يلملم لبنان جروحه العميقة ويمسح عن وجهه نكساته التي تراكمت منذ 2019، فمن الثورة، مروراً بانفجار المرفأ، فالأزمة الاقتصادية وضياع الليرة.
ويأبى اللبناني إلا أن يتغافل عن نوائبه المتلاحقة ويستقبل رمضان برحابة صدرٍ كعادته، وإن تبدّلت الأساليب نتيجة الأزمة، رغم سنوات عجاف ثقال أنهكت صدور اللبنانيين وأتعبتهم.
تغيرت مع تلك السنوات الكثير من العادات والتقاليد وتبدلت معها معيشة اللبناني وأولوياته والكثير من سلوكياته.
بات يخفي اللبناني جراحه خلف ابتسامة يصنعها بثقل، لكن لعادات رمضان حكاية أخرى ومعادلة حسابية خاصة يعمل اللبنانيون جاهدين على الحفاظ عليها، رغم الحاجة والعوز، فنسائم رمضان تفوح على لبنان، ذلك الشهر الذي ينتظره المسلمون بشوق، فهلال رمضان ليس هلالاً عادياً، ونفحاته ونسماته لن يفوتها اللبناني الطامع بالرحمة والبهجة.
لرمضان لذة خاصة عند المسلمين في بلاد الشام عامة، حيث تفنن أهل هذه المنطقة في استقباله والتعبير عن فرحتهم بقدومه؛ لما فيه من بركات وحسنات ومغفرة وعد الله بها عباده في هذا الشهر.
ففي لبنان، وفي مدينة صيدا خصوصاً، تبدأ مراسم استقبال الشهر من نصف شعبان؛ حيث يصنع الصيداويون نوعاً من الحلويات يُسمى "حلاوة النص"، والتي تزكم رائحتها أنوف الصيداويين والعابرين من المدينة الجنوبية، وتلون واجهات محال بيع الحلوى التي تزدحم عادة في مثل هذه الأيام بالمواطنين الذين يقبلون على شرائها كتقليد صيداوي ينبئ ببدء العدّ العكسي لموعد حلول شهر رمضان المبارك.
تلقى "حلاوة النص" أو "الجزرية"، وهي حلوى تُصنع من "اليقطين"، إقبالاً من المواطنين تمسكاً بهذا التقليد الديني الاجتماعي، واستعداداً لاستقبال رمضان المبارك، بينما يقبل عليها أصحاب محال الحلوى؛ لما فيها من ربح مادي، إذ إنها تُباع بكثافة لافتة في يوم محدد من العام، ولذلك ارتبط اسمها به، "حلاوة النصف من شعبان".
يستمرون بصناعتها حتى نهاية شهر رمضان؛ لتتحول في بقية أيام العام إلى حلوى عادية بين عشرات الأصناف التي تشتهر بها المدينة.
عملية التحضير لصنع "حلاوة النص"، أو "الجزرية"، تبدأ مع قطاف "اليقطين" في شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار من كل عام، ثم تخزن إلى الموعد المحدد، وتبقى سليمة من التلف ما لا يقل عن 8 أشهر بسبب قشرتها السميكة.
عند بدء الصناعة، يقشر اليقطين بواسطة منشار، ثم يقطع ويبرش بواسطة آلة كهربائية، وبعد خطوات عديدة وإغراقها بقطر الماء مع السكر، تُفرد قطع الجزرية البراقة في صوانٍ فضية أو ذهبية، ويتفنن البائعون في عرضها لتسرق أنظار المارين، فإن لم يجذبهم المنظر جذبتهم الرائحة الشهية، فتذكرهم بدورها بقدوم شهر رمضان.
يشتري اليوم اللبنانيون "حلاوة النص" بكميات قليلة جداً مع ارتفاع الأسعار، فمن كان يشتري لوالديه وبيته وإخوته في السنوات الماضية، بات بالكاد يشتري نصف كيلو لبيته فقط، ومنهم من يشتري أقل من ذلك، فالأسعار باتت جنونية والغاية هنا عدم نسيان هذا التقليد وتضييع المناسبة الجميلة.
هذا قبل قدوم شهر رمضان بأسبوعين، أما عن سبانة رمضان فقصة أخرى ترويها تجمعات الأهل والأصدقاء والجيران، فسبانة رمضان عادة متبعة في أغلب المدن اللبنانية، وعلى رأسها بيروت، ومن المرجح أن أصل كلمة "سبانة رمضان" هي "استبانة"، أي الرؤية والمقصود هنا رؤية هلال رمضان.
السبانة هي تقليد قديم يجتمع فيه أفراد العائلة في آخر أيام شهر شعبان، ويخرجون في لمة نحو الشاطئ أو المتنزهات لتناول ما لذ وطاب من الطعام، ويصحبون جزءاً منه من بيوتهم ويقضون وقتاً طويلاً في هذه التجمعات كوداع لأيام الإفطار، ويترافق الإعلان عن وصول رمضان بأجواء احتفالية شعبية يشهدها كثير من المدن والمناطق اللبنانية يشارك فيها الكبار والصغار، وتقام فيها العروض والمسابقات، وتطلقها فرق كشفية تجوب الأحياء عبر فرق موسيقية.
المطاعم بدورها والاستراحات تستغل هذه المناسبة لتدخل سباق "سبانة رمضان"، فتقدم عروضا على الطعام والحلويات والمأكولات بجميع أنواعها لاستقبال العائلات، سواء على الفطور أو الغداء والعشاء، فسبانة رمضان ليس لها وقت محدد من اليوم، وفي الغالب يكون التجمع طوال النهار.
ما زال حتى اليوم رغم الأزمة يجتمع الناس في "سبانة رمضان"، ولكن قلّت مظاهر الصرف والتنوع في الطعام والمطاعم، فاليوم أغلب التجمعات تكون في المنازل لاختصار تكاليف المنتزهات والشراء والمواصلات.
غابت اللحمة والدجاج وكثير من الأطباق التي أصبحت موادها غالية لا يقدر على تكاليفها الناس، فاستبدلوها بأطباق شعبية خفيفة، كلٌّ يحضر من بيته ما يستطيع من الطعام المهم أن يستمر إحياء هذه التجمعات، التي تكون مع العائلة حيناً أو مع الأصدقاء والجيران حيناً آخر.
من تقاليد رمضان أيضاً شراء الزينة والفوانيس، وهناك من يشتري عباءات خاصة، وتتزين الشوارع والحارات والبيوت بتلك الزينة والإضاءة، ناهيك عن انتشار ألعاب رمضانية. كل هذا من أجل نشر البهجة والفرح بقدوم الشهر الفضيل وتحضير النفوس والقلوب لاستقبال رحمات الله.
رغم الانهيار وانشغال اللبنانيين بسعر الصرف، وأزماتهم التي لا تنتهي، يحاول اللبنانيون التمسك بعاداتهم الرمضانية قدر المستطاع، يأتي رمضان هذه السنة، عله يفرج أسارير اللبناني، ويعينه على مصائبه، عله يكون باباً للتنفيس عن شهور كبيسة أحزنتهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.