستشرف المستقبل بتصحيح الماضي "المستقبل في الماضي".
إن هذه المقاربة جاءت متأثرة بدورها بالعديد من الفلسفات والنظريات السابقة التي تعد أرضية للنظرية الرابعة التي طرحها دوغين منها في "فلسفة اللامساواة" التي تتلخص في عنوان كتاب الفيلسوف "نيكولاي بردياييف" الذي طلب الرئيس الروسي في عام 2014 من كبار موظفي الدولة قراءته.
الجدير بالقول كخلاصة في هذا المقام أن الأنظمة التي تريد أن تبقى على نفوذها وتبحث عن دور قيادي في العالم تعي جيداً أن امتلاك أسباب القوة والنفوذ له معاييره وأدواته الممهدة لتجسيد أي مشروع وعلى رأس كل ذلك هو العلم والفهم الصحيح الشامل والابتعاد عن النمطية والتبعية أو تبعية التبعية كما يسميها الفيلسوف التونسي "أبو يعرب المرزوقي" في تصنيف القوى الدولية وترتيبها على محاور الصراع الحالية التي لا يمكن باعتقادي تتحملها الدول التي تصطف وراء رأس الصراع وبالنتيجة تكون هدفاً سهلاً.
كما أن نظرية دوغين باعتقادي ما زال الوقت مبكراً على تصديقها فالمحور الأوراسي بعد حرب أوكرانيا تخللته تشققات ضيقة، وأن روسيا لا تعتبر على رأس الصراع الكبير، وإنما تأتي تابعاً للصين من منظور أولويات أمريكا وبذلك لا أحد يقبل بجهل أمريكا فيما ترمي إليه روسيا ولا أحد يقبل بسهولة على أن أمريكا ترى في روسيا تهديداً وجودياً؛ بل هي تابع للصين الذي يهدد استمرار الولايات المتحدة الأمريكية.
بذلك فكل صراع باعتقادي خارج عن رأس المحور الصيني هي مقدمات وأحداث تسبق الفعل الأساسي في الصراع وتحول العلاقات الدولية، ولذلك من سلامة التفكير في تقديري التريث من منطق أن نرى بعين الحذر لكل المجريات منها تباطؤ أمريكا فيما يجري على الأرض الأوكرانية التي نخشى أن تكون شبيهة لأفغانستان.
كذلك السماح بتقارب محاور طالما كانت مستعدة كالتصالح السعودي الإيراني، والتي كانت جزءاً منه، كما أنه من الوجوب أن تقرأ كل الفلسفات والنظريات التي تشكل وقوداً للصراع وروحاً له حتى تتبين الخارطة الكبرى التي ترسم مواطن الضعف والقوة في هذا العالم الذي لا يراعي إلا لمنطق القوة والمصالح غير المتكافئة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.